رحلة إِلى ريشة سيزانّ (2 من 2)

رجل بالسترة الزرقاء

هنري زغيب*

“يُـمَدْرِسُونَهُ” رائدَ “ما بعد الحداثة”، بِما كان له من تأْثير على رسامي جيله التشكيلي. لكنَّ بول سيزانّ (1839-1906) أَبعدُ عراقةً وأَصالةً من جيله ومعاصريه. فهو ترك أَعمالًا لا تزال حتى اليوم موضوعَ دراساتٍ وتحاليلَ نقديةٍ تجعله رائدًا مميَّزًا في تاريخ الفن الحديث من الرسم الفرنسي، خصوصًا ببراعته في مزج الأَلوان وإِطْلاع تنويعاتٍ وفروقاتٍ لونيةٍ فريدة، وتركيزٍ على تفاصيل الخطوط قبل التلوين، تأَثُّرًا مباشرًا بأَعمال تيتيان (1506-1567) وروبنز (1577-1640)، حتى أَنه برع في تداوير وأَشكال هندسية جعلتْه سبَّاقًا إِلى التكعيبية قبل ولادة التكعيبية. وتُنقَل عنه عبارته الشهيرة: “الفن تَنَاغُمٌ بَيِّنٌ بين اللوحة والطبيعة”.   

في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ خمس لوحات بين عَشْرٍ من أَبرز لوحات سيزانّ.

هنا الخمس الباقية.

  1. رجل بالسترة الزرقاء (1896)

كما كان يحصل في مرات مشابهة مع لاعبي الورق في تسعينات القرن التاسع عشر، هوذا رجل جلس أَمام سيزانّ كي يرسمه. وهذه المرة أَيضًا تظهر براعة سيزانّ في تكثيف تجربته اللونية والتعبيرية. إِلى يسار الرجل تبدو خلفه ملامح امرأَة تحمل مظلَّة، كأَنما هذه اللوحة جزء من عمل أَكبر كان سيزانّ ينوي إِنجازه. وكأَنما جعل المرأَة والرجل بالأَزرق في إِطار واحد حرصًا على إِبراز التفرقة بين الرجل الريفي والمرأَة من طبقة غير ريفية. أَما البُقَع البيضاء على سترة الرجل الزرقاء، فهي متروكة بدون تلوين كأَنما سيزانّ يَرغب في إِظهار ما يتركه من نواقص في لوحةٍ لم تكتمل بعد. والأَرجح أَن سيزانّ تعمّد ذلك، لتجديدٍ في أُسلوبٍ لديه كان مقدمة لموجة اتسعت لاحقًا في ما سُمّي “الفن الحديث”.

  1. منزل ماريَّا (1895)

خلف تسمية هذه اللوحة (“ماريَّا”) سرٌّ، إِنما لا سرَّ في موضوعها. فمن هوايات سيزانّ رسمُ البيوت والمنازل في مدينته إِكس-آنْ-بوفانس، ومعظم البيوت هناك من جدران صلصالية وقرميد أَحمر. هذه اللوحة تُعيد إِلى أَعمال له سابقة، منها “منزل الرجل المعلَّق” (1873) كان عرَضها في معرض الانطباعيين، وهي أَول لوحة له اشتراها جامع لوحات. سوى أَن هذه اللوحة هنا عن منزل ماريَّا فيها أَلوان أَكثرُ إِشراقًا وأَوضح خطوطًا، مع رقشات صغيرة في الفضاء، ووضوح أَكثر في رسْم الشجرة، وفي رسْم البيوت الأُخرى بمقاسات هندسية واضحة. وهذا الأُسلوب بدا واضحًا في ما بعد مع لوحات بيكاسو وجورج بْراك.

جرَّة الزنجبيل
  1. جرَّة الزنجبيل (1893)

في هذه اللوحة يعود سيزانّ إِلى رسم الطبيعة الصامتة، وجرَّة الزنجبيل وما حولها من أَغراض كانت ظهرَت في لوحات له سابقة، رسم فيها أَغراضًا من الحياة اليومية، في أَلوانٍ معظمُها مُشْرق، وفي أَشكال هندسية واضحة وطبقات محددة. وقد يكون ذلك في باله من أَجل التركيز على الجو الحميم الذي ينتشر عادة داخلَ البيوت بالتعاطي مع هذه الأَغراض أَو الأَواني أَو الفواكه أَو ما شابهها.

الصنوبرة العالية
  1. الصنوبرة العالية (1890)

هي من أَكثر اللوحات انتشارًا بين أَعمال سيزانّ. ربما لأَجل ما فيها من تزاوُج لصيق بين الأَخضر والأَزرق. تَظهر فيها شجرة عالية تسيطر على المشهد، وكأَنها تحاول أَن تقاوم قوةً لا نعرف مصدرها، فليس في مجمل اللوحة ما يوحي بطقس عاصف أَو ريح آتية، يل هي الشجرة واقفة وحدها، فيما الشجرات حولها في هدوء واضح. ولعل في هذا الغموض ما يُظْهر براعة سيزانّ في ترك الرائي دائمًا بين الأَسئلة والتخمين.

هرَم الجماجم
  1. هرَم الجماجم (1901)

وضع سيزانّ هذه اللوحة قبل خمس سنوات من وفاته. ودارسو أَعماله يلاحظون فكرة الرحيل لديه في سنواته الأَخيرة. وهو كان، قبل إِصابته بالالتهاب الرئوي الذي أَدى إِلى وفاته سنة 1906، وضَع عددًا من اللوحات الزيتية والمائية صوَّر فيها جماجم. وفي هذه اللوحة رسم هرمًا ذا ثلاث جماجم مع خلفية قاتمة، على عكس الإِشراقة البيِّنة في لوحات سنواته الأُولى. وبعد غيابه، كانت لوحاته التشاؤمية من أبرع ما رسمَت ريشته بحِسٍّ رؤْيوي صائب.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى