خسارةُ “حزب الله” مَكسَبٌ لنسائه؟
في ما يلي قراءةٌ لدور المرأة في “حزب الله” من خلال أربعة فيديوهات شغلت مواقع التواصل الاجتماعي أخيرًا، بطلاتها نساءٌ ينتمين إلى الحزب وبيئته الحاضنة، والتي تطرح أسئلة للبحث وتفتح بابًا للنقاش حول المستقبل السياسي للمرأة في الحزب بعد تخلخل قيادته وتنظيمه الداخلي بفعل الاغتيالات ونتائج الحرب المدمّرة التي قد تكون إحدى نتائجها تراخي القبضة الأبوية على الشرائح الأكثر ضعفًا في بنيته.

ملاك جعفر عبّاس*
كيف تجرّأت زهراء قبيسي صاحبة المقولة الشهيرة “نحنا ما مننهار” لتقول امام عدسات الكاميرات وهي تبكي دامية الجبين “لو ما التكليف الشرعي ما رجِعِت، التكليف الشرعي اللي رَجَّعني” وهي من المُفترَض أن تكونَ جبلًا لا تهزّهُ رياحُ إسرائيل، وهل تُعبّرُ صاحبة السيارة “المُناضِلة” عن رأي الحزب عندما وصفت الرئيسَين جوزف عون ونوّاف سلام بالصهيونيَين؟ وهل تُعبّرُ تلك العائدة من طهران عبر رحلةٍ التفافية عن موقفٍ رسمي عندما تصدحُ بأعلى نبرةٍ “البلد إلنا واللي مش عاجبو يهاجر”؟ وهل كانت الصحافية سحر غدار والمؤثّرة غنى غندور تتحدثان بلسان الحزب في معركتهما مع محطة “أم تي في” أم بمبادرة فردية؟ تساؤلات كثيرة تعصفُ بوسائل التواصل الاجتماعي في كلِّ مرة تنتشر فيديوهات من هذا النوع من دون ان تجمع قراءة واحدة هذه المشاهد ببعضها البعض، وتفحص العنصر المشترك بينها: الوجه النسائي في “حزب الله” وبيئته. لماذا يظهر الآن بهذا الشكل وهذه الشراسة؟ هل هي تصرّفات فردية عفوية؟ هل هي حالات عابرة أم مجتمعة تُشكّلُ مؤشّرًا إلى مُتَغَيِّرٍ بنيوي لم تتضح كل أبعاده بعد في البيئة والحزب؟
لطالما شَكّلَ الحضورُ النسائي مَشهدًا ثابتًا في مناسبات “حزب الله” الدينية والاجتماعية وذلك الصوت الصادح “لبّيك يا نصر الله” في خلفية القاعة أو ناحيتها الجانبية، لم يكن يومًا في الصدارة. يهتفنَ ويصمُتنَ عند إشارة المنظّمين، يحملنَ الرايات ويمشينَ في المسيرات ويُودِعنَ اللوائح في صندوق الانتخابات كما نصَّ عليه كتاب التكليف الشرعي. وفيما تعتمدُ سرديةُ الحزب إظهارَ المرأة المقاومة أنّها قويةٌ كالجبال لا تهتزُّ لمقتلِ أبٍ أو أخٍ أو زوجٍ أو إبن، تُشاركُ في العملِ العام من خلال هيئة دَعمِ المقاومة والهيئات النسائية وتنخرط بقوة في الحياة العملية ضمن المؤسّسات التجارية والمالية والإعلامية والاجتماعية والتربوية الحزبية، وتقعُ على أكتافها مسؤولية تربية الأجيال العقائدية. تتعرّى هذه السردية أمامَ المنع الصريح للمرأة من تبوُّءِ مناصب قيادية في مؤسّسات الحزب غير النسائية، ومن خوض غمار الحياة السياسية من خلال الترشّح للانتخابات النيابية أو المشاركة في الحكومة. فللمرأة بيتها وعائلتها وكفى، وإن خرجت من بيتها فدورها مرسومٌ بعناية، ومحدودٌ بسقفٍ لا تتخطّاه. وتتقاطع التصريحات والمواقف والتبريرات هنا.
في حديثٍ إلى موقع “العهد” الإخباري (١٨-٦-٢٠٢٢) التابع للحزب، قالت مسؤولة الهيئات النسائية عفاف الحكيم أنَّ الدورَ النسائي في “حزب الله” بدأ يتشكّلُ منذ بداية ظهور الحزب، وأخَذَ بالاتساع “بشكلٍ عفوي” إلى أن تنظّمَ وتمأسسَ إثر اغتيال الأمين العام الأسبق السيد عبّاس الموسوي في العام ١٩٩٢، إلّا أنَّ الإعلانَ الرسمي كان في العام ٢٠٠٣. وتشتمل الهيئات على آلاف المتعاقدات والمُتَطوّعات في كلِّ المناطق يتوزَّعن الأدوار والمهام ضمنَ هيكليةٍ تنظيمية هرمية تقسمّهن إلى مجموعاتٍ يتبعن من خلالها التنشئة الدينية نفسها ويتشرَّبن المفاهيم الاجتماعية عينها، ويُردّدن الشعارات ذاتها حيثُ يُحرّكهن التكليف الشرعي من دون مساحةٍ للإبداع والاختلاف والجرأة. وتتشابه هيكلية المشاركة النسائية في الحزب إلى حدٍّ كبير مع تلك المُتَّبعة في حركات الإسلام السياسي المُسَلَّحة على اختلاف جنسياتها ومذاهبها.
إلّا أنَّ فرديةَ وربما فرادة المقاطع التي نتحدّث عنها هي في أنها تخرجُ عن السياق النمطي التي عملت كلُّ آلة القمع الذكوري الأبوي لتكريسه نموذجًا وحيدًا لوجود المرأة المقاومة في الحيّزِ العام. صحيحٌ أنَّ مواقفهن تُعبّرُ عن مزاجِ بيئة الحزب التي لم تستفق بعد من هول الصدمة والخسارة والشعور باليتم الذي كرسه اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، إلّا أنَّ هذا المزاج أيضًا كان مُنضبطَ الإيقاع ومحسوبَ الخطوات في كلِّ الاستحقاقات السابقة، خصوصًا تلك التي أُريدَ فيها للبيئة أن تبدو مُنفلتة العقال على شاكلة مجموعةٍ من الشبان اليافعين يهتفون “شيعة شيعة” وهم يضربون أبناء مدينتهم في ساحات ١٧ تشرين الأول/أكتوبر 2019.
تغفل غالبية الكتب التي درست ظاهرة “حزب الله” كفاعلٍ خارج الدولة (non-state-actor) دور المرأة في الحزب او تأتي على ذكره بشكلٍ عابر ربما لأنه لم يتجاوز الصورة النمطية المُتَّبعة عند الحركات الإسلامية بشكلٍ عام. إلّا أنَّ دراسةً للباحثة البريطانية في المركز العالمي لمكافحة الإرهاب في لاهاي (ICCT) “جينا فايل” لفتت انتباهي إلى مسألة بروز دور النساء في الحَيِّزِ العام لما كان يُسمّى ب”دولةٍ الخلافة الداعشية” خارج الأُطُر شديدة الصرامة التي ميّزت حكم الدواعش القرن-وسطي بعد تقهقر نفوذ التنظيم وتراجع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها ومقتل عدد كبير من مقاتليه ما حدا بعدد من النساء المتشدّدات (على مقياس داعش) إلى حمل السلاح لإنفاذ العقيدة وإكمال المسيرة. وقد كانت مسألة خروج المرأة من البيت سببًا لإعدامها ابان حكم دولة خلافة البغدادي المزعومة التي حكمت بالحديد والنار أكثر من ١١ مليون انسان لمدة لم تتعدَّ الأربع سنوات. إلّا أنَّ المآلات التراجيدية لدولة الخلافة وظروف عيش هؤلاء النسوة في المخيمات دفعتا بهنَّ نحو ملء الفراغ وأخذ زمام المبادرة وتجاوُز محظوراتٍ كثيرة كانت ألغت تأثيرهن في القرار. فاضمحلال قوة القيادة لا يستفيد منه الأعداء فقط إنّما يُخفّف القيود على الشرائح الأكثر ضعفًا ضمن المجموعة نفسها ويمنحها مساحة أكبر للحركة وكسر القيود. اليُتمُ مُوجِعٌ لكنه يُحرّرُ من سطوة الأب، يقول علماء النفس.
مسألةُ ظهور العنصر النسائي كفاعلٍ عسكري في مرحلة الاحتضار، ذكّرتني أيضًا بمشهد مجنّدات “كتائب عزّ الدين القسّام” وهنَّ مُقنَّعات مُرتديات البزّة العسكرية في ساحة التبادُل يُشرِفنَ على تسليم بعض النساء والأطفال من الرهائن الإسرائيليين إلى الصليب الأحمر الدولي. وقد أشارَ كثيرٌ من المتابعين إلى لغة جسدٍ تؤشّرُ إلى وجود معرفة سابقة بين المجنّدات والرهائن، وقد فسّرَ ذلك بأنهنَّ قد يكنَّ يُشرِفنَ على حراستهم. لا تقول الدكتورة فايل أن نقصَ عدد الذكور هو ما بدفع بالإناث الى الواجهة حصرًا، بل إنَّ ضعفَ القبضة الذكورية التنظيمية القامعة للصوت والدور النسوي داخل التنظيم المُندَحِر ساهمَ في بروز دور اللواتي يتمسّكنَ بإنفاذ النسخة الأكثر تشدُّدًا من العقيدة والقادرات على تجاوز القبضة الحديدية للنظام الذكوري ليس بهدف الاشتباك معه لتحطيمه بل بهدف حجزِ مقعدٍ على طاولة القرار والمدافعة عن “الدولة” بأيِّ ثمن. وهنا تنتفي صبغة المرأة المقموعة المُغَيَّبة التابعة وتبرز المرأة الجريئة والفاعلة والمؤثّرة (من دون إسقاط أحكام قيميّة على أفعالهن).
“حزب الله” الذي كان قادرًا على ضبطِ إيقاع لبنان كله بكلمةٍ واحدة من السيد نصرالله، يبدو اليوم مُشتَّتًا مُتهالكًا في أدائه السياسي، تعصف به صراعات داخلية بدأت تظهر إلى العلن، وإن أنكرَ وجودها وأصبح يدير معاركه السياسية والإعلامية بأدواتٍ لم يعهدها اللبنانيون منه من قبل. ففي العام ٢٠١٠ منع “حزب الله” الفنانة هيفاء وهبي من المشاركة في السفينة مريم التي كان من المُفتَرَض ان يقودها طاقم نسائي لكسر الحصار المفروض على غزة (ولم تُبحِر لأسبابٍ أُخرى) بحجّة أنَّ وجود هيفاء، بما تُمثّله من فنٍّ يقوم على الإغراء، على متن السفينة قد يُشكّلُ “شبهة” للنساء المناضلات الملتزمات بأدبيات المقاومة، في حين انبرى الحزب بشخص النائب عن كتلة “الوفاء للمقاومة” إبراهيم الموسوي في الدفاع عن غنى غندور التي حتمًا “لا ترتدي التشادور” وتأتي من البيئة نفسها التي أتت منها هيفاء. سواء ما فعلته غندور وزميلاتها كان بتوجيه من الحزب أم لا، فإنَّ ما حصل بعد ذلك أجبرَ الحزب بكوادره الرسمية على انتهاجِ قواعد مختلفة للعبة والاعتراف بأحقّية امرأة بمواصفات غندور (من حيث المظهر على الأقل) تحديدًا بلعب دور في الفضاء العام تحت راية الحزب.
وفي حين انتخبَ “حزب الله” رسميًا العماد جوزف عون للرئاسة وهو راضٍ عن المشاركة الشيعية في حكومة الرئيس نوّاف سلام، إلّا أنَّ هذا لم يمنع إحداهن من الصياح بأعلى صوتها بأن كليهما صهيوني وهي تحمل العلم الأصفر وتحتج على قرارٍ حكومي بمنع الطائرة الإيرانية من الهبوط في مطار رفيق الحريري. وهذا الموقف لم يكن ليصدر من أيٍّ من جمهور الحزب في عزّ قوته وانضباطه. فقد كانت التعليمات تأتي صارمة لجهة الالتزام بنوع الهتاف وتوقيته. وفي عزّ سيطرة الحزب على مقاليد الحكم في البلاد وهجوم المجاميع “الموتوسيكلية” هاتفة “شيعة شيعة” على المتظاهرين في ساحة الشهداء لم يَدعُ أحدٌ من الحزب خصومه جهارًا نهارًا إلى الهجرة، كما فعلت تلك السيدة العائدة من إيران في مطار بيروت بعدما مُنِعت طائرة “ماهان إير” الإيرانية من الهبوط فيه إثر تهديد العدو الإسرائيلي بقصفه، علمًا أنَّ هجرةَ آلاف اللبنانيين في السنوات الخمس الأخيرة تُعزا في كثيرٍ من حالاتها إلى الأداء السياسي والعسكري للحزب بعد أن أُفقِرَ اللبنانيون وشُرِّدوا من أرزاقهم وبيوتهم في متاهات النزوح والهجرة. ولعلَّ جملةَ زهراء قبيسي “لولا التكليف الشرعي ما طلعت” تشي أنها ورُغم انصياعها للتكليف الشرعي إلّا أنّها تُدركُ أنه كان قرارًا خاطئًا وأنه عرّضها لمخاطر كانت بغنى عنها.
قد تؤشر هذه الاحداث مُجتمعةً إلى ديناميةٍ جديدة داخل شريحة النساء من بيئة “حزب الله” التي كانت مُغَيَّبة عن الفعل السياسي إلّا في ما ندر، ومن المُبكر القول ما إذا كانت هذه الدينامية ستفضي إلى تغييرٍ بنيوي ما داخل الحزب أو ما إذا كانت ستلعب أدوارًا أكبر في مُقبِل الأيام، لكن الواضح هو أنَّ الصوتَ النسائي هذا ليس أكثر اعتدالًا أو مُهادَنة أو عقلانية، وقد يكون امتحانه الأكبر في الانتخابات النيابية المقبلة لقياس تأثيره الحقيقي في البيئة والحزب على حدٍّ سواء. وربما يتوجّب على الفاعلين السياسيين في لبنان التفكير ليس فقط بمخاطبة الحزب ككتلةٍ صمّاء، بل بلورة خطاب قادر على التواصل مع هذه الشريحة التي لم تَعُد ترى في شادورها حجابًا لصوتها. ولكن، هل لو ألقى الرجال سلاحهم ستحمله النساء؟
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة وصحافية لبنانية عملت في محطة “بي بي سي عربي”، وحاورت شخصيات عربية وعالمية، وهي متخصّصة في مجال مكافحة الإرهاب ودراسة الجماعات المسلحة من معهد دراسات الحرب في كينغز كولدج لندن. يُمكن متابعتها عبر منصة “إكس” على: @BBCMalakJaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.