جيش، شعب، ماليّة
الدكتورة ميرنا زخريّا*
صحيحٌ أنَّ بدايات انخراط “حزب الله” في الحياة السياسية اللبنانية، منذ العام 2005 وحتى العام 2011، شهِدتْ صعودًا لِثُلاثية “جيش، شعب، مقاومة”. حينها كان الشعب اللبناني خاصةً والعربي عامةً يؤيّد ويُساند “حزب الله” المقاوِم؛ لا سيّما بعد إعلان تحرير جنوب لبنان من العدو الإسرائيلي في العام 2000 بدون حتى اللجوء إلى مفاوضاتٍ واتفاقيات مع إسرائيل، ولا سيّما أيضًا أنَّ نضاله ذاك كان مُحصَّنًا بالدستور اللبناني وبميثاق الأمم المتحدة اللّذين ينصّان على حق الشعب في الدفاع عن نفسه.
لكنْ سُرعان ما تسلّحَ وتوسّعَ العنصر الثالث مِن تلك الثلاثية، واستطابَ له أن يستقلّ ويستقرَّ خارج حضن وطنه الأم، كما واستطابَ له أن يتدخّلَ ويتنشّط داخل أوطان الآخرين؛ لكأنه خلعَ عنه رداء مقاوَمة عدو لبنان الأوحد الأمر الذي يُحتِّم عليه البقاء حصرًا في أرضه لِمواجهة أي اعتداء، ولكأنه ارتدى رداءً إيديولوجيًا يتخطّى عملية الدفاع عن النفس وتحرير الأرض. واستتباعًا، علَت الأصوات التي اعتبرت بأنَّ الثلاثية الذهبية قد أدّت قسطها للعُلى وبأنها قد أضحت ثلاثيةً خشبية، فالحزب تحوّل إلى جيشٍ نظاميٍّ ولم يعُد مجرّد مقاوَمة؛ ومذ ذاك الحين هبطت مرحلة “جيش، شعب، مقاومة” وأقلعت مرحلة “جيش، شعب، حزب”، حيث ذهب الحزب بمفرده بعيدًا بدون استئذانِ الحكومات أو استفتاءِ المواطنين والمواطنات.
أمّا في العام 2023، وحالَما فاجأت حركة “حماس” كل العالم بتنفيذِ هجومٍ أسمته “طوفان الأقصى”، حتى فاجأ الحزب كل اللبنانيين بحربٍ أسماها حرب الإسناد والإشغال، مساندةً لفلسطين والفلسطينيين عبر إشغال العدو بلبنان واللبنانيين! بإختصار، مِن حرب “لَو كنتُ أعلَم” إلى حرب “كلّنا كنّا نعلَم”، خسر الحزب: أجزاءً من الغطاء الشعبي ومن القادة والمجاهدين ومن العتاد والمعابر والمخازن والأنفاق، بالإضافة إلى خسارة سياسية في الإستحقاقَين الرئاسي والحكومي وهنا بيت القصيد الذي أخصبَ قرار التمسّك بِمزايا التوقيع الثالث في وزارة المال، ما يشي بِعدم ارتياحٍ تجاه التوقيعَين الأول والثاني، إذ يتجلّى أنه حين ينخفض منسوب الثقة بأصحاب التوقيعَين الأوَّلَين، يعلو عندئذ منسوب التشبّث بالماليّة والعكس صحيح. وبناءً عليه، وُلدت ثلاثية ثالثة قوامها “جيش، شعب، ماليّة” وعُكّازها الطائفية، لكنْ رغم ذلك استبشر اللبنانيون خيرًا إذ غابَ شبح الثلث المعطِّل عن التشكيلة الحكومية وغابت معه الإمكانية التعطيلية.
مَن كانَ لِيصدِّق بأنَّ ثلاثية “جيش شعب مقاومة” التي عرفها لبنان سوف تُعلِّق تَسليح شبابها وتُغلِق أبوابها! وبأنَّ ثلاثية “جيش شعب حزب” سوف تُخلي قواعد انتشارها في الخارج وتعود أدراجها إلى الداخل! وبأنَّ ثلاثية “جيش شعب ماليّة” سوف تُبصر النور بمباركة ثلاثية فُجائية دمجَت “الحركة، الحزب مع رئيس محكمة العدل الدولية”!
أمّا بعد، فَها هو العدو فوق أرض لبنان وها هو لبنان تحت بنود الوصاية.. أما آنَ الأوان لانتصاراتٍ من نوعٍ آخرٍ؟ لا سيّما أنَّ القرارات الدولية واضحة وجليّة وهي تَعلو فوق القرارات المحلية، أمّا الإستراتيجية الدفاعية فلتكُن فعليًا دفاعية وليست هجومية ولا حتى إسنادية أو إشغالية أو إستباقية.. يتوقُ لبنان إلى انتصارٍ يحمي الوِحدة الوطنية بعد سلسلةٍ مِن الإنقسامات، إلى انتصارٍ يحفظ ويبني ما تهدّم بعد سلسلةٍ مِن الغارات، إلى انتصارٍ يعبُر بالمواطن إلى دولة المؤسسات بعد سلسلةٍ مِن الإفلاسات، إلى انتصارٍ يصون من الآن وصاعِدًا ثلاثية “جيش شعب دستور” بعد سلسلةٍ مِن الثُلاثيّات، فالدستور هو القانون الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
- دكتورة ميرنا زخريّا هي باحثة لبنانية في عِلم الإجتماع السياسي.