لبنان المُنتَظِر بينَ التصحيحِ العَبَثي والتضخُّمِ المُنفَلِت

البروفسور بيار الخوري*

شهدت الليرة اللبنانية تدهورًا حادًا بعد العام 2018، حيث تراجَعَ سعر الصرف من 1,500 ليرة للدولار إلى 89,500 ليرة في العام 2025، ما يعني انخفاضًا بنسبةٍ مُتوسِّطة بلغت 79.34% سنويًا. في الوقت نفسه، ارتفعت الأسعار بوتيرةٍ أسرع، حيثُ بلغَ متوسّط التضخّمِ السنوي، بحسب مؤشّرِ الأسعار الذي تُصدره وزارة الاقتصاد، نسبة 81.55%، ما يُشيرُ إلى أنَّ التكاليفَ المعيشية قد نمت بوتيرةٍ تجاوزت الانخفاضَ في قيمة العملة. هذه الظاهرة تَعكُسُ حقيقةَ أنَّ ما حدثَ في لبنان لم يَكُن تصحيحًا اقتصاديًا ناجمًا عن سياساتٍ إصلاحية، بل كان تصحيحًا عبثيًا تلقائيًا فرضته عواملُ فقدانِ الثقة وغيابُ أيّ تدخُّلٍ فعّال لضبط الاقتصاد.

في العادة، يؤدّي انخفاضُ قيمةِ العملة إلى تعزيزِ القدرة التنافسية للصادرات وتقليل الاستيراد، الأمر الذي يدفعُ عجلةَ الإنتاجِ المحلّي. إلّا أنَّ ما حدث في لبنان كان مُختلفًا، إذ ترافَقَ انهيارُ العملة مع تقلُّصِ الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 20 مليار دولار بعدما كان يتجاوز 50 مليار دولار قبلَ عامٍ من الأزمة، ما يعكسُ انهيارَ النشاطِ الاقتصادي بدلًا من تحفيزه. لم تُواكِب الأسواقُ أيَّ محاولاتٍ لدعمِ الإنتاج أو تعزيز الاستثمار، بل دخلَ الاقتصادُ في ركودٍ عميق، حيث فقدت الأُسَرُ القُدرةَ الشرائية وتراجعَ الإنفاقُ الاستهلاكي، مما زاد من حدّة الأزمة.

التضخُّمُ لم يَلتَهِم فقط المنافِعَ المُفتَرَضة للتصحيح النقدي، بل تجاوزها، حيثُ ارتفعت الأسعار بوتيرةٍ جعلت أيَّ مكاسب من انخفاضِ العملة بلا قيمة حقيقية. فحتى لو تمكّنَ الاقتصادُ من التكيُّفِ جُزئيًا مع تراجُع سعر الصرف، فإنَّ الغيابَ التام للإصلاحات النقدية والمالية أدّى إلى استمرار الاضطرابات الاقتصادية، مما جعلَ ارتفاعُ الأسعارِ أسرعَ من قدرةِ المواطنين على التأقلُم. وبدلًا من أن يؤدّي تراجُع قيمة العملة إلى تحفيزِ الإنتاج، تسبّبَ في شللٍ اقتصاديٍّ وانكماشٍ في القطاعاتِ الرئيسة كالتجارة والصناعة والخدمات الحديثة، التي لم تستطع تعويض الخسائر الناجمة عن الأزمة المالية والمصرفية.

مُقارنةً بتجارب دولٍ أخرى مثل تركيا أو الأرجنتين أو مصر، نجدُ أنَّ تلك الدول حاولت مُرافَقةَ انهيارِ عملاتها بإجراءاتٍ تصحيحية، كتحفيز الصادرات، ووَضعِ سياساتٍ نقديةٍ واضحة، ودَعمِ القطاعات الإنتاجية. أمّا في لبنان، فقد غابت هذه السياسات تمامًا، مما جعل التكيُّف الاقتصادي مُستحيلًا، وأدّى إلى فقدانِ الثقة بالنظام الاقتصادي، وهروبِ رؤوسِ الأموال، واستمرارِ التضخّمِ بوتيرةٍ مُتصاعدة.

إلى جانب العوامل الاقتصادية الداخلية، جاءت الحرب الأخيرة في العام 2024 لتُعمّق الأزمة بشكلٍ أكبر، حيث أدّت إلى مزيدٍ من الانكماشِ في النشاط الاقتصادي الذي كان ضعيفًا أصلًا بسبب سنواتٍ من التراجُع المستمر. تسبّبت الاضطراباتُ الحربية نتيجة العدوان الاسرائيلي في تعطيلِ التجارة، وتآكل ما تبقّى من ثقة المستثمرين، وزيادة الضغوط على المالية العامة، ما دفعَ معدّلات التضخّم إلى مستوياتٍ أعلى، مما جعل أي محاولة لاستعادة الزخم الاقتصادي أكثر تعقيدًا وأقل فاعلية بعدَ سنواتٍ من غيابِ سياساتٍ حكومية استباقية أو استلحاقية تضمنُ استقرارَ الأسواق وتُعيدُ تحفيزَ الإنتاج والاستثمار.

في ظلِّ هذا الواقع، فلا الاستقرار سعر الصرف ولا انهياره انعكسا على تنافُسيةِ الاقتصاد، لأنَّ الأزمة النقدية كانت جُزءًا من أزمةٍ أشمل طالت البنية الاقتصادية ككل. ومع استمرارِ التضخُّم في تجاوز مُعدّل انخفاض العملة، فإنَّ التصحيحَ التلقائي لم يَكُن سوى مرحلةٍ من مراحل الانهيار، وليس بداية لاستعادة الاستقرار. في ظلِّ هذه الظروف، تجدُ الحكومة الجديدة نفسها أمام تحدٍ كبير يتمثّلُ في المآزق ما بين السيطرة على التضخُّم وحجم الشروط المطلوبة لإطلاقِ واستعادةِ النمو.

وما لم تنجح الحكومة الجديدة في تحقيقِ توازُنٍ دقيق بين السرعة في النهوض وزيادة العرض الكُلّي في الاقتصاد من خلالِ دَعمِ الإنتاج المحلي وضمان توجيه الاستثمارات نحو القطاعات القادرة على تحفيز النمو المُستدام… فالآتي أعظم.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى