الولايات المتحدة لن تَتَخَلّى عن أوروبا

 بول بوست*

أوروبا في حالةٍ من الفوضى، وأوكرانيا تشعرُ بالخيانة. هذا هو الرأي الذي خرجت به سلسلة المؤتمرات الأمنية الأوروبية رفيعة المستوى التي عُقدت في الأسبوع الفائت. بدأ القلق يوم الخميس الماضي في اجتماعٍ لمجموعة الاتصال الدفاعية التي تضمُّ شركاءَ أوكرانيا العسكريين، عندما صرّحَ وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في خطابه بأنه كان هناك “للتعبير بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ عن أنَّ الحقائق الاستراتيجية الصارخة تمنعُ الولايات المتحدة الأميركية من التركيز في المقامِ الأوّل على أمنِ أوروبا”.

في اليوم التالي، وخلال خطابٍ واسع النطاق ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن ــ التجمُّع الأمني ​​الأوّل للقادة الأوروبيين ومسؤولي الدفاع والمحلّلين ــ أصدر نائب الرئيس جي. دي. فانس ما يراه البعض بمثابة نداء إيقاظ، مُعلنًا أنَّ “من المُهِمّ، في السنوات المقبلة، أن تُكثّفَ أوروبا جهودها لتوفير الدفاع عن نفسها”. ولعلَّ الأمرَ الأكثر إثارةً للصدمة بالنسبة إلى الحضور هو أنَّ فانس انتقدَ أوروبا أيضًا بسبب ما وصفه بحماية حرية التعبير المُعيبة والجهود التي تبذلها أحزابها الرئيسة لاستبعاد الأحزاب اليمينية المتطرّفة من الائتلافات الحكومية، والتي وصفها بأنها تشكل تهديدًا أكبر للقارة من روسيا أو الصين.

جاءت هذه التصريحات في أعقابِ مُحادثةٍ هاتفية مباشرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فضلًا عن اجتماعٍ في المملكة العربية السعودية بين مسؤولين أميركيين وروس لمناقشة إنهاء الحرب الطويلة الأمد في أوكرانيا. والقلقُ هنا هو أنَّ المحادثات نفسها، التي جرت بدون وجود مُمثّلين من أوكرانيا إلى الطاولة، تُشَكّلُ تنازُلًا لروسيا. وعندما يقترنُ هذا الأمر مع تحميل ترامب أوكرانيا اللوم في اندلاع الحرب، فضلًا عن تصريح هيغسيث خلال خطابه المذكور بأنَّ “العودة إلى حدود أوكرانيا قبل العام 2014 هدفٌ غير واقعي”، فإنَّ القلقَ هو أنَّ أوكرانيا يمكن أن يتمَّ تقسيمها بشكلٍ أساسي من قبل واشنطن وموسكو، وهو ما يُذكّرنا بمؤتمر يالطا في حقبة الحرب العالمية الثانية بين زعماء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي، والذي أدى إلى تقسيم أوروبا بعد الحرب إلى كتلتين متنافستَين من الشرق والغرب.

الواقع أنَّ الكثيرين من المراقبين يخشون أن تُصبِحَ أوروبا قريبًا وحدها عندما يتعلّقُ الأمرُ بتأمين أوكرانيا وردع المحاولات الروسية المستقبلية لتوسيع نفوذ موسكو الإقليمي. وكما جاء في أحد العناوين الرئيسة: “ترامب ألقى بأوكرانيا تحت عجلات الحافلة الروسية. وقد يكون “الناتو” هو التالي”.

دفعت هذه المخاوف المزدوجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى عقدِ قمّةٍ للقوى العسكرية الأوروبية، وتجديد الدعوات لإنشاء جيشٍ أوروبي والنظر في نشر أعداد كبيرة من القوات الأوروبية في أوكرانيا لتأمين وضمان أيِّ اتفاقِ سلامٍ مُحتَمل. وردد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الدعوة إلى بناء جيش في أوروبا، قائلًا إنَّ ” الأيام القديمة التي كانت فيها أميركا تدعم أوروبا فقط لأنها كانت تفعل ذلك دائمًا قد ولّت”.

من الواضح أنَّ القضيتين ــإلتزام الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي ودعمها لأوكرانياــ مُرتبطتان. وعلى الرُغم من ادعاءات فانس بالعكس، فإنَّ التهديد الأساس لأوروبا الآن هو روسيا، وروسيا تهاجم أوكرانيا حاليًا. لكن القضيتين ليستا الشيءَ نفسه أيضًا، وخصوصًا من منظورِ إدارة ترامب.

لنبدأ بحلف شمال الأطلسي. لا ينبغي لأحد أن يصدمه ظهور المخاوف القديمة بشأن التزام ترامب بالتحالف مرة أخرى. الواقع أنَّ بعضَ هذه التصريحات الأخيرة يُمثّل تكرارًا لنهج ترامب تجاه أوروبا خلال ولايته الأولى في منصبه. علاوةً على ذلك، فقد عيّن في فريقه للأمن القومي أشخاصًا يرون أنَّ الصين، وليست روسيا، هي “المنافس الرئيس” والأساسي للولايات المتحدة، وآسيا، وليست أوروبا، هي المنطقة خارج نصف الكرة الأرضية ذات المصلحة الأساسية لأميركا.

لكن كما إنه من المهم عدم المبالغة في تقدير تأثير ترامب في الشؤون الدولية، فمن الأهمّية بمكان أيضًا عدم المبالغة في رد الفعل على التصريحات والأحداث التي وقعت في الأسبوع المنصرم. فالولايات المتحدة، حتى في عهد ترامب، لا تتخلّى عن حلف شمال الأطلسي أو أوروبا.

بادئ ذي بدء، في حين أنَّ التعليقات التي أدلى بها هيغسيث وفانس قد تكون مُثيرةً للقلق، إلّا أنَّ أيًا منهما لم يزعم أنَّ الولايات المتحدة مُستعدّة للانسحاب من حلف شمال الأطلسي. بل على العكس من ذلك تمامًا. في الخطاب نفسه، قال هيغسيث: “لقد صمد تحالفنا عبر الأطلسي لعقود. ونحن نتوقع تمامًا أن يستمرَّ لأجيالٍ مقبلة”. لكنه أوضح أنَّ الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لديها التزامات لا تفي بها، وأنه في البيئة الأمنية الحالية لروسيا الانتقامية، فإنها بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود – أي إنفاق 5٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع وتأمين الأراضي الأوروبية، بما في ذلك في أوكرانيا، كجُزءٍ من أيِّ اتفاق سلام محتمل، بواسطة قواتٍ أوروبية وليس قوات أميركية.

الواقع أن الأوروبيين أنفسهم شعروا بالإحباط إزاء عجزهم عن تطوير المزيد من الاستقلال الاستراتيجي، لذا فإنَّ تعليقات هيغسيث وفانس تشكل دفعةً مُفيدة. وكما أبرز هيغسيث، إذا بذلت أوروبا المزيد من الجهود لتأمين أوروبا، فإنها سوف “تؤسّسُ لتقسيم العمل الذي يعمل على تعظيم مزايانا النسبية في أوروبا والمحيط الهادئ على التوالي”. ونظرًا لأنَّ القاعدة الصناعية العسكرية الأميركية واجهت قيودًا حادة على قدرتها الإنتاجية في السنوات الأخيرة، فإنَّ مثل هذا التقسيم للعمل يبدو ضروريًا.

لم يُشِر فانس إلى عدم الالتزام بحلف شمال الأطلسي. ففي خطابه في ميونيخ، قال إنَّ “إدارة ترامب مهتمّة للغاية بالأمن الأوروبي” وأنها ترى أنَّ إنفاقَ الأوروبيين المزيد على الدفاع هو “جُزءٌ من كونهم في تحالف مشترك معًا”. أما بالنسبة إلى أوكرانيا، فقد أخبر الصحافيين خلال اجتماع مع زيلينسكي أنَّ الهدفَ هو “تحقيقُ سلامٍ دائم ومستدام. ليس السلام الذي سيجعل أوروبا الشرقية في صراع بعد عامين فقط”.

علاوة على ذلك، على الرُغم من كلِّ تهديدات ترامب بشأن استغلال أعضاء “الناتو” أميركا مجانًا خلال ولايته الأولى -وهي تهديدات ليست غير مسبوقة لرئيسٍ أميركي- أصبح ترامب في النهاية “مُعجبًا بحلف شمال الأطلسي”، بعدما ادَّعى الفَضلَ في الزيادات التي أدخلها أعضاء “الناتو” على إنفاقهم الدفاعي. في حين كانت هذه الزيادات جارية بالفعل في أعقابِ ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 والتوقيع اللاحق على تَعَهُّدِ ويلز “بالتحرُّك نحو 2٪” من الناتج المحلي الإجمالي كمعيارٍ للإنفاق الدفاعي للحلف، كان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي آنذاك ينس ستولتنبيرغ أكثر من راغب في الإشادة بترامب لدفعه القوى الأوروبية إلى إحراز المزيد من التقدّم في تلبية هذا الالتزام. بالإضافة إلى ذلك، في حين قد ترغب الولايات المتحدة في التركيز على ردع الصين، تظلُّ أوروبا مهمّة في منافسة القوى العظمى هذه. وكما كتبتُ في العام الماضي عند التفكير في أهمية “الناتو” الدائمة للولايات المتحدة، “ما دام عدم الاستقرار في أوروبا يمكن أن يؤثّرَ في الاقتصاد العالمي، وبالتالي الاقتصاد الأميركي، فإنَّ الولايات المتحدة سيكون لديها حافزٌ قوي للاحتفاظ بمقعدٍ على طاولة الأمن الأوروبي”. إذا كانَ هناكَ شيءٌ واحدٌ يقدّره ترامب، فهو الحصول على مقعدٍ على الطاولة، ويوفره حلف شمال الأطلسي، مما يمنح الولايات المتحدة القدرة على تشكيل السياسة والاستجابة عسكريًا إذا لزم الأمر، حتى لو تمَّ تقليص الوجود العسكري الأميركي اليومي.

في حين من غير المرجّح أن تتخلى الولايات المتحدة عن حلف شمال الأطلسي، لا يزال هناك بعض الأسباب للقلق بشأن أوكرانيا. وفي ما يتصل بهذه القضية، وتحديدًا إمكانية التوصل إلى اتفاقٍ لإنهاء الحرب، فإنَّ الصورة أقل وضوحًا، ويرجعُ هذا جُزئيًا إلى سلسلةٍ من الطعنات اللفظية والاتهامات التي تبادلها ترامب وزيلينسكي منذ إطلاق القناة الديبلوماسية المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. فمن ناحية، يبدو أن ترامب حريصٌ للغاية على الوفاء بوعده الانتخابي بإنهاء الحرب لدرجةٍ أنه سيفعل أيَّ شيءٍ لحملِ روسيا على وقف القتال، من انتقاد زيلينسكي علنًا ​​لعدم قبوله اتفاقًا بين الولايات المتحدة وروسيا من دون مشاركة أوكرانيا إلى دعم نتيجةٍ تصبُّ في صالحِ المكاسب الإقليمية الروسية. ومن ناحية أخرى، من المرجح بشكلٍ متزايد أن يجدَ ترامب أنَّ روسيا، وخصوصًا بوتين، ليست مهتمة حقًّا بالاتفاق بغض النظر عما يتمُّ تقديمه ومَن يجلسُ على الطاولة. الواقع أنَّ بوتين قلّلَ أصلًا من أهمّية المحادثة الهاتفية الطويلة بين الزعيمين، والتي أعلنها ترامب منتصرًا.

يرى البعضُ أنَّ التعليقات التي أدلى بها مسؤولو إدارة ترامب في الأسبوع الفائت كانت بداية النهاية للدور الأميركي الطويل الأمد في الأمن الأوروبي. ففي نهاية المطاف، يُديرُ الولايات المتحدة الآن رئيسٌ لديه رؤية تعود إلى القرن التاسع عشر للعالم ومكانة الولايات المتحدة فيه. وبعباراتٍ ملموسة، يعني هذا أنَّ الولايات المتحدة منفصلة عن مشاكل أوروبا بـ”محيط كبير جميل”، كما قال ترامب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن حتى لو لم تَعُد الولايات المتحدة تلعبُ دورًا مركزيًا في الحفاظ على الأمن الأوروبي، فهذا لا يعني أنَّ إدارة ترامب مهتمّة بالتخلّي عن حلف شمال الأطلسي إلى مزبلة التاريخ – وأوروبا لروسيا.

  • بول بوست هو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى