الخَلَلُ القاتِلُ في الشرقِ الأوسَطِ الجديد: غزّة وسوريا والأزمةُ المُقبِلَة في المنطقة
لا شكَّ أنَّ الشرق الأوسط الجديد في طورِ التكوين. ولكن في غيابِ الحلِّ السياسي، لن تُحقّقَ إعادةُ الإعمار الكثير في المدى البعيد. فهي لن تتمكن من إصلاح اختلال التوازن في القوة، أو التوتّرات العِرقية، أو المؤسّسات المكسورة التي تتسبّب في إراقة الدماء المستمرّة.

مها يحيى*
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، عانى الشرق الأوسط من الحرب والدمار والنزوح. فقد لقي مئات الآلاف من الناس حتفهم مع احتدامِ القتال في غزة ولبنان وليبيا والسودان وسوريا واليمن. وفرَّ الملايين طلبًا للنجاة. وأدّى العنفُ إلى تراجُع المكاسب في التعليم والصحة والدخل في حين ألحقَ الدمار بالمنازل والمدارس والمستشفيات والطرق والسكك الحديدية وشبكات الكهرباء. وأثبتت الحرب في غزة أنها كانت مُدمِّرة بشكلٍ خاص، حيث أعادت المؤشّرات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة إلى مستويات العام 1955. وقدّرَ البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة أن إعادة بناء الشرق الأوسط وتوفير المساعدات الإنسانية الكافية سيُكلّفُ ما بين 350 و650 مليار دولار. وقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنَّ ما لا يقل عن 40 إلى 50 مليار دولار مطلوب لإعادة بناء غزة وحدها.
إنَّ تقديمَ المساعدات الإنسانية والنقدية لهذه المجتمعات المُحَطَّمة والمُحبَطة أمرٌ بالغ الأهمية لبقاء الملايين، وخصوصًا في الأمد القريب. ومن المُثير للقلق أنَّ العديدَ من الحكومات الغربية، بما فيها واشنطن، يَعملُ على تقليصِ المساعدات الخارجية والمساعدات الإنسانية. ولكن في نهاية المطاف، لن تكونَ العقبةُ الرئيسة أمام إعادة إعمار العالم العربي هي نقصَ الأموال. بل ستكون النزاعات السياسية والمظالم. فالمنطقة مليئة بالدول الفاشلة. وتتميّز بقوى متنافسة تعمل على استغلال هذه الفوضى لصالحها الجيوسياسي. وهذه المشاكل مُجتمعة تجعلُ السلام الدائم مستحيلًا.
وتُدرِكُ أقوى الجهات الفاعلة في المنطقة هذا الأمر جيدًا. فقد أمضت إيران وإسرائيل والولايات المتحدة ودول الخليج العربي عقودًا في محاولةِ تشكيلِ المنطقة على هواها بدون معالجةِ الأسباب الجذرية للصراع، وقد فشلت مرارًا وتكرارًا. لقد سعت هذه الدول إلى تحقيقِ الأمن على حسابِ السلام ولكنها لم تُحقّق أيًا منهما. مع ذلك، فإنَّ خططها الحالية مُتشابِهة بشكلٍ لافت، على الأقل من حيث الروح، مع الجهود السابقة. وتلتزمُ كلُّ هذه الدول مرة أخرى برؤى لنظامٍ إقليمي جديد يتمُّ فيه إعادة الإعمار من دونِ تسوياتٍ سياسية. وطَرَحَت لهذه الغاية مقترحات نبيلة ــالتطبيع الإسرائيلي-السعودي، واتفاقية اقتصادية بين إيران ودول الخليج ــ بدون النظر في الحقائق السياسية، أو الديناميكيات المحلية، أو غيرها من العواقب الأوسع نطاقًا. ونتيجةً لهذا، فإنَّ خططها لن تضع حدًّا للعنف الدوري. بل على العكس من ذلك، فإنها ستؤجّجها.
ولتحقيق الاستقرار، يتعيّن على الشرق الأوسط الذي مزّقته الحرب أن يُغيِّرَ مساره. وينبغي على قوى المنطقة أن تتوقَّفَ عن التستُّرِ على الانقسامات الإقليمية والمحلية، وأن تقومَ بدلًا من ذلك بالعمل الشاق المتمثّل في معالجتها. ويتعيّن عليها أن تساعد المجتمعات المتصدِّعة على الالتقاء. ويجب عليها أن تُنشئ مؤسّساتٍ سياسية مسؤولة وأن تُعزّزَ أنظمة العدالة الانتقالية. إنها تحتاج إلى دعم عملية إعادة الإعمار التي تُشكّلُ جُزءًا من أجندة أوسع لبناء السلام. ويتعيّن عليها أن تعمل على خلقِ إطارٍ سياسي يَعترفُ بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وعليها أيضًا أن تتوصّل إلى كيفية حلِّ خلافاتها، أو على الأقل إدارتها على نحوٍ أفضل. وإلّا فلن تكونَ هناك أيُّ أهمّيةٍ للمبالغ التي يُنفقها العالم على إعادة الإعمار. وسوف تظل المنطقة ممزَّقة.
تجنُّب المشاكل
في العام 1945، كانت أوروبا في حالة خراب. فقد قُتِل عشرات الملايين من الناس في ست سنوات من الحرب. وأُجبِرَ ملايين آخرون على النزوح من ديارهم. ودُمِّرَ العديدُ من المدن الأكثر ازدهارًا في القارة بفعل القنابل أو بفعل المدفعية. وانهارت العملات الإقليمية، الأمر الذي دفع الناس إلى التسوُّل والمقايضة.
واستجابةً لذلك، دعت إدارة الرئيس هاري ترومان واشنطن إلى تكريس نفسها لإعادة بناء القارة. وبناءً على نصيحة وزير الخارجية الأميركي آنذاك جورج مارشال، بدأ الكونغرس تمريرَ حُزمِ مساعدات ضخمة لشعوب ومجتمعات أوروبا، فأنفق 13.3 مليار دولار (أكثر من 170 مليار دولار بأسعار اليوم) على المنطقة. ولكن هذه الأموال جاءت بشروط. كان لزامًا على المُتلقّين أن يزيلوا معظم الحواجز أمام التجارة مع الدول الأوروبية الأخرى. وكان لزامًا عليهم أن يتبنّوا سياسات تزيد من صادراتهم إلى الولايات المتحدة وتجعلهم يستوردون المزيد من السلع الأميركية. ولم يكن الهدف مجرّد إعادة بناء منازل أوروبا وطرقها وجسورها. كان الهدف من خطة مارشال هو إدخال القارة في النظام الليبرالي الناشئ بقيادة الولايات المتحدة.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية. إنضمت الدولُ المستفيدة من أموال خطة مارشال إلى منظمة حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، مُلتزمةً بالدفاع الجماعي. كما عملت على إدماج اقتصاداتها، الأمر الذي مهّدَ الطريق أمام قيام الاتحاد الأوروبي لاحقًا. وبفضل هذه القرارات، لم تتعافَ أوروبا اقتصاديًا من الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية فحسب، بل أصبحت بعد قرون من القتال واحدة من أكثر مناطق العالم سلمًا وازدهارًا.
إنَّ حجمَ الدمار الذي حلَّ بالشرق الأوسط اليوم يُشبه حجم الدمار الذي حلَّ بأوروبا في العام 1945. أعدادُ القتلى مُذهلة، إن لم تكن بالقدر نفسه من الارتفاع. تمَّ القضاءُ على اقتصاداتٍ بأكملها. وفقدت العملات الوطنية معظم قيمتها: فَقَدَ الريال اليمني 80٪ من قيمته منذ العام 2014. والأضرار الأكثر وضوحًا هي في غزة، حيث تجاوز عدد القتلى الرسمي حتى أواخر كانون الثاني (يناير) 47,000 -وهو تقديرٌ أقل من المرجَّح- وحيث أدى القصف الإسرائيلي إلى تحويل حوالي 70٪ من مبانيها إلى أنقاض في غضون عام واحد فقط. (توقعت الأمم المتحدة أن يستغرق إزالة الحطام فقط أكثر من عقد). لكنَّ دولًا أخرى عانت أيضًا من خسائر مماثلة. أدّت الحرب الأهلية السورية التي استمرّت 14 عامًا إلى نزوح 12 مليون شخص وقتلت أكثر من 600,000 شخص؛ يعيشُ أكثر من 90٪ من سكان البلاد الآن تحت خط الفقر الدولي. في اليمن، أصبح أكثر من نصف السكان الآن فقراء. إنَّ ما يقرب من عشرين مليون إنسان في الشرق الأوسط يحتاجون إلى مساعدات إنسانية مباشرة. كما أسهم سوء الإدارة الاقتصادية والممارسات الاستغلالية في التدهور الاقتصادي، وخصوصًا في مصر والعراق ولبنان.
إنَّ الشرقَ الأوسط يحتاجُ إلى خطة مارشال. ولكن على النقيضِ من أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا توجد دولة تقدّمت أو أعلنت أنها مستعدة لفعل ذلك. لا يوجد بطل واحد للمنطقة، ولا يوجد إجماع حول كيفية إخراج المنطقة من مستنقعها. بل على العكس من ذلك، يعاني الشرق الأوسط من الانقسام والتنافس. والشيء الوحيد المشترك بين المقترحات الأميركية والإيرانية والإسرائيلية والتركية والخليجية المختلفة هو أنها أهملت التحدّيات الأساسية.
لنتأمل أوّلًا النهج الأميركي. فواشنطن تعتقد أنَّ أُسُسَ الشرق الأوسط الأفضل تتضمّن إضعاف إيران، المُنافِس الإقليمي الرئيس للولايات المتحدة، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية على أمل فتح استثمارات جديدة. وتريد واشنطن المساهمة في إعادة بناء غزة، رُغم اعتقادها بأنَّ الأموال لا بُدَّ أن تأتي إلى حدٍّ كبير من الدول العربية. لكن الخطة الأميركية تدعو إلى إعادة الإعمار من دون أيِّ أُفُقٍ لحلٍّ سياسي للفلسطينيين. واليوم، أصبحت غزة التي تتخيّلها واشنطن إما فضاءً مُطَهَّرًا عرقيًا من الفلسطينيين أو فراغًا سياسيًا غير خاضع للحُكم من شأنه أن يظلَّ مستقرًّا بطريقةٍ أو بأخرى.
يتقاسم الإسرائيليون هذه الفانتازيا أو الخيال. لكن بعضهم يريد أن يكون أكثر عدوانية عندما يتعلّق الأمر بطهران والفلسطينيين. والإسرائيليون يؤيدون الحرب في غزة على نطاق واسع، وحتى بعد وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير)، يريد كثيرون منهم العودة إلى القصف. وقد تعزّزت نزعة الحرب لدى القادة الإسرائيليين بفضل نجاحهم في إضعاف إيران و”حزب الله” ــ الميليشيا اللبنانية التي تدعمها طهران. لا تريد إسرائيل إعادة بناء غزة إلّا بعد “إزالة التطرّف” عند الفلسطينيين، على حد تعبير مسؤولي الأمن الإسرائيليين السابقين عاموس يادلين وأفنير غولوف، وإثبات قدرتهم على “الحكم الفعّال”. كما إنَّ بعض المسؤولين الإسرائيليين لا يريد إعادة إعمار غزة على الإطلاق.
الرؤية الإسرائيلية خاطئة من الناحية الأخلاقية: يتمتع الفلسطينيون بحَقِّ لا لبس فيه في تقرير المصير. وهي أيضًا غير قابلة للتطبيق. فمهما حاولت إسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكنهما تحقيق السلام من خلال تجاوز الفلسطينيين. والواقع أنَّ محاولة القيام بذلك هي التي أوصلتهما إلى هنا. خلال فترة ولاية دونالد ترامب الأولى كرئيس، أقنعت الولايات المتحدة البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل كجُزءٍ من اتفاقيات أبراهام، ما أدّى إلى خلق ما كان يأمل ترامب أن يكون ميثاقًا أمنيًا وتجاريًا واستثماريًا بقيادة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، كثّفت إسرائيل بناء المستوطنات، وزادت من القمع، ووسعت سلطتها على الأراضي الفلسطينية. وردًا على ذلك، شنّت “حماس” هجومها المُرَوِّع في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقال زعيم حركة “حماس” إسماعيل هنية في تفسيره للهجوم: “كل عمليات التطبيع والاعتراف وكل الاتفاقيات التي تمَّ توقيعها [مع إسرائيل] لا يمكن أن تضع نهاية لهذا الصراع”.
أثارَ الهجومُ ردَّ فعل إسرائيليًا غاضبًا، ما أوقف التقدم نحو اتفاقٍ إسرائيلي-سعودي ودفع إيران ووكلاءها من غير الدول إلى القفز إلى المعركة. إستطاعت إسرائيل من منع “محور المقاومة” هذا من التسبّب في أضرار جسيمة، وأضعفت القوات الإسرائيلية إيران نفسها. لكن الجمهورية الإسلامية ردّت باقتراحِ سلامٍ مُصَمَّمٍ لتقويضِ عدوّتها، وعرضت الانضمام إلى جيرانها العرب في ميثاق عدم اعتداء واتفاق اقتصادي يهدفُ جُزئيًا إلى عزل إسرائيل.
صحيحٌ أنَّ الكثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الجمهورية الإسلامية كقوة إقليمية يحتاجون إلى التعامل معها. وفي أعقاب الحملات الجوية الإسرائيلية في غزة ولبنان وسوريا واليمن، ترى شعوب المنطقة الآن إسرائيل باعتبارها الفاعل الأكثر تطرُّفًا وتدميرًا في الشرق الأوسط. لكن هذا لا يجعل رؤية إيران أكثر واقعية. إنه يخفي سلوك إيران التخريبي في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك رعايتها للجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة وما ينتج عن ذلك من انعدام القانون وفشل الدولة. يعترف مُخَطَّط إيران بحق تقرير المصير الفلسطيني. ولكن الدول العربية تريد إنهاء الفوضى الإقليمية، وليس مجرد إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
ثم هناكَ رؤيةٌ طرحتها دول الخليج العربية ــالبحرين والكويت وعُمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدةــ من خلال مجلس التعاون الخليجي. وربما تكون هذه الرؤية هي الأكثر طموحًا. وتتضمّن مقترحات المجلس قيام دول الخليج بتعميق تكاملها الاقتصادي، وإنشاء آليات دفاع مشتركة، ثم حلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بطريقة أو بأخرى من خلال حلِّ الدولتين الذي أصبح مستحيلًا عمليًا الآن. ويعترف الاقتراح، مثل الاقتراح الإيراني، على الأقل بأنَّ إنهاءَ هذا الصراع هو المفتاح لتحقيق الأمن الإقليمي. ولكنه لا يضع أي آلية معقولة للتوصُّل إلى اتفاق. كما إنَّ خطة دول الخليج لا تقول إلّا القليل عن الصراعات الأخرى في المنطقة أو كيفية معالجتها.
في أفضل الأحوال، لن تُحقّقَ هذه الرؤى المختلفة سوى القليل. وفي أسوَإِ الأحوال، ستولّدُ المزيد من الصراع، كما فعلت اتفاقيات أبراهام. ومن خلال التركيز بشكلٍ كبير على الأمن، حوّلت السلام إلى مسألة تتعلق بالتنمية الاقتصادية والقوة. ويبدو أنَّ قوى الشرق الأوسط تعتقد أنَّ الشعوب التي مزّقتها الحرب سوف ترضى بالبناء الجديد – لا حاجة إلى العدالة أو المساءلة أو القيادة الجيدة. وإذا لم يكن الناس راضين، فيمكن التعامل معهم من خلال العنف: على سبيل المثال، يمكن لإسرائيل اعتقال وقتل الفلسطينيين الذين يطالبون بالمساواة في الحقوق. مثل هذه الافتراضات خطيرة وخاطئة.
الفوضى تسود
في قلب مشاكل المنطقة تكمُنُ أسئلة الحُكم. لقد انقسمت بلدانٌ عدة أو انهارت، مع هيمنة مراكز القوة المتنافسة في كثير من الأحيان على مجموعاتٍ عرقية أو سياسية معيَّنة. ولا يوجد مكانٌ أكثر وضوحًا من سوريا، حيث أدت سنوات الحرب إلى إضعاف العلاقات بين مركز البلاد ومحيطها وأدت إلى ظهور مجموعة متنوّعة من الحكّام المحليين. بعض الأماكن يسيطر عليه الأكراد. الأماكن التي حافظ فيها الأسد على أعلى مستويات الدعم هي تلك التي يسكنها مجتمعه العلوي. ويخضعُ الجنوب لسيطرة ما يُسمّى بغرفة عمليات الجنوب، وهي تحالفٌ من الفصائل المتمرّدة التي نشأت في العام 2011 وتميلُ إلى أن تكون أقل تطرُّفًا إسلاميًا من الجماعات الأخرى. تتألف المنظمة التي طردت الأسد في النهاية من السلطة، “هيئة تحرير الشام”، من جهاديين سنّة سابقين يشملون مقاتلين غير سوريين. وهم يزعمون أنهم لن يُميِّزوا ضد الجماعات الأخرى. ولكن منذ استيلائهم على دمشق، شهدت البلاد ارتفاعًا في عمليات القتل الانتقامية والعنف الجماعي الذي يستهدف العلويين. وبدون عملية سياسية شاملة، ستظلُّ سوريا ممزَّقة بجميع أنواع الانقسامات.
لقد أدّى التدخُّل الدولي إلى تعميق هذه الخلافات، وسيستمر في تعميقها. تتنافسُ القوى الرئيسة في الشرق الأوسط باستمرار على المزيد من النفوذ الإقليمي، لذلك عندما تحدث الحروب، غالبًا ما تدعم هذه القوى مجموعات مختلفة. في سوريا، على سبيل المثال، تدعم تركيا “هيئة تحرير الشام” وفصائل أخرى في الشمال. وتُساعد الولايات المتحدة الأكراد. كما تتمتع الأردن والإمارات العربية المتحدة بنفوذ كبير على غرفة العمليات الجنوبية في سوريا. ومن جهتها تحاول إسرائيل تعزيز علاقاتها مع المجتمع الدرزي في سوريا واستخدمت الفراغ في السلطة لاحتلال حوالي 155 ميلًا مربعًا من الأراضي السورية.
في الوقت الحالي، تحافظ الفصائل السورية على السلام وعدم التقاتل في ما بينها. في الواقع، في اجتماعٍ عُقِدَ في 29 كانون الثاني (يناير)، اجتمعت الجماعات الرئيسة المشاركة في الإطاحة بالأسد لتعيين زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع رئيسًا جديدًا للبلاد. ولكن على الرُغم من أن أحمد العودة، الشخصية الرائدة في غرفة العمليات الجنوبية، أرسل ممثّلًا إلى هذا الاجتماع، إلّا أنه لم يحضر. كما قاطعته الفصائل الكردية والدرزية تمامًا. مع رحيل عدوهم المشترك، قد تنقلبُ الميليشيات السورية على بعضها البعض. وإذا حدث ذلك، فقد يبدو مستقبل سوريا مثل حاضر الصومال، حيث تسيطر فصائل مختلفة على بُقَعٍ مختلفة من الأراضي. أو قد يبدو مثل ليبيا القريبة. سوريا وليبيا بلدان مختلفان للغاية، لكن ليبيا أيضًا شهدت ثورة “الربيع العربي” التي وحّدت مجموعات مسلّحة متعددة ضد دكتاتور حكم الجماهيرية السابقة لفترة طويلة. نجحت هذه المجموعات في إطاحة معمر القذافي في العام 2011. ولكن بمجرد رحيل القذافي، بدأت في قتال بعضها البعض من أجل الهيمنة بدعمٍ من جهاتٍ خارجية، بما فيها تركيا والإمارات العربية المتحدة وعدد من الدول الأوروبية. واليوم، تحظى السلطات المتنافسة في الأجزاء الشرقية والغربية من البلاد بدعمِ رُعاةٍ مختلفين.
بعد أكثر من عشر سنين على الحرب الأهلية، انقسمت اليمن سياسيًا، مثل ليبيا، بين سلطتَين متنافستين رئيستَين: الحوثيون في الشمال ومجلس القيادة الرئاسي. (يسيطر الحوثيون على ثلث مساحة البلاد وثلثي السكان). هنا أيضًا، أدت المنافسة بين الغرباء إلى تعزيز الصراع. تدعم إيران الحوثيين. وتستضيف السعودية مجلس القيادة الرئاسي. لكن مجلس القيادة الرئاسي نفسه مُنقَسِم، والمنافسة الخارجية تؤدي إلى الخلاف داخله. على سبيل المثال، تدعم الإمارات مجموعةً تُريد، على الرُغم من كونها جُزءًا من المجلس، انفصال الجُزء الجنوبي من اليمن. خلقت التوترات الإماراتية-السعودية بشأن محافظة حضرموت اليمنية الغنية بالنفط المزيد من الانقسامات، حيث تسيطر السعودية عمومًا على المناطق الداخلية من المحافظة وتهيمن الإمارات على الساحل. اشتبك الوكلاء التابعون لكلا القوتين، وقد يتحوّلُ الصراع بينهما إلى أكثر عنفًا في الأشهر المقبلة. وقد مكّنت هذه الفوضى بدورها تنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” والجماعات الإرهابية الأخرى من توسيع عملياتهما في شرق وجنوب اليمن.
من الواضح أنَّ التدخُّلَ الأجنبي في صراعات الشرق الأوسط ضارٌ بالسلام. ولكن هناك جانبًا إيجابيًا في كلِّ تدخُّلٍ خارجي. ولأن الأطراف المتحاربة تعتمد على رعاةٍ دوليين، يمكن للجهات الفاعلة الخارجية أن تدفع باتجاه التوصُّل إلى حلول. ونتيجةً لهذا، فإن التقارب بين القوى الإقليمية ــمثل اتفاق التطبيع لعام 2023 بين إيران والسعوديةــ قد يساعد على تهدئة الصراع.
ولكن لكي تكون الجهات الفاعلة الإقليمية وسيطة فعّالة، يتعيّنُ عليها أن تُسَوّي وتُعالج خلافاتها بشكلٍ أكثر شمولًا. والتنافس المتصاعد بين السعودية والإمارات حول أيٍّ منهما سيكون المركز السياسي والاقتصادي العربي الرئيس في الشرق الأوسط يُشكّلُ إحدى نقاط التوتر، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالصراعات في السودان وسوريا واليمن. ويخلق دعم قطر وتركيا للجهات الفاعلة الإسلامية مشاكل مع مصر والأردن والسعودية والإمارات. وعلى الرُغم من أنَّ التقارب الإيراني-السعودي خفّفَ من الانقسامات الطائفية، فإنه لم يَحُدّ من دعم إيران للجهات الفاعلة غير الحكومية القمعية. ونتيجةً لهذا، لا يمكنها أن تفعل الكثير لتعزيز الهدوء الإقليمي.
ولكن حتى لو تمكّنت هذه البلدان من تسوية خلافاتها بالكامل، فإنها لن تتمكّنَ من ضمان السلام. فهي لا تزال بحاجة إلى حَملِ القوى المحلية على تنفيذِ تسوياتٍ تُعيدُ بناءَ الدول، وتضمن العودة الآمنة للنازحين، وتُصلِح النسيج الاجتماعي المُمزَّق. ولا يوجد ما يضمن امتثال هذه الجهات الفاعلة، التي تُصَلِّبها سنواتٌ من الحرب. وستكون قضية العدالة الانتقالية، على وجه الخصوص، شائكة. فبعد القتال، هناك حاجة إلى قدرٍ مُعَيَّن من التسامح حتى تلتئم المجتمعات. ولكن لا يمكن أن يكون هناك عفوٌ واسع النطاق، وخصوصًا لأولئك المسؤولين عن الفظائع التي ارتُكبت في مجال حقوق الإنسان. في نهاية الحرب الأهلية، اختار لبنان إصدار عفو شامل عن كل الفظائع التي ارتُكِبت خلال الصراع الذي دام خمسة عشر عامًا. واعتقدَ القادة أنَّ القيام بذلك من شأنه أن يؤمّن السلام بسرعة ويسمح للبلاد بإعادة البناء. كما أملوا في حماية أنفسهم من الملاحقة القضائية. لكن بدلًا من ذلك، شهد لبنان اضطرابات مدنية دورية مع استمرار المظالم الناجمة عن الحرب في التفاقم، وأحيانًا بناءً على طلب من زعماء الصراع القدامى. إن تجنُّبَ المصير عينه يتطلّبُ من القادة الجدد في سوريا محاسبة كبار المسؤولين في نظام الأسد على الفظائع التي ارتُكِبت على مدى 54 عامًا من الحكم الاستبدادي. والفشل في القيام بذلك لن يؤدّي إلّا إلى تشجيع المزيد من الأعمال الانتقامية الفردية ــ وهو ما من شأنه بدوره أن يجعل من الصعب تأمين حلٍّ سلمي دائم.
لا عدالة، لا سلام
في الشرق الأوسط، لا يوجد نهجٌ واحد يُناسب الجميع لإنهاء الصراعات أو إعادة بناء ما تهدّم أو فُقِد. إنَّ الحروب التي ابتُلِيَت بها المنطقة تشترك في العديد من الخصائص، ولكن لأنها مستمرة منذ سنوات، فقد طوّرت ديناميكياتها الخاصة. ففي لبنان على سبيل المثال، لا يتمثّل التحدي في إعادة بناء ما دمّره الصراع مع إسرائيل فحسب، بل يتعلق الأمر أيضًا بإعادة بناء نظام سياسي مكسور، ومحاولة حمل “حزب الله” على نزع سلاحه أخيرًا، وتعزيز المؤسّسات الوطنية الضعيفة. إنَّ سوريا، التي دمّرتها الحرب تمامًا، تحتاج إلى تسويةٍ سياسية جديدة تمامًا. ولكن لا ينبغي لسوريا أن تُعيدَ مركزية السلطة، كما فعلت في عهد الأسد. وأيُّ حلٍّ قد ينشأ لا بُدَّ أن يحظى بدعم في مختلف أنحاء البلاد. ويجب أن يأخذ في الاعتبار الديناميكيات المحلية التي تجسّدت أثناء الصراع.
بالنسبة إلى غزة، فإن التحديات التي تواجهها أعمق من ذلك بكثير. فقد تكون هناك سابقة تاريخية لحجم ونطاق الدمار الذي لحق بالقطاع. ولكن على النقيض من الأماكن الأخرى التي تحوّلت إلى خراب، فإنَّ غزة ليست دولة. فهي لا تسيطر على حدودها. وهي مُحاصَرة، ومعزولة عن الأسواق الخارجية. وتفتقر إلى كلِّ أنواع الموارد الأساسية، بما في ذلك المياه والغذاء والأراضي اللازمة للإنتاج الزراعي أو الصناعي. وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن جعلها صالحة للسكن، ناهيك عن كونها قابلة للاستمرار اقتصاديًا. ولا توجد خطة واضحة بشأن مَن سيتولّى زمام المبادرة في إعادة بناء غزة ثم حكمها. في الأمد القريب، قد تحتاج غزة إلى إدارة سلطة انتقالية يُنشِئها مجلس الأمن الدولي: وهي الآلية التي استُخدِمَت للمساعدة على إعادة بناء أجزاء من البلقان وكمبوديا في تسعينيات القرن العشرين، عندما دُمِّرَت قدرة الحكم المحلي. وفي نهاية المطاف، سوف تحتاج غزة إلى حكّام فلسطينيين يتمتّعون بدعمٍ ديموقراطي. ولكن في الوقت الحالي، لا توجد حلولٌ قصيرة أو طويلة الأجل.
في غياب التسويات السياسية، فإنَّ توزيع أموال إعادة الإعمار سوف يكون صعبًا. والواقع أن تقديم المساعدة من شأنه أن يخلق التوتر. إنَّ الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية تتلاعب غالبًا بتوزيع المساعدات، ما يؤدي إلى خلق اقتصادٍ مُنحرف يترك بعض الناس يشعر بالمرارة والتشجيع للآخرين. كما يمكن للمجموعات السياسية أن تستخدم المساعدات لتمكين نفسها على حساب الحكومات.
لا يعني أيٌّ من هذه التحديات أنَّ جماعات المساعدات الإنسانية لا ينبغي لها أن تغمر الأماكن المحطّمة والمُدَمَّرة العديدة في الشرق الأوسط ــ وخصوصًا غزة ــ بالدعم. فالمنطقة تضم ملايين الأشخاص الذين هم بلا مأوى. وهناك ملايين آخرون يتضوَّرون جوعًا أو يحتاجون إلى رعاية طبية. وهم في احتياج إلى أيِّ مساعدة يمكنهم الحصول عليها، وهم يحتاجون إليها بسرعة.
لا شكَّ أنَّ الشرق الأوسط الجديد في طور التكوين. ولكن في غياب الحلّ السياسي، لن تُحقّقَ إعادة الإعمار الكثير في المدى البعيد. فهي لن تتمكّنَ من إصلاح اختلال التوازن في القوة، أو التوترات العِرقية، أو المؤسّسات المكسورة التي تتسبّب في إراقة الدماء المستمرة. ولن تتمكن من دفع القوى الأجنبية إلى العمل معًا، بدلًا من العمل في أغراض متعارضة. وربما تساعد الناس حَرفيًا على إعادة بناء منازلهم ومتاجرهم ومدارسهم. ولكن إلى أن يتحقّق السلام الدائم، فقد تنهار هذه المباني من جديد عندما يعود الصراع حتمًا.
- مها يحيى هي باحثة ومُحلّلة سياسية لبنانية ومديرة مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.