هل يكون المبْدع سياسيًّا ناجحًا؟

هنري زغيب*

الجمْعُ نهارئذٍ (28 حزيران/يونيو 1919) كثيفٌ في قصر فرساي: كبارُ القادة مجتمعُون لتوقيع “معاهدة السلام” بين أَلمانيا والحلفاء غَداةَ الحرب العالمية الأُولى. يُصافحهم رئيسُ وزراء فرنسا “النمر” جورج كليمانصو. يتقدَّم من رئيس وزراء بولونيا مصافحًا: “هل من قُربى بينكَ وبين العازف والمؤَلِّف الموسيقيِّ البولوني الشهير باديريفْسْكي”؟ يجيب هذا الأَخير: “بل أَنا هو”. يَرشُقُه كليمانصو باستغراب: “أَنتَ المبْدع، وترضى أَن تنحدر فتسمَّى رئيس حكومة”؟

أَفهم من جواب “النمر” كليمانصو أَنْ يضع طبقةَ المبْدعين فوقَ طبقة السياسيين (وهو منهم). سوى أَنَّ هذا لا يَصحُّ تعميمًا. فهوذا فرنسيٌّ مبْدع: الشاعر لامرتين (1790-1869) كان نائبًا لخمس دورات، ثم وزيرَ خارجية عند إِعلان “الجمهورية” (شباط 1848). وهذا فرنسيٌّ مبْدعٌ ثانٍ: الكاتب شاتوبريان (1768-1848) كان وزيرَ خارجية الملك لويس الثالث عشر (1822). وهذا مؤَلِّفٌ آخَر: بول ديشانيل (1855-1922) كان رئيس جمهورية فرنسا (1920).

ذات يوم من 1958 جَرُؤَ صحافيٌّ على سؤَال الجنرال ديغول (1890-1970): “تترأَّس جلسات الحكومة وإِلى يمينكَ وزيرُ الثقافة أَندريه مالرو، وهذا مَقْعد رئيس الوزراء”. فأَجاب ديغول بِـهَيْبَتِهِ التاريخية: “مالرو لا يَجلِس عن يميني، بل أَنا أَجلِس عن  يساره”!  إِلى هذا الحد كان رئيسُ فرنسا يَرفع من الشأْن السياسي بتوزير كاتب مبْدع يُشَرِّف بلاده.

وهوذا ليوبولد سيدار سنغور (1906-2001) كان أَولَ رئيس لجمهورية السنغال (1960-1980) وهو من كبار شعراء العالَم، ولم تَشْغلْه السياسة عن أَن يكون شاعرًا مميَّزًا وعضوًا في “الأَكاديميَا الفرنسية”.

إِنه الإِبداع الذي لا تعلو عليه مرتبة. وهو يُخلِّدُ صاحبه أَكثرَ من انشغلاتِهِ الأُخرى في الحقل العام. من هنا أَنَّ السياسي العادي (غير المبْدع أَدبًا أَو عُلُومًا أَو فنونًا) يَغْنَم أَن يتقرَّب من المبْدعين (لا أَن يُقرِّبَهم منه) فيَضْمَن خلودَه معهم.

قليلون مَن يعرفون اليوم ماذا حقَّق الخديوي إِسماعيل لمصر إِداريًّا وسياسيًّا حين حكَمَها (من 1863 إِلى 1879). لكنَّ الكثيرين في العالم يقرأُون في تاريخ الفنون أَنه هو مَن قارَبَ المؤَلِّفَ الموسيقي الإِيطالي جيوزيبي فيردي فوَضَع أُوبرا “عايدة” تتويجًا احتفالاتِ مصر بشَقِّ قناة السويس  (1869).

أَيضًا بعد؟ هذه: قليلون مَن يعرفون اليوم ماذا حقَّق لويس الرابع عشر (“الملِك الشمس”) إِبَّان حكْمه الطويل فرنسا (72 سنة و11 أَيام من 1643 إِلى 1715). لكنَّ الكثيرين في العالم يقرأُون في تاريخ الآداب والفنون أَنه فتَح قصر فرساي لمبْدعي عصره شعراء وأُدباء ومؤَلِّفين موسيقيين ومسرحيين حقَّقوا النهضة الإِبداعية في فرنسا القرن السابع عشر.

بعد؟ طيِّب. هذه أَيضًا في السياق الفرنسي: قليلون مَن يعرفون من عهد الملك لويس الثالث عشر ماذا حقَّق لفرنسا الكاردينال ريشليو وزيرًا للخارجية (1661-1617) ثم رئيس الوزراء (1624-1642). لكنَّ الكثيرين في العالَم يعرفون أَنه أَسَّس “الأَكاديميَا الفرنسية” (29 كانون الثاني/يناير 1635) وما زالت حتى اليوم، بعد 390 سنة، مجدًا يُتَوِّج “خالدين”.

أُكرِّر الأَعلاه: أَفهم عبارة كليمنصو قالها لباديريفْسْكي تقديرًا طبقةَ المؤَلِّف الموسيقي الخالدة أَعلى وأَهمَّ من طبقة رؤَساء الوزراء العابرة مهما طالت ولايتُهم السياسية.

يصْطفل الكليمانصو… لكنَّ المبْدعين، حين يَتَولَّون الحكْم، ينصِّعون بلادهم. بينما السياسيون العاديُّون، حين يَتَوَلَّون الحكْم، يحتاجون المبْدعين لتنصيع بلادهم أَكثر، ويَخْلدُ حُكْمهم في الزمان بمقْدارِما يتقرَّبون من المبْدعين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى