في خضَمِّ الاضطراباتِ الإقليمية، تركيا تَتَطَلَّعُ إلى الطاقة لتأمين الاستقلال الاستراتيجي
يعتقد المسؤولون الأتراك أنه ليس لديهم خيارٌ سوى أن يصبحوا مركزًا للطاقة. وهم يعتقدون أنه في خضمِّ الصراعِ بين البُلدان على القوّة والنفوذ في عالم اليوم غير المؤكَّد، فإنَّ الطاقة تُشكّلُ أهمّيةً بالغة مثل القوّتين الاقتصادية والعسكرية.

غونول تول*
أوضَحَت حالةُ عدمِ اليقينِ المُتزايدة في عالمٍ مُتعدِّد الأقطابِ بشكلٍ مُتزايد للعديدِ من الدول أنَّ الاستقلالَ الاستراتيجي ليس ترفًا بل ضرورة إذا كانت تُريدُ ضمان وتأمين مستقبلها بشروطها الخاصة. الأقلُّ وضوحًا هو كيفية تحقيق ذلك. لسنواتٍ عديدة، اعتقدَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنَّ جعلَ تركيا تعتمد على نفسها يعني أن تسيرَ بمُفردها. وفي حين كانت أنقرة تسعى إلى ما أسماه المسؤولون الأتراك “سياسةً خارجية وطنية حازمة”، فقد تسبّب ذلك في توتُّرِ العلاقات مع حلفائها الغربيين وشركائها في الشرق الأوسط، ما جعل تركيا ضعيفة للغاية لتحقيق أهدافها. الآن، يُدرِكُ أردوغان أنَّ الطريقَ إلى الاستقلال الاستراتيجي يتطلّبُ بناءَ الجسور مع الحلفاء والأعداء على حدٍّ سواء، وليس حرقها. ومن المجالات التي ستكون فيها هذه الغريزة المُكتَشَفة حديثًا لبناء التحالفات مفيدة هو قطاع الطاقة.
تُعَدُّ تركيا واحدة من الدول الأكثر استهلاكًا للطاقة في العالم، لكنها فقيرة بالموارد الطبيعية. وهي تعتمد على روسيا وجيرانٍ مثل العراق وإيران لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وهذا الاعتمادُ يخلق لها نقاطَ ضعف. وللتغلُّب على ذلك وتعزيز موقف أنقرة، سعى أردوغان إلى جَعلِ تركيا محورًا ومركزًا للطاقة، ورَبطِ منتجي الغاز الطبيعي في شرقها وجنوبها بالأسواق في الغرب. ويمنحُ الموقع الجغرافي والبنية التحتية لتركيا ميزةً في هذا الصدد، لكنَّ احتلالَ موقعٍ مُفيد لا يعفي أنقرة من الاضطرار إلى إزالة الغبار عن نهجِ سياستها الخارجية الذي وضعته منذ فترة طويلة: “صفر مشاكل مع الجيران” والغرب. وفي خضمِّ الديناميكيات الإقليمية المُتغيِّرة، ترى أنقرة فرصةً لتحقيق ذلك وإحياء خططها لتصبح مركزًا للطاقة.
سعي تركيا إلى الحكم الذاتي الاستراتيجي
سعى صنّاع السياسات الأتراك على الدوام إلى تحقيقِ سياسةٍ خارجية مستقلة. مع ذلك، خلالَ الانتفاضات العربية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت هذه السياسة المبدأَ التوجيهي لنهجِ حزب العدالة والتنمية الحاكم تجاه العالم. ولم تسعَ تركيا إلى الاستقلال عن الغرب فحسب، بل سعت أيضًا إلى اكتسابِ نفوذٍ أكبر في المنطقة. كما انتهجت سياسةً خارجية قوية ومن جانب واحد، حيث شنّت توغّلات عسكرية في سوريا، وأرسلت إمدادات عسكرية ومقاتلين إلى ليبيا، ونشرت بحريتها في شرق البحر الأبيض المتوسط لتأكيد المطالبات الإقليمية التركية، ووسّعت نطاق عملياتها العسكرية ضد مسلّحي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وبحلول العام 2020، أصبحت البصمة العسكرية التركية في المنطقة هي الأكثر اتساعًا منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.
كانت هذه السياسةُ الجديدة بعيدةً كلّ البُعد من التركيز التركي السابق على الديبلوماسية والتجارة والمشاركة الثقافية في علاقات البلاد الخارجية. لقد وضعت أنقرة نفسها في مواجهة الدول الإقليمية والحلفاء الغربيين وروسيا. ووصف المتحدّث باسم أردوغان عزلةَ تركيا بأنها “وحدة ثمينة”، لكنها في الواقع كانت محاولة فاشلة للحُكم الذاتي. إنَّ السياسات التي تهدفُ إلى جعل تركيا قوية ومستقلة إنتهت إلى تسليط الضوء على مدى اعتماد أنقرة على الآخرين لتحقيق أهدافها.
من ضحايا هذا النهج كان حلمُ أردوغان الطويل الأمد بتحويل تركيا إلى مركز ومحور للطاقة حيث لا يتمُّ نقلُ موارد الطاقة فحسب بل يتم شراؤها وبيعها أيضًا من قبل أطراف خارجية، ما يخلق اعتمادًا متبادلًا مع الدول الغربية والدول الإقليمية فضلًا عن تعزيز مكانة تركيا كقوةٍ إقليمية. لكن السياسة الخارجية العدوانية لأنقرة أعاقت الأمر وجعلت طموحاتها في مجال الطاقة مستحيلة التحقيق.
العراق -أحد أكبر مورِّدي النفط لتركيا، والذي يتمتع أيضًا باحتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي- هو أحد الأمثلة حيث أدّت سياسات أنقرة إلى توتر العلاقات الثنائية. في العام 2013، بدأت تركيا تسهيل وشراء صادرات النفط من حكومة إقليم كردستان العراق بدون موافقة بغداد، في انتهاكٍ لاتفاقية خط الأنابيب بين العراق وتركيا لعام 1973. كانت العلاقات أصلًا تحت الضغط بسبب العمليات العسكرية التركية عبر الحدود ضد مقرّ حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وكذلك المنافسة على النفوذ هناك مع إيران. بعدَ عامٍ، تقدّمَ العراقُ بطلبِ تحكيمٍ لدى غرفة التجارة الدولية في مقرها في باريس بشأن دور تركيا. حكمت الغرفة لصالح العراق وقررت أنَّ على تركيا دفع مبلغ 1.5 مليار دولار كتعويض. في نوبةٍ من الغضب، اختارت أنقرة وقف واردات النفط من العراق على أمل إجبار بغداد على التنصُّل من الحكم ووقف قضية ثانية أمام المحكمة الجنائية الدولية لا تزال قيد الإعداد. منذ ذلك الحين، عُلِّقَ الأمر في خضم النزاعات الداخلية في العراق بين الأكراد والحكومة المركزية، فضلًا عن التنافس الإقليمي بين تركيا والعراق وإيران. وكانت النتيجة انقطاع تدفّق النفط العراقي عبر تركيا لمدة عامين، ما أضرَّ بالجميع من الناحية الاقتصادية، لكنه أفاد بغداد وطهران سياسيًا.
وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي منطقةٌ أُخرى بالغةُ الأهمّية لطموحاتِ تركيا في مجال الطاقة، أدّت أخطاءُ السياسة الخارجية التي ارتكبتها أنقرة أيضًا إلى تشكيلِ جبهةٍ مُناهِضة لتركيا. فقد أدّى دعم تركيا للانتفاضات العربية، وخصوصًا اصطفافها مع الحركات الإسلامية مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، إلى توتُّرِ العلاقات مع القوى الإقليمية، مثل مصر، التي نظرت إلى الحركات باعتبارها تهديدات لأنظمتها. كما أدت التدخّلات العسكرية الأحادية الجانب التي شنّتها تركيا في سوريا، ثم في ليبيا لاحقًا، إلى جانب سياساتها الحازمة في شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى تفاقُم التوترات. وأثارت اتفاقيات الحدود البحرية التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، المُعترَف بها دوليًا ومقرها طرابلس، قلقَ اليونان وقبرص ومصر، التي رأت فيها تحدّيًا لمصالحها في مجال الطاقة. وأدّت هذه السياسات إلى ظهورِ تحالُفٍ مُناهضٍ لتركيا ضمَّ اليونان وقبرص ومصر والإمارات العربية المتحدة، وفي بعض الأحيان فرنسا، وكلُّها سعت إلى مواجهة نفوذ أنقرة وتأكيد مصالحها في مجال الطاقة والأمن في المنطقة.
وأبرزت هذه التحديات أنَّ تركيا لا يُمكنها تحقيقَ الحكم الذاتي الحقيقي إلّا من خلال التعاون وليس العزلة والعمل الأحادي الجانب. اتّخذت أنقرة بالفعل خطواتٍ لإصلاح العلاقات مع العديد من البلدان، لكنها تعتقد أنَّ السياقَ الإقليمي الحالي يُوفّر فرصةً فريدة للبناء على تلك الخطوات لتحويل البلاد إلى مركزٍ إقليمي للطاقة. وقال أحد المسؤولين الأتراك لي إنَّ هذا من شأنه أن “يُساعدنا في نحت مساحةٍ مستقلة ليس فقط عن الغرب ولكن أيضًا عن روسيا”.
توازُن القوى الإقليمي الجديد
كانَ سقوط نظام بشار الأسد في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2024 بمثابةِ تحوُّلٍ كبير في ميزان القوى في الشرق الأوسط. كانت الضربات الإسرائيلية ضد إيران ووكلائها في أعقاب هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قد قلّلت بالفعل من نفوذ إيران، في حين أدى غزو روسيا الكامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 إلى استنزافِ مواردها وتقليصِ التزاماتها تجاه سوريا. في الواقع، وجهت إطاحة الأسد ضربةً قاسية أخرى لطهران وموسكو.
إنَّ التحرّكات التي تقوم بها الولايات المتحدة سوف تكون لها أيضًا آثارٌ كبيرة على توازُن القوى الإقليمي، بما في ذلك الإعلان عن نهاية مهمة التحالف في العراق في أيلول (سبتمبر) 2025، والانسحاب المحتمل للقوات الأميركية من سوريا. وتُشيرُ هذه التطوّرات إلى أنَّ ديناميكيةِ قوةٍ جديدة تتشكّل في الشرق الأوسط، مع تراجُع الدورِ الروسي والإيراني والأميركي. وترى أنقرة في هذا الواقع فرصةً لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، بما في ذلك في قطاع الطاقة.
لقد أدّى ضعف إيران والانسحاب الأميركي الوشيك بالفعل إلى تحويلِ الديناميكيات في العراق لصالح تركيا. وأعاقَ العديد من الخلافات الجهودَ الرامية إلى استئنافِ التعاون في مجالِ الطاقة بين أنقرة وبغداد. إنَّ كردستان العراق تتمتّعُ بموارد طاقة غنية ولكنَّ المنافسة بين الحزب الديموقراطي الكردستاني المدعوم من تركيا والاتحاد الوطني الكردستاني المدعوم من إيران وكذلك الخلافات مع الحكومة المركزية أدّت إلى إخراج التقدُّم عن مساره. كما أدّت معارضة إيران، أكبر مُوَرّد للغاز الطبيعي للعراق ومنافس أنقرة، إلى تعقيد الأمور بشكلٍ أكبر.
كما كانت قضايا إمدادات المياه ووجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق تُشكّل أهمية كبيرة في العلاقات الثنائية. إنَّ العراق يواجه ندرةً في المياه، ويطالب تركيا بحصّةٍ أكبر من المياه، حيث ينبع نهرا دجلة والفرات اللذان يُشكّلان المصدر الرئيس للمياه لأجزاء كبيرة من العراق. ومن جانبها، تطلبُ تركيا من العراق تصنيفَ حزب العمال الكردستاني “منظمة إرهابية” وبذل المزيد من الجهود للحدِّ من أنشطته. وتُشيرُ سلسلةٌ من الإعلانات الأخيرة إلى أنَّ تركيا والعراق أحرزا تقدُّمًا كبيرًا على هذه الجبهات. وقال مسؤولون عراقيون إنَّ بغداد تنتظرُ موافقة تركيا على استئناف صادرات النفط الخام من إقليم كردستان شبه المستقل إلى تركيا بعد تأخيرٍ دام ما يقرب من عامين. كما توصّلَ البلدان إلى اتفاقٍ تاريخي بشأن تقاسم المياه، حيث قالت تركيا إنها ستُطلِقُ المزيد من المياه إلى العراق بينما وعد العراق بتصنيف حزب العمال الكردستاني باعتباره “منظمة محظورة” وتعهد بالتعاون الوثيق في القتال ضد الجماعة. وتأتي هذه الإعلانات في خضم الجهود الرامية إلى توحيد القوات العسكرية للحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في شمال العراق، والتي أدت إلى تعقيد سياسة تركيا تجاه العراق. ومن بين الأمور التي تساعد خطط أنقرة المفاوضات التركية مع حزب العمال الكردستاني، حيث دعا زعيم ومؤسس الجماعة المسلحة المسجون عبد الله أوجلان أخيرًا مقاتليه إلى إلقاء أسلحتهم وحلّ حركتهم.
وتأمل تركيا في الاستفادة من الديناميكيات الإقليمية المتغيِّرة لجَنِي الفوائد في شرق البحر الأبيض المتوسط لسياساتها في مجال الطاقة. وهي على استعدادٍ للعبِ دورٍ رئيس في سوريا بعد إطاحة نظام الأسد من قبل مجموعة قريبة من أنقرة. في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أعلن وزير النقل والبنية التحتية التركي عبدالقادر أورال أوغلو أنَّ تركيا ستوقّعُ اتفاقيةً مع سوريا لإنشاء منطقةٍ اقتصادية خالصة. وهذه خطوةٌ مُهمّة لعَكسِ سياساتِ عهد الأسد التي قَوَّضَت مصالح تركيا في مجال الطاقة من خلال رفض مطالبات أنقرة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة والتحالُف مع الكتلة المناهضة لتركيا في المنطقة. قبلَ طرد الأسد وفراره، منحت دمشق موسكو حقَّ الوصول إلى حقوق التنقيب عن الطاقة البحرية في مياهها الإقليمية، ما أدّى إلى تعقيد الأمور بالنسبة إلى أنقرة. من خلال التوقيع على اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة مع حكّام سوريا الجدد، تأمل تركيا في توسيع نطاق ولايتها البحرية لاستكشاف الهيدروكربون، وهي الخطوة التي قد تمنحها إمكانية الوصول إلى احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط غير المُستَغَلَّة في المنطقة.
كما تُريدُ أنقرة بناءَ خطوطِ أنابيب جديدة للنفط والغاز تربُط سوريا بمحطات التصدير التركية. وقد أعربَ وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار عن تفاؤله بأنَّ سقوط الأسد من شأنه أن يُحيي مشروعَ خطِّ الأنابيب المُجَمَّد منذ فترة طويلة والذي يربطُ تركيا وقطر عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا. دفعت تركيا بالمشروع لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي وتعزيز طموحاتها في أن تُصبحَ مركزًا للطاقة، لكنَّ الأسد رفضه بسبب المعارضة الروسية.
قد تؤدّي التحرُّكات الأخيرة لأنقرة إلى وضعها كلاعبٍ رئيس في الجهود الأوروبية للحدِّ من الاعتماد على الطاقة الروسية وتقديم خيارٍ جذّاب تقنيًا وماليًا للدول الإقليمية لتصدير طاقتها إلى أوروبا. عارضت روسيا مثل هذه الجهود، لكن أنقرة تعتقدُ أنَّ موسكو ليس لديها الكثير من الخيارات بخلافِ دعم خططها كمركزٍ للطاقة – مع تعزيز الغرب لعقوباته على صادرات الطاقة الروسية، استمرت تركيا في تقديمِ طريقِ إمدادٍ بديل لروسيا إلى أوروبا. وتستغلُّ تركيا أيضًا الثغرات القانونية التي تسمحُ للمنتجات النفطية الروسية المختلطة بدخول الاتحاد الأوروبي. من شباط (فبراير) 2023 إلى شباط (فبراير) 2024، باعت تركيا 5.16 ملايين طن من المنتجات النفطية الروسية للكيانات الأوروبية. يمكن لتركيا معالجة المعارضة الأوروبية لشراء الغاز الروسي من خلال استخدامه للاستهلاك المحلي وبيع الغاز فقط من مورّدين آخرين إلى أوروبا. “وفقًا لخطتنا، الجميع رابحون”، هذا ما قاله لي أحد المسؤولين الأتراك.
لا شكَّ أنَّ التطورات في سوريا عززت ثقة تركيا الجديدة بالنسبة إلى روسيا. لا تزال أنقرة تعتمدُ على موسكو لتلبية احتياجاتها من الطاقة، لكن سقوط الأسد غيّرَ ميزان القوى لصالح تركيا. كما اعتمدت أنقرة على موافقة روسيا لشنِّ عملياتٍ عسكرية ضد قوات سوريا الديموقراطية المُرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ما أجبر أنقرة على التحرُّك بحذر حتى لا تُنَفّرُ موسكو. إنَّ حادثةَ العام 2020 التي قتلت فيها القوات المدعومة من روسيا 33 جنديًا تركيًا بالقرب من إدلب في شمال سوريا هي مثالٌ على ذلك. وعلى الرُغم من الضجة المحلية، ألقى الرئيس أردوغان كل اللوم على نظام الأسد بدون ذكر دور موسكو. ومع وجود حكومة جديدة صديقة لأنقرة في دمشق، انقلبت الأمور. تُريدُ روسيا الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا، لكن ليس من المؤكد ما إذا كانت دمشق ستوافق. وردًّا على ذلك، نقلت روسيا أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة المتقدّمة الأخرى من سوريا إلى قواعد تسيطر عليها في ليبيا، حيث تلعب تركيا دورًا كبيرًا.
إنَّ تركيا هي الداعم الأجنبي الرئيس لحكومة الوفاق الوطني الليبية. ولدعم حليفتها وتأمين مصالحها في مجال الطاقة في المنطقة، أرسلت تركيا أفرادًا ومعدّات عسكرية إلى الجماهيرية السابقة، ما ساعد على تحويل مجرى الحرب في أوائل العام 2020 واستقرار الوضع على الأرض. ونظرًا للمزايا البحرية التركية والموقع العسكري، تحتاج روسيا إلى حسن نية تركيا للحفاظ على وجودها البحري في البحر الأبيض المتوسط، ما يمنح أنقرة نفوذًا على موسكو.
للاستفادة من ضعف روسيا وإيران، اتخذت تركيا أخيرًا خطوةً أخرى لتعزيز طموحاتها في مجال الطاقة. سعت منذُ فترةٍ طويلة إلى جلب الغاز التركماني إلى أوروبا عبر أراضيها، لكن الاعتراضات الروسية والإيرانية أعاقت الخطة. في منتصف شباط (فبراير)، وقّعت تركيا وتركمانستان أخيرًا اتفاقية تاريخية لبدء تدفق الغاز التركماني، والذي سيتم نقله عبر إطار الغاز الطبيعي الإيراني الحالي، وهو ما عارضته طهران في السابق. ولسوء حظ روسيا، تعمل تركيا أيضًا على مشروعٍ مُنفصِلٍ لبناء خط أنابيب للغاز عبر بحر قزوين من تركمانستان إلى أذربيجان ثم إلى تركيا.
كل النجوم مُصطَفّة؟
كان التحوُّلُ إلى مركزٍ إقليمي للطاقة منذ فترةٍ طويلة جُزءًا رئيسًا من سعي تركيا إلى الاستقلال الاستراتيجي، وهو هدفٌ طموحٌ لدولةٍ ذات موارد هيدروكربونية محدودة للغاية. وقد أدت السياسة الخارجية الأحادية الجانب والعسكرية التي تنتهجها أنقرة إلى تعقيد مشروع صعب أصلًا. لكن أنقرة تعتقدُ أنَّ النجوم قد اصطفّت أخيرًا. فقد أدرك الرئيس أردوغان أنَّ تركيا لكي تقفَ على قدمَيها، تحتاجُ إلى العمل مع الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء. ويوفّرُ السياقُ الدولي والإقليمي الحالي فُرَصًا لها للقيام بذلك. ومع تجميدِ انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، كانت العلاقات التركية-الأوروبية في دوّامةٍ هبوطية لأكثر من عقد. لكنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا سلّطَ الضوءَ على الطاقة كمجالٍ رئيس للتعاون، مما يعود بالنفع على الجانبين. تريدُ أوروبا الغاز غير الروسي، وأنقرة هي واحدة من الشركاء القلائل الذين يمكنهم منح بروكسل ذلك. ويُعزّزُ سقوط الأسد موقف أنقرة في مواجهة موسكو، مما يسمح لتركيا بملاحقة السياسات التي عارضتها روسيا في الماضي. كما إنَّ ضعفَ إيران يوفّر ريحًا خلفية لطموحات تركيا في مجال الطاقة. وأخيرًا، مع عملهما على حل القضايا الثنائية، أحرزت تركيا والعراق تقدمًا كبيرًا في تنميةِ علاقاتٍ أوثق في مجال الطاقة.
من ناحية أخرى، إنَّ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تُعزّزُ اعتقادَ أنقرة بأنَّ الوقت قد حان لتعزيز العلاقات على كافة الصُعُد. كانت العلاقات التركية-الأميركية متوتّرة بشأن مجموعة من القضايا، من أهمها التعاون الأميركي مع الميليشيات الكردية السورية في الحرب ضد “داعش”. تعتبر أنقرة الميليشيا منظمة إرهابية وطلبت منذ فترة طويلة من واشنطن التوقّف عن تسليح وتدريب المجموعة. من جانبها، شعرت واشنطن بالإحباط من قرار حليفها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي “أس-400” (S-400). وردًّا على ذلك، طردت الولايات المتحدة تركيا من برنامج مقاتلات “أف-35” (F-35) وفرضت عقوبات عليها. وزاد من التوتر رفض أنقرة الانضمام إلى العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو بعد الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، ومساعدة تركيا لروسيا على التهرُّب من العقوبات.
فشلت الجهود الرامية إلى حلِّ هذه القضايا في الماضي، لكن أنقرة تعتقدُ أنَّ حلَّ العديد من المشاكل الرئيسة مُمكنٌ في ظلّ حكم ترامب. إنَّ الانسحابَ المحتمل للقوات الأميركية من سوريا، والذي يعتقد المسؤولون الأتراك أنه من المرجح أن يتم مع الإدارة الأميركية الجديدة، من شأنه أن يزيلَ مصدرَ إزعاجٍ كبير بين البلدين. وتأمل أنقرة أن تتمَّ معالجة حتى مسألة “أس-400” لأن المسؤولين الأتراك يرون الآن شريكًا أكثر استعدادًا في البيت الأبيض والكونغرس لاستئناف الشراكة الدفاعية. ويعتقدُ المسؤولون في أنقرة أنَّ صفحةً جديدة في العلاقات الثنائية ستُساعدُ على تعزيز طموحات تركيا في مجال الطاقة أيضًا. في حين سعت الإدارة الأميركية السابقة إلى معاقبة روسيا، وتركيا على علاقاتها مع موسكو، يبدو أنَّ إدارة ترامب تسعى إلى تقارُبٍ كبير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بما في ذلك تحسين العلاقات الاقتصادية على نطاقٍ أوسع وكذلك في قطاع الطاقة على وجه التحديد، وهو ما تعتقد أنقرة أنه سيساعد جهودها لتصبح مركزًا للطاقة.
التحدّيات قائمة
لا تزالُ خطط الطاقة التركية تُواجِهُ الكثير من التحديات. إنَّ الصراعَ المستمر منذ عقود بين تركيا وقبرص واليونان، والذي يعود جذوره إلى الانقلاب القبرصي في العام 1974 والتدخُّل العسكري التركي اللاحق، يُعيقُ الجهودَ الرامية إلى استكشافِ واستخراجِ الغاز الطبيعي من البحر الأبيض المتوسط. ولا تزال علاقات تركيا مع إسرائيل، وهي لاعبٌ رئيس آخر في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، متوتّرة. ولتحقيق أهدافها كمركز للطاقة، أصلحت تركيا علاقاتها مع إسرائيل، لكن تداعيات الحملة العسكرية المدمّرة التي شنتها الأخيرة في غزة أدت إلى توتر العلاقات. ويضاف إلى هذه التحديات إحجام بعض الدول الأوروبية عن الاعتماد على تركيا في مجال الطاقة. لقد جعل حُكمُ أردوغان الاستبدادي المُتزايد والأخطاء السابقة في السياسة الخارجية القادة الأوروبيين حذرين من العمل مع أنقرة. وهناك أيضًا تساؤلات حول جدوى التعاون في مجال الغاز الطبيعي في وقتٍ تحاول أوروبا الانتقال إلى الطاقة الخضراء. وهناك بطاقة جامحة أخرى تتمثل في سياسات الرئيس ترامب تجاه روسيا وإيران. عندما فرضت إدارة الرئيس جو بايدن عقوبات على بنك غازبروم الروسي، الذي يتعامل مع المدفوعات مقابل الغاز الطبيعي من عملاء غازبروم، حصلت تركيا على إعفاءات. وعندما أعاد ترامب فرض العقوبات على صادرات النفط الإيرانية في العام 2018، فقد منح تركيا إعفاءات أيضًا. وفي وقت سابق من شباط (فبراير) الفائت، قال ترامب إنه يهدفُ إلى “خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر”. وقد لا يمنح تركيا إعفاءات هذه المرة.
وعلى الرُغم من هذه التحديات، يعتقد المسؤولون الأتراك أنه ليس لديهم خيارٌ سوى أن يصبحوا مركزًا للطاقة. وهم يعتقدون أنه في خضمِّ الصراع بين البُلدان على القوة والنفوذ في عالم اليوم غير المؤكّد، فإنَّ الطاقة تُشكّلُ أهمّيةً بالغة مثل القوتين الاقتصادية والعسكرية. وتعتزم أنقرة الاستفادة من أصولها لتضع نفسها كلاعبٍ رئيس في مجال الطاقة، وقد يمكّنها السياق الإقليمي الحالي من القيام بذلك.
- غونول تول هي باحثة في الشؤون التركية وزميلة بارزة في معهد الشرق الأوسط. وهي مؤلفة كتاب “حرب أردوغان: كفاح الرجل القوي في الداخل وفي سوريا”.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.