هل يُطبّق نوّاف سلام في الحكم ما جاء في كتابه “لبنان بين الأمس والغد”؟
كتب رئيس مجلس الوزراء اللبناني القاضي نوّاف سلام كتابًا بعد احتجاجات 2019 بعنوان “لبنان بين الأمس والغد” يوضح فيه رؤيته للبنان. فهل سيحاول الآن تطبيقها؟

عصام القيسي*
في كانون الثاني (يناير) الفائت، عَيَّنَ الرئيس اللبناني المُنتخب حديثًا العماد جوزيف عون، بعد مشاوراتٍ برلمانية، القاضي نوّاف سلام رئيسًا للحكومة. وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع بقليل، وبعد عامين من حُكمِ حكومةٍ لتصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، أعلن سلام عن حكومةٍ مُكَوَّنة من 24 عضوًا، مُتَعَهِّدًا بإعطاء الأولوية للإصلاحات المالية، وإعادة الإعمار بعد الحرب، وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل الذي تم التوصُّل إليه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي والذي يهدف إلى استقرار حدود لبنان مع الدولة العبرية.
بفضل مسيرته المهنية المُتَمَيِّزة كديبلوماسي وقاضٍ، كان سلام لفترةٍ طويلة مُناصِرًا صريحًا للإصلاح، مُتجاوزًا التحديات الأكثر إلحاحًا التي يواجهها لبنان. يقدم كتابه، “لبنان بين الأمس والغد” (الذي صدر أيضًا بالفرنسية “Le Liban d’hier à demain”)، خريطة طريق للحكم والتغيير المؤسّسي، ويُوفّرُ رؤى حول المبادئ التي قد تُشكّل ولايته. وبينما يواجهُ لبنان تحدّيات هائلة ــإعادة تأكيد سيادته، والتعامل مع الانهيار الاقتصادي، والتعامل مع عدم الاستقرار الإقليمي ــ فمن المرجح أن يتمَّ الحُكم على زعامة سلام في ضوء المبادئ التي طرحها في الكتاب.
نُشر كتاب “لبنان بين الأمس والغد” في الأصل باللغتين الفرنسية والعربية في العام 2021، ثم تُرجم إلى الإنكليزية في العام 2023، ويتناول تاريخ لبنان الحديث مع تصوّرِ مُستقبلٍ مُحتَمل. نُشر الكتاب في أعقاب حركة الاحتجاج في العام 2019 ولكن قبل أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 والحرب التي تلت ذلك بين إسرائيل و”حزب الله”، ويتأمل الكتاب الخلل السياسي في لبنان والتغييرات البنيوية اللازمة لمنع المزيد من التدهور. من خلال مجموعة من المقالات التي تمتد لعقود، يُقَيِّمُ سلام نظامَ تقاسُمِ السلطة الطائفي في البلاد، ويدعو إلى الإصلاح الدستوري، ويفحص مسار لبنان من الاستقلال إلى أزماته الحالية.
يبني سلام تحليله حول مواضيع رئيسة حدّدت التحدّيات السياسية والمؤسّسية المستمرّة التي يواجهها لبنان. وهو يشرح الهوية التاريخية للبلاد باعتبارها موطنًا لمجتمعٍ تعدُّدي، شكّلته سرديات متنافسة منذ إنشاء لبنان الكبير في العام 1920. وتتمثل إحدى نقاطه الرئيسة في تقديمِ نقدٍ للطائفية باعتبارها السبب الجذري وراء “عدم تحقيق” المواطنة اللبنانية. ووفقًا لسلام، فإنَّ هيمنة الجماعات الطائفية -كلٌّ منها تدعمُ نفسها من خلال “سرديات خيالية”- منعت اللبنانيين من تبنّي هويةٍ وطنية مُوَحّدة بشكلٍ كامل.
ويزعم أنَّ الطائفية شلّت مؤسّسات الدولة، وحوّلتها إلى أدواتٍ للرعاية السياسية بدلًا من الحكم الرشيد. وبدلًا من تقديم خدمات عامة عادلة للمواطنين، تعتمد الدولة على الزعماء الطائفيين لسدّ الفجوات، وبالتالي تعزيز التبعية الطائفية وتآكل التماسك الوطني بشكلٍ أكبر. ويصرُّ على أنَّ لبنان يجب أن يتحرّك نحو دولةٍ حديثة تحترمُ سيادة القانون وتضمن الحريات الأساسية. ويُلاحِظُ سلام أنَّ “كلّما كانت الدولة أقوى، زاد احترام الفرد”، وهو ما يعكس رأي عالم الاجتماع إميل دوركهايم ــ وهي ملاحظة ملائمة بشكل خاص، كما يعتقد سلام، في بلد حيث تتفوّق الولاءات الطائفية في كثير من الأحيان على الهوية الوطنية.
تناول سلام تاريخ الصراع في لبنان، وخصوصًا الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين العامين 1975 و1990 وتداعياتها التي ما زالت مستمرّة. ويُحذّرُ من أنه ما لم يَحُلّ لبنان توتّراته الداخلية، فإنه سيظل عُرضةً للاضطرابات الإقليمية. وفي حين يعزو سلام أصول الحرب في المقام الأول إلى المظالم الداخلية ــ وخصوصًا الافتقار إلى المشاركة التي استاءت منها الفصائل اليسارية والمسلمة في المقام الأول داخل النظام السياسي الذي كان يُهيمن عليه المسيحيون آنذاك ــ فإنه يعترف أيضًا بدور العوامل الخارجية، مثل وجود “حركة المقاومة الفلسطينية” في لبنان بعد العام 1969.
كما يشرح سلام عواقب الحرب. ويُقَيِّمُ اتفاق الطائف لعام 1989، الذي أنهى الصراع، ولكنه فشل في رأيه أيضًا في إرساءِ أُسُسٍ مُستدامة للحكم. وعلى الرُغم من أنَّ الاتفاق عزّزَ الحصص الطائفية، فإنَّ سلام يرى أنه خطوةٌ ضرورية ولكنها غير مُكتَمِلة نحو الإصلاح. ويرى أنَّ أحكامَ الدستور التي لم تُنَفَّذ بَعد، بما في ذلك اللامركزية الإدارية، وتعزيز القضاء، وتشكيل لجنة وطنية لاقتراح خطوات لإلغاء الطائفية السياسية، يجب إعادة النظر فيها. ويرفض المقترحات التي تُطالب لبنان بتبنّي الفيدرالية على أساسٍ طائفي، وهي الفكرة التي عادت إلى الظهور في الخطاب السياسي اللبناني، باعتبارها غير واقعية، وهي وجهة نظر مماثلة لتلك التي يتبنّاها تجاه التقسيم.
إنَّ سلام، الذي ينظر إلى ما هو أبعد من الطائف، يتصوّرُ نظامًا سياسيًا جديدًا يتجاوز القيود الطائفية ويُعزّزُ المشاركة الديموقراطية الحقيقية. وهو يؤكد على الإصلاح القضائي، مؤكّدًا أنَّ النظام القضائي في لبنان مشلولٌ بسبب التدخّل الطائفي. ويكتب: “إن الاتهام ضد موظف حكومي رفيع المستوى بارتكاب مخالفات أو حتى محاولة اتهامه بالفساد قد يُصَوَّرُ على أنه هجومٌ على الطائفة التي ينتمي إليها”. ويتجلّى هذا التحدي اليوم في القضايا الوطنية الكبرى، مثل التحقيق في انفجارِ مرفَإِ بيروت في آب (أغسطس) 2020، حيث تقوّضت الآمال في المساءلة بسبب العرقلة السياسية والمصالح الطائفية.
الإصلاح الانتخابي هو ركيزةٌ أخرى من ركائز رؤية سلام. وهو يدعم التمثيل النسبي والدوائر الانتخابية القائمة على المحافظة، وليس القضاء، أو الدائرة الإدارية الأصغر، إلى جانب نظام التصويت التفضيلي (الذي تم توسيعه من خيار واحد، كما هو الحال اليوم، إلى اثنين أو أكثر) والذي يُعزّز الولاءات الوطنية بدلًا من الولاءات الطائفية. ويقترح سلام أيضًا إصلاحات إضافية، بما في ذلك خفض سن الاقتراع من واحد وعشرين إلى ثمانية عشر عامًا والسماح للمواطنين بالتصويت في مكان إقامتهم أو عملهم، إلى جانب قراهم الأصلية. وتكتسب مثل هذه الإصلاحات المحتملة أهمية إضافية مع استعداد لبنان للانتخابات البرلمانية في العام 2026، والتي ستكون حكومة سلام مسؤولة عن تنظيمها.
إذا كان الكتاب مؤشّرًا إلى أيِّ شيء، وإذا وجد سلام نفسه في السلطة لفترة كافية، فمن المرجح أن تُركّزَ فترة ولايته على تعزيز الدولة على حساب هياكل السلطة الطائفية، وضمان استقلال القضاء، وتعزيز اللامركزية. مع ذلك، الآن بعدما أصبح رئيسًا للحكومة، يواجه سلام تحدّي ترجمة أفكاره إلى سياسة. يُشيرُ نهجه في تشكيل الحكومة إلى التزامٍ هادئ ولكن حازم بالمبادئ الموضَّحة في كتاب “لبنان بين الأمس والغد”. يشير اختياره للوزراء والسرعة التي جمع بها حكومته إلى تفضيله للحسم على المساومة السياسية المطوَّلة. ومن المثير للاهتمام أنَّ أحدَ مقترحاته الإصلاحية هو تعديلٌ يتطلّب من رئيس الحكومة المُكَلَّف تقديم تشكيلة مجلس الوزراء في غضون 30 يومًا من تعيينه، أو يُعتَبَرُ مُستقيلًا. وفي إظهار لالتزامه بهذا المبدَإِ، اقترح سلام تشكيل مجلس الوزراء في غضون 26 يومًا من تعيينه (بعد 30 يومًا من انتخاب عون).
مع ذلك، فإنَّ غيابَ الرؤية الاقتصادية الواضحة يُشكّلُ فجوةً كبيرة في كتابه. في حين يُقدّمُ سلام تقييمًا حادًا للنظام السياسي في لبنان، فإنه لا يقول الكثير عن الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لدعم أجندته الأوسع لبناء الدولة. وهذا الإغفال يترك جُزءًا حاسمًا من لغز التعافي في لبنان بدون حل.
يبدأ سلام كتابه باقتباس من أنطونيو غرامشي: “العالم القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد؛ وفي هذه الفترة الفاصلة تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية”. والواقع أنَّ النظام اللبناني بعد الطائف يتفكّك، والبلاد تقف عند مفترق طرق. فهل ينجح سلام في تشكيل لبنان جديد وفقًا لرؤيته، أم أن رئاسته للحكومة ستصبح فصلًا آخر من فصول دورات الجمود السياسي المَرَضية التي تعيشها البلاد؟ وسوف يتم قياس زعامته في نهاية المطاف على أساس المُثُل العليا التي دافع عنها في كتابه وعمق قدرته على التعامل مع الحقائق السياسية الراسخة في لبنان.
- عصام القيسي هو باحث ومحلل سياسي لبناني في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.