سيرة رنوار بريشته

هنري زغيب*
بعد مقالي في جُزءَين (“أَسواق العرب” 1 و 4 آذار/مارس الحالي) عن بول سيزان أَحد أَعلام الانطباعية وما تلاها، أُواصلُ الإِضاءة على الانطباعية الجميلة في لوحات مبدع فرنسي آخر: بيار أُوغست رُنوار (1841-1919) رائد الانطباعية في زمانه. تميَّزت لوحاته بالنور والأَلوان المشرقة الزاهية، ما غايَرَه عن معاصريه في الحركة الانطباعية الفرنسية. وكما لوحاته كانت تجسد الجمال برقشات مريحة، كذلك كانت حياتُه العائلية هانئةً مريحة.
في هذا المقال ملامح من سيرة رُنوار خلال لوحاته.

في المطالع
وُلد رُنوار في مدينة ليموج (جنوبي غربي وسط فرنسا)، لكن أُسرته انتقلت به إِلى باريس لأَن والده الخيَّاط وجد فيها سوقًا أَوسع لمهنته. في طفولته مال إِلى دراسة الموسيقى، لكنه اضطُرَّ إِلى مغادرة المدرسة ودروس الموسيقى كي يُسهم في مصروف الأُسرة ويَعمل في مصنع بورسلين (خزف). ولما كان قريبًا في متحف اللوفر، كان يتردَّد إِليه كلما سنَحت له الفرصة وتهيأَت له القدرة على شراء البطاقات للدخول إِليه.
بعد فترةٍ ترك العمل في المصنع، وانتسب إِلى معهد الفنون الجميلة ليتلقى المبادئ الأُولى في الرسم، ثم درس على شارل غْلير (1806-1874: رسام سويسري عاش في فرنسا وأَسَّس محترفًا خاصًا به، فتتلمذ عليه طلَّابٌ اشتهروا لاحقًا، وبينهم رُنوار). وفي ذاك المحترف تعرَّف رُنوار بزميلين: كلود مونيه (1840-1926) وأَلفرد سيسْلي (1839-1899). وبدأَ يعرض أَعماله في معرض باريس السنوي خلال ستينات القرن التاسع عشر، وكان مجهولًا مبتدئًا وفي ضائقة مالية صعبة. ولم يبدإِ اسمُه بالظهور إِلَّا سنة 1868. لكنه صُدم بتهمة الجاسوسية أُلْحِقَت به إِبان ثورة باريس (“الكومونة”) سنة 1871. وكاد يُعدَم مع الخَوَنة لولا تدخُّل الصحافي الثائر راوول ريغو الذي عرَّف به فنانًا لا علاقة له بالسياسية فعُفِيَ عنه. وجاء ذلك ردًّا للوفاء لأَن رُنوار سبق أَن ساعد على إِخفاء ريغو حين كانت تلاحقه السلطة الفرنسية.

حلبة الرقص في بوغيفال (1883)
بوغيفال ضاحية من باريس على نهر السين كان يلتقي فيها جمع من الباريسيين ونفر من الفنانين الانطباعيين. لذا وضع رُنوار هذه اللوحة مُظْهرًا فيها بأَلوان زاهية وجه الرسامة الفرنسية سوزان فالادون (1865-1938: أَول امرأَة تَقبَل عضويتَها الجمعيةُ الوطنية للفنون الجميلة)، وجعلَها في وسط اللوحة. وهو أَخفى عينَي الرجل مُراقِصِها الذي بدا مأْخوذًا بجمالها.

فصول من سيرته
سنة 1874 بدأَت حياة رُنوار تتغير. عامئذٍ اجتمع رنوار وسيسلي ومونيه وبيسارو ودوغا وسيزان وأَقاموا المعرض الانطباعي الأَول. لم يحقِّق حضورًا كثيفًا ولا بيعت منه لوحات عدة، فكان على رُنوار أَن يؤَمِّن معيشته من طلبات مَن يطلبون منه رسمهم، فنجح واتسعَت شهرته. أَخذ يرسم الطبيعة مناظرَ وأَشخاصًا، وكان المكانَ الأَحبَّ لديه للرسم ركنٌ عند ضفة نهر السين. ومن أَبرز ما رسم هناك سنة 1881: “الشقيقتان” و”غداء في القارب”. وهذه الأَخيرة من أَشهر لوحات رُنوار على الإِطلاق لِمَا فيها من حركة وجمود في آن: الطاولة جامدة، بينما مَن يحيطون بها هُم في حركة، وفي جو عام من الإِشراق والبهجة.
الابتعاد عن الانطباعية
في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أَخذ رُنوار يبتعد قليلًا عن الخط الانطباعي. سنة 1881 سافر إِلى الجزائر وإِيطاليا وإِسبانيا، وتعمَّق في الرسم الكلاسيكي، فراح يستخدم رُقشاتٍ أَهدأَ، ويرسم مشاهدَ فيها بعض الجرأة (كلوحته “نساء يَسْتَحمِمْنَ” 1910). وهكذا خرج إِلى أُسلوب جديد متأَثِّرًا جدًّا بالرسام الفرنسي المتجدِّد كلاسيكيًّا جان أُوغست دومينيك إِنغْر (1780-1867).

حياته الخاصة
سنة 1890 تزوَّج رُنوار من إِحدى السيدات الظاهرات في لوحته “غداء في القارب”: آلين فيكتورين شاريغو. ومن يومها راح يرسم أَكثر من لوحة لزوجته وأَطفاله، خصوصًا بعد التشخيص الطبي الذي بيَّن سنة 1892 أَنه مصاب بالتهاب المفاصل. ولاحقًا توزَّع أَبناؤُه الثلاثة على الفن في فروع مختلفة. لكن الأَشهر بينهم كان جان رُنوار (1894-1979) وهو نبَغ في فن السينما مخرجًا، حقَّقَ أَفلامًا (بينها “الوهم الكبير” 1937 و”قواعد اللعبة” 1939) جعلتْه أَحد أَبرز المخرجين السينمائيين الفرنسيين في القرن العشرين.
يمضي الجسد ويبقى الجمال
اشتدَّ على رنوار مرض التهاب المفاصل فقال يومًا: “الأَلم يمضي أَما الجمالُ فيبقى”. وفي سنواته الأَخيرة وضَع بعض المنحوتات، وتمتَّع بمشاهدة بعض لوحاته معلَّقةً في متحف اللوفر، إِلى أَن توفي سنة 1919 بنوبة قلبية حادَّة.
مضى رُنوار جسدًا، غير أَن لوحاته الموزَّعة على أَكبر متاحف العالم شاهدةٌ على عبقريته التشكيلية التي تجعل منه أَحد أَشهر الانطباعيين في العالم.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.