تَحَدِّياتٌ شَرق أوسَطَيِّة ضاغِطة
الدكتور ناصيف حِتّي*
يبدو الشرق الاوسط وكأنّهُ على صفيحٍ ساخنٍ حيث ينتشرُ العديدُ من النقاطِ الساخنة على كافة مساحاته. في سوريا، الحربُ التي انفجرت وأدّت إلى مقتل حوالى ألف شخص، كما وَرَدَ في بعض التقارير الصحافية، تدلُّ على أنَّ السخونةَ ما زالت قائمة. هناك أسبابٌ داخلية مُتزايدة تتغذّى بدونِ شكٍّ لدرجةٍ مُعَيَّنة بعوامل خارجية تؤدّي إلى ما حصل. الجغرافيا السياسية لسوريا وموقعها قي قلب المشرق العربي والشرق الاوسط يزيدان من جاذبية البلاد للتنافس والصراع الدولي والإقليمي بأشكالٍ مختلفة كما ذكّرنا الصحافي البريطاني باتريك سيل في كتابه الشهير “الصراع حول سوريا”. يتغيّرُ اللاعبون ولا تتغيَّرُ اللعبة ولو أخذت أسماءً وعناوينَ مُختلفة.
أسئلة عدة مطروحة اليوم وأهمها: هل تسقط سوريا في حربٍ أهلية جديدة قد تكونُ محدودةً في الجغرافيا وفي قوة النيران لكنها تبقى حربًا بين هوياتٍ سياسية متقاتلة؟ هل تسقط سوريا في ما عُرِفَ بالماضي باللبننة أو الحروب اللبنانية؟ هل تتجه سوريا، كدرسٍ وعبرة لما حصل، ومواكبة أطرافٍ إقليمية فاعلة تحديدًا عربية وتركية نحو حلٍّ حسب النموذج اللبناني أو ما عُرفَ ب”اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب في لبنان؟ إجتماعُ دولِ الجوار يوم الاحد الفائت في عمّان، والاهتمامُ المُتزايدُ عربيًا بالوضع السوري قد يدفع في هذا الاتجاه. الرعايةُ والمبادرة والمواكبة مطلوبةٌ دائمًا من الأطراف الفاعلة حتى ينجحُ مسارٌ إنقاذي من هذا النوع. فانفجارُ سوريا يُصيبُ الجوار القريب والبعيد بشظاياه، لذلك لا نستبعد مبادرةً من هذا النوع تعملُ على بلورةِ نظامٍ ذات صفةٍ تمثيلية شاملة وواسعة على أساس ما يُعرَفُ بالديموقراطية التوافقية (ليست بعيدة من الحالة اللبنانية) قد توفّرُ الاستقرارَ المطلوب إلى أن ياتي اليوم الذي تُقامُ فيه الدولة المدنية. الدولة التي تقوم على المُواطَنة وليس على المحاصصة الهوياتية، أيًّا كانت أشكال هذه الأخيرة.
ماذا عن لبنان، حيث تستمرُّ الحربُ الإسرائيلية في مساحة وطبيعة أهدافها في لبنان ولو بدرجاتٍ متفاوتة؟ يُقالُ أنَّ ذلك يحظى بتفهُّمٍ أميركي للتخلُّصِ من مواقع ل”حزب الله” في مناطق استراتيجية، وإحداث القطيعة المطلوبة مع السيناريو الذي كان قائمًا بعد حرب ٢٠٠٦ وحتى حرب الإسناد. سيناريو كان يقوم على تفاهُمٍ غير مباشر بالطبع للحفاظ على التهدئة. المشكلة في لبنان أنَّ مساعدات إعادة الإعمار والإتيان بالاستثمار الضروري للتنمية والخروج من الحالة الكارثية التي يعيشها لبنان اقتصادًا ومالًا وسياسةً وإدارةً تستدعي إعادةَ بناءِ وتفعيلِ مؤسّسات الدولة، وإقامة ما يُعَرفُ، ليس كعنوان بل كواقع، بدولة القانون والمؤسسات، وهذه أيضًا مُرتبطة بالإصلاح الهيكلي المطلوب، وبإنهاء الحرب في الجنوب التي قد تعود كما يحذر الكثيرون … لبنانُ امامَ تحدٍّ مُزدَوِج يرتبطُ بُعداه الداخلي والخارجي بعلاقةٍ جدلية كما يُقال.
ماذا عن فلسطين؟ قرارُ القمة العربية حولَ دعمِ مشروعِ إعادةِ البناء المُقدَّم من مصر وإبقاء أهل غزة على أرضهم، وكذلك العودة للمطالبة بتنفيذِ حلِّ الدولتين أمرٌ أكثر من ضروري. ولكنَّ الجُزءَ الأخيرَ بحاجةٍ إلى أكثر من مناشدةٍ وتذكير، خصوصًا أنَّ ثلاثةَ أشهرٍ تقريبًا تفصلنا عن المؤتمر الدولي لحلِّ الدولتَين الذي يُعقَدُ برعايةٍ سعودية-فرنسية في نيويورك في حزيران (يونيو) المقبل. المطلوبُ في هذا المجال إطلاقُ تحرُّكٍ ديبلوماسي عربي رفيع المستوى (القادة العرب) نحو عواصم القرار المؤثّرة يشاركُ فيه زعماء الدول العربية ذات التأثير الكبير، بسبب شبكة المصالح المتنوّعة مع الدول الغربية بشكلٍ خاص، لحثّها على اتِّخاذِ الموقفِ المطلوب والفاعل والمؤثّر على إسرائيل بسبب علاقاتها مع هذه الأخيرة.
المطلوبُ أيضًا تفعيلُ ما يُعرَفُ ب”المسار الثاني” غير الرسمي الذي يضمُّ خبراءَ وصنّاع رأي وقرار لبلورة أفكار عملية توضَعُ أمام الموتمر المقبل وتُشكّلُ أيضًا في جُزءٍ أساسي منها خطّةَ عمل وخريطة طريق لولوجها نحو التوصُّل للحلِّ المطلوب. بالطبع ليس ذلك بالأمر السهل مع وجودِ أقصى اليمين الديني والاستراتيجي الإسرائيلي في السلطة، ولكن يجب بذل كافة الجهود في مبادراتٍ تحضيرية كما أشرنا لبلوغ ذلك الهدف. إسرائيل تُسَرِّعُ عملية ضمّ الضفة الغربية مما سيؤدي بطبيعة الأمور إلى انفجارٍ في الوَضعِ وخلقِ المزيدِ من العراقيل والعقبات أمام ولوجِ مسار الحل السلمي حسب القرارات الدولية ذات الصلة، إنها مسؤولية عربية أساسًا ولكنها دولية أيضًا لولوج باب الحلِّ الفعلي والتوجُّه نحو خلقِ شرقِ أوسطٍ جديد ما زال تحقيقه بعيدًا جدًا، لكنه يبقى أكثر من ضروري لمصلحة الأمن والاستقرار والتنمية والسلام في المنطقة.
هذه بعض التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط، وهي كثيرة لكن التعامل معها بنجاح رُغمَ صعوباتها أمرٌ أكثر من ضروري. ولنا حديثٌ في المرة المقبلة مع “لائحةٍ” من تحدياتٍ أخرى.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).