سوريّا: الاختبارُ الأوَّلُ للتَحَوُّلِ سيكونُ الاقتصاد

بالنسبة إلى الباعةِ الجوّالين الذين يحاولون كسب لقمة العيش حول دمشق وكذلك بالنسبة إلى السوريين بشكلٍ عام، فإنَّ الانتقالَ السياسي لن يكونَ مُستدامًا إلّا بقدرِ التعافي الاقتصادي الذي يدعمه. والإطارُ الزمني لذلك هو أكثرُ إلحاحًا.

يبيع ما يستطيع للعيش…

دمشق – فرانسيسكو سيرانو*

كان المتسوّقون على الدوام يأتون إلى سوق الحميدية في وسط دمشق لشراءِ كلِّ شيءٍ من الملابس والأجهزة المنزلية إلى التوابل وحتى الذهب.

يمكنُ العثورُ داخل وحول هيكل البناء الذي يعودُ إلى العصر العثماني على روابط بتاريخ سوريا والمنطقة الأوسع. يحتوي السقف المعدني الذي يُغطّي صالات السوق على ثقوبِ رصاصٍ من المعارك التي خاضها المحتلّون الفرنسيون. في الخارج، تؤدّي بقايا معبد جوبيتير الروماني إلى المسجد الأموي، أحد أقدم المساجد في العالم. كما تستضيفُ القلعةُ القريبة قبرَ صلاح الدين الأيوبي، أحد أشهر المقاتلين ضد الصليبيين الأوروبيين في المشرق العربي.

في الوقت الحاضر، يشهدُ السوق مرحلةً تاريخية أخرى. أصبحت الحشودُ أكبر، حيث يزورُ الآلاف من السوريين العاصمة لأوّل مرة منذ سنوات. وإلى جانبِ السلع العادية المعروضة، يجدون بضائع جديدة تحتفلُ بسقوط نظام الأسد، الذي أطاحه في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الفائت تحالفٌ من المقاتلين المتمرّدين بقيادة ميليشيا “هيئة تحرير الشام” الإسلامية. وسترات الصوف وأساور المعصم والقبّعات المُزَيَّنة بعلم الثورة السورية هي شهادة على الحماس المدني والفخر الناتج عن سقوطِ واحدٍ من أكثر الأنظمة الديكتاتورية قسوةً في المنطقة.

لكنَّ الحشودَ في سوق الحميدية لا تُشيرُ إلى تحسُّنٍ في القدرة الشرائية. ويمكنُ رؤيةُ مؤشِّرٍ أكثر دقّة لحالة الاقتصاد السوري خارج السوق نفسها.

منذ سقوط نظام الأسد، أصبحت مساحاتٌ كبيرة من وسط دمشق مليئة ببائعي الشوارع، حيث تَعرُضُ أرصفةُ المدينة تشكيلةً غير عادية من المُنتَجات تتراوح من التونة المُعلّبة وألواح الشوكولاتة إلى المناديل والأحذية المستعملة.

هذه التجارة في الشوارع هي علامةٌ أخرى على فترة ما بَعدَ الأسد الانتقالية في البلاد. لم تَعُد القوانين القديمة سارية المفعول، ولم تُنظّم الإدارة الجديدة التجارة غير الرسمية بعد. لكنَّ الأعدادَ الضخمة من البائعين تُوضِّحُ أمرَين رئيسيين حول الحالة الحالية للاقتصاد السوري: أوّلًا، أدّى انهيار نظام الأسد إلى تَقليصِ بعضِ الحواجز التجارية المحلّية وجَعَلَ مجموعةً من المُنتجات أرخص وأكثر توفّرًا. وثانيًا، والأهم من ذلك، أنَّ الافتقارَ إلى فُرَصِ العمل والآفاق الاقتصادية الأوسع يضطر الكثيرين من السوريين إلى تلبية احتياجاتهم من خلال بيع كل ما يستطيعون.

وبحسب برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، يعيش ما يُقدَّر بنحو 90% من السوريين حاليًا تحت خطِّ الفقر، وما يَقرُب من 12 مليون شخص من إجمالي عدد السكان قبل الحرب البالغ 25 مليون نسمة، لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية. مع تدمير معظم البنية التحتية والإسكان في البلاد، فإنَّ إعادة بناء سوريا سوف تستغرق سنوات ومليارات الدولارات. ولكن في الأمد القريب، فإنَّ استقرارَ الاقتصاد وتحسين مستويات معيشة أفقر سكان سوريا سيكون أمرًا بالغ الأهمية. وقد تعهّدت الحكومة الانتقالية، برئاسة زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع الذي تحوَّلَ إلى رئيسٍ مؤقت للبلاد، بإنعاش الاقتصاد وإعادة بناء البلاد. ولكن الكثير مما ستتمكن من إنجازه خلال الأشهر المقبلة يعتمد على عوامل خارجية.

من بينِ العقباتِ الرئيسة العقوبات الدولية التي فرضتها الدول الغربية على النظام السابق في العام 2011، حيث قمع الدكتاتور السابق بشار الأسد بعنف الاحتجاجات السلمية ضد حكمه. وفي حين فرّ الأسد وحاشيته إلى موسكو، فإنَّ معظمَ هذه العقوبات لا يزال قائمًا، مما يؤثر بشدة في النشاط الاقتصادي.

“إن العقوبات تُعيقُ قدرة سوريا على التفاعل مع بقية العالم، وتحدُّ من آفاق الاستثمار”، كما يقول الخبير الاقتصادي السياسي والمستشار المستقل السوري كرم الشعّار.

في كانون الثاني (يناير) الفائت، خففت الولايات المتحدة مؤقتًا بعض القيود المفروضة على المعاملات مع سوريا لمدة ستة أشهر. وعلى الرُغم من أنَّ واشنطن اختارت الحفاظ على العقوبات الشاملة، إلّا أنها خلقت استثناءات للسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ونقل التحويلات الشخصية من السوريين المقيمين في الخارج وبعض المعاملات التجارية المتعلّقة بقطاع الطاقة. وسوف تساعد هذه الاستثناءات الآن في الأمد القريب. لكن ستة أشهر ليست كافية على الإطلاق لما يجب القيام به.

من جهته، أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطوةٍ مُماثلة في أواخر شباط (فبراير). وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على تعليقِ العقوبات على قطاعَي الطاقة والنقل، مع تخفيفِ القيود المفروضة على العديد من مؤسّسات التمويل، بما في ذلك البنك المركزي السوري. كما تمت إزالة العوائق أمام تسليم المساعدات إلى سوريا. ومن المقرّر أن تستمرَّ هذه التدابير لمدة عامٍ واحد.

لكن زعماء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يريدون التأكد من وجودِ آلياتٍ تسمح بإعادة فرض العقوبات بسرعة إذا لزم الأمر. ومن المتوقع أن تستخدمَ الدول الغربية تخفيف العقوبات لمحاولة دفع انتقال سوريا نحو نظامٍ سياسي شامل. ومن المنطقي أن تظلَّ العقوبات ضد الأفراد المُرتبطين بفساد نظام الأسد وانتهاكات حقوق الإنسان، وحتى استهداف بعض الأفراد التابعين ل”هيئة تحرير الشام” لتشكيل سلوكها المستقبلي.

لكنَّ القيودَ التي تُعيقُ الشركات السورية من التجارة الدولية أو الحكومة من إعادة بناء قطاع الكهرباء في البلاد، على وجه الخصوص، لا تؤدّي إلّا إلى إطالة البؤس الذي ألحقه النظام السابق. وقال أسعد علاشي، الخبير الاقتصادي والمدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا” غير الربحية التي تدعم المجتمع المدني السوري: “من خلال السماح بالتجارة، فإنك ستُخفِّض الأسعار، لأنَّ العقوبات ليست أكثر من عوامل خارجية تزيد من سعر السلع”.

الواقع أن توفير الطاقة يُشَكِّلُ تحدّيًا رئيسًا. وبسبب الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، يظلُّ إمدادُ سوريا بالكهرباء مُتقطّعًا، ما يجعل الشركات تعتمد على المولّدات الخاصة. وفي الليل، تظل أجزاء كثيرة من العاصمة في الظلام. ويقول علاشي: “بدون شبكة كهرباء عاملة، لا يمكن أن يحدث شيء: لا تنمية زراعية أو صناعية. إن إزالة العوائق أمام توفير الكهرباء من شأنه أن يؤثر في سوريا على مستوى الشارع”.

في الوقت الحالي، فتحت الإعفاءات التي منحتها واشنطن الباب أمام تعهُّدِ المانحين الأجانب بتقديمِ آلياتٍ لدعم الميزانية. وسوف تساعد هذه الآليات في تعزيز قدرة الدولة على تنفيذ التدابير المطلوبة على وجه السرعة. على سبيل المثال، تعهّدت قطر بالمساعدة في تمويل الزيادة بنسبة 400% في رواتب القطاع العام التي وعد بها حكام سوريا الجدد الشهر الماضي. ومن المرجّح أن تُقدّمَ المملكة العربية السعودية أيضًا الدعم المالي.

وبما أنَّ متوسّط ​​رواتب القطاع العام يبلغ 25 دولارًا شهريًا، فإنَّ الزيادات سوف تُساعدُ على تحفيز الاقتصاد من خلال تعزيز سُبُل العيش. ولكن من المتوقع أن تُكَلّفَ زيادات الرواتب وحدها 127 مليون دولار شهريًا. وفي الوقت الحالي، لا تستطيع الحكومة المؤقتة في سوريا الوفاء بالتزاماتها المالية بمواردها الخاصة.

ووفقًا للشعّار، خلال السنوات القليلة الماضية من حُكم نظام الأسد، استخدمت الدولة السورية الإنفاق بالعجز ــطباعة النقود في الأساس ــ لتعويض نحو ثلث نفقاتها في المناطق التي تسيطر عليها من البلاد.

ويقول الشعّار: “لقد بلغ إنفاق الدولة 2 ملياري دولار إلى 3 مليارات دولار على مدى السنوات الأربع أو الخمس الماضية. لذا، إذا نظرت إلى المبلغ الذي ترغب قطر في تقديمه، فهو بالفعل أكثر من نصف الميزانية”.

إنَّ دعمَ قدرة الدولة السورية على دفع الرواتب وتشغيل خدماتها المُتداعية أمرٌ ضروري لإعادة تشغيل الاقتصاد. فقد تمَّ تسريح العديد من العاملين في الدولة، وأغلقت مصانع وشركات الخاصة عدة أبوابها. وتأخّرت رواتب الموظّفين العموميين الذين تمكّنوا من الاحتفاظ بوظائفهم إلى حدٍّ كبير، وفي كثير من الحالات لا يستطيعون هم والعاملون في القطاع الخاص حتى استرداد الأموال بسبب أزمة العملة.

وحتى أوائل آذار (مارس)، لم يصل الدعم المالي من دول الخليج إلى دمشق، لأن السلطات القطرية لم تكن متأكّدة مما إذا كانت هذه التحويلات تنتهك العقوبات الأميركية أم لا. وفي واشنطن، لا يزال موقف إدارة دونالد ترامب في ما يتصل بحكّام سوريا الجُدد غير واضح. مع ذلك، لا تزال الطوابير خارج فروع البنوك في جميع أنحاء دمشق مشهدًا يوميًا.

في الأمد القريب، تأمل السلطات أن يتمَّ تعزيز موارد الميزانية الضئيلة من خلال مزيج من الدعم الإقليمي وتدفقات الاستثمار الجديدة والوصول في نهاية المطاف إلى الأصول السورية المجمّدة في الخارج بسبب ارتباط أصحاب الحسابات بنظام الأسد.

وهناكَ تحدٍّ آخر يواجه الحكومة يتمثّل في توحيد العملة المُستَخدَمة. في دمشق، يمكن شراء السلع إما بالليرة السورية أو بالدولار الأميركي. وفي الشمال، يتم قبول الليرة التركية أيضًا. وهذا يخلق تحديات للشركات ويؤثر في قدرة الحكومة على تنفيذ السياسة النقدية لتحقيق الاستقرار في الليرة السورية، التي شهدت تقلّبات عالية في القيمة مما يفرض مشاكل إضافية على الشركات والأُسَر.

من ناحية أخرى، سوف يتأثّر التعافي الاقتصادي أيضا بالسياسة. فقد صرّحَ الشرع، الذي قاد الهجوم العسكري ضد نظام الأسد، بأنَّ الأمرَ سيستغرق من أربع إلى خمس سنوات لتنظيم الانتخابات.

ولكن على الرُغم من خطابه المُوَحِّد، لم يقم الشرع بعد بإيصالِ رؤيةٍ شاملة للانتقالِ السياسي وإظهار كيف سيشمل جميع السوريين، بغضِّ النظر عن الجنس أو الدين أو الانتماء السياسي. وقد جرى حوارٌ وطني وَعَدَ به في الأسبوع الفائت، ولكن تمَّ تنظيمه على عجل لتلبية الموعد النهائي في الأول من آذار (مارس) الذي أعلن عنه الشرع سابقًا. ونتيجةً لهذا، لم يُقدِّم سوى القليل من الوضوح بشأنِ المسارِ إلى الأمام.

في الوقت نفسه، تحاول السلطات دمج الميليشيات المتمرّدة المتعدّدة في سوريا في جيشٍ مُوحَّد. وعلى الرُغم من موافقة الفصائل المسلحة الأخرى، تعثّرت المفاوضات بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديموقراطية التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي، ما أدّى إلى استبعاد هذه القوات من حوار الأسبوع الماضي.

في مدينة حمص والمحافظة المحيطة بها، يُهدّدُ انعدامُ الأمن وخطر تصفية الحسابات بتسريعِ موجةٍ جديدة من القتال. ويُحذّرُ الشعار: “لن يستثمرَ أحدٌ في سوريا بدون معرفة ما إذا كانت البلاد ستتوحَّد أم لا”.

بعد نصف قرنٍ من الدكتاتورية في ظل عائلة الأسد و14 عامًا من الحرب الأهلية المُدمِّرة، يُعَدُّ الانتقالُ السياسي في سوريا فرصةً تاريخية لم تَكُن واردة قبل بضعة أشهر.

لكن بالنسبة إلى الباعة الجوّالين غير الرسميين الذين يُحاولون كسب لقمة العيش حول دمشق وكذلك بالنسبة إلى السوريين بشكلٍ عام، فإنَّ الانتقالَ السياسي لن يكونَ مُستدامًا إلّا بقدر التعافي الاقتصادي الذي يدعمه. والإطارُ الزمني لذلك هو أكثر إلحاحًا.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي وكاتب ومحلل سياسي برتغالي، يركّز أعماله على شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ظهرت أعماله في “فورين بوليسي”، “فورين أفيرز” الأميركيتين وغيرهما من المنافذ الإعلامية. نُشر أحدث كتاب له في العام 2022 وكان بعنوان “أنقاضُ عقد” (As Ruínas da Década)، عن الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى