تونس تَفضَحُ نهجَ أوروبا في التعامُلِ مع الهجرة
في مواجهة الإدانة الداخلية والخارجية المتزايدة لنهجها الحالي، يتعيّن على أوروبا أن تضع استراتيجية للتعامل مع أزمة الهجرة بطريقة إنسانية تحترم حقوق الإنسان.

سارة يَركِس وسابينا هينبيرغ*
الوضعُ العالمي للمهاجرين في العام 2025 يبدو محفوفًا بالمخاطر في أحسن الأحوال. ففي بلدانِ المقصد الغربية، تكتسبُ الحكومات المُعادية للمهاجرين وكارهة الأجانب قوة. وفي بلدان العبور، وخصوصًا في جنوب البحر الأبيض المتوسط، تُنفّذُ الحكومات أوامر أوروبا إما بترحيل المهاجرين أو إساءة معاملتهم سعيًا إلى شقِّ طريقهم إلى أوروبا. والنتيجة هي نموذجٌ غير مقبول وغير فعّال لإدارة الهجرة. ولعلَّ هذا لا يظهر في أيِّ مكانٍ أكثر وضوحًا من تونس، التي تُعَدُّ حاليًا نقطةَ الانطلاق الرئيسة للمهاجرين من بلدان ثالثة الذين يعبرون القارة وكذلك المواطنين الذين يحاولون الفرار من القمع المتزايد في أوطانهم.
يندرج المهاجرون الذين يغادرون تونس إلى أوروبا، ويسافرون عبر ما يُعرف بطريق البحر الأبيض المتوسط المركزي، في ثلاث فئات: غير التونسيين (في المقام الأول من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى) الذين يعبرون تونس أو يحاولون عبورها؛ والتونسيون الذين يغادرون عبر قنوات منتظمة؛ والتونسيون الذين يغادرون عبر قنوات غير منتظمة. وينصبُّ معظم الاهتمام العالمي على الفئة الأولى.
وبحسب الإحصاءات الرسمية التونسية، انخفض عدد المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون إلى أوروبا من تونس بشكلٍ كبير في العام 2024 إلى 19,245 – انخفاضًا من 97,667 في العام 2023. ووفقًا ل”فرونتِكس”، وكالة حرس الحدود والسواحل الأوروبية، فإنَّ 7679 -أو ما يقرب من 40 في المئة- من الوافدين في العام 2024 كانوا تونسيين. لكن هذا الانخفاض في الوافدين لا يعني أنَّ المشكلة قد تمَّ حلها. بالإضافة إلى ما يقرب من 20 ألفًا وصلوا إلى أوروبا، تم اعتراضُ 80 ألف مهاجر غير نظامي آخرين في المياه بين تونس وإيطاليا (زيادة من حوالي 70 ألفًا في العام 2023 و31 ألفًا في العام 2022) وغرق مئات آخرون. ووصفت المنظمة الدولية للهجرة طريق وسط البحر الأبيض المتوسط بأنه “أخطر طريق هجرة معروف في العالم”.
ويبقى العديد من المهاجرين في تونس إلى أجلٍ غير مُسمّى. ووفقًا للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كان هناك في نهاية العام الفائت 15,514 لاجئًا وطالب لجوء مُسجَّلين في تونس (وهي دولة لا يزيد عدد سكانها عن 12 مليون نسمة). كما أفادت الحكومة التونسية أنَّ 7250 مهاجرًا غير نظامي من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى عادوا طوعًا إلى بلدانهم الأصلية في العام 2024.
في الماضي، تعاونت الدول الأوروبية والمغاربية بشأن الهجرة القانونية. واعترفت الاتفاقيات الثنائية مثل الاتفاقية الفرنسية-الجزائرية لعام 1968 واتفاقية الصداقة لعام 2008 بين إيطاليا وليبيا ضمنًا بمسؤولية الاستعمار الأوروبي عن مستويات التنمية الضعيفة نسبيًا في المغرب العربي. كما دفع نقص العمالة في أوروبا إلى وضع خططِ حصص وصفقات لزيادة التأشيرات للعمال التونسيين في إيطاليا. ومن وجهة نظر حكومات المغرب العربي، تساعد مثل هذه السياسات على تخفيف الضغوط الناجمة عن البطالة ونقص الفرص مع توليد التحويلات المالية أيضًا.
ولكن الأعداد المتزايدة من المهاجرين غير النظاميين، أو أولئك الذين لا يستوفون المتطلّبات القانونية لعبور الحدود، في السنوات الأخيرة غيّرت موقف الدول الأوروبية. وتحرُصُ الدول الأوروبية “المواجهة” مثل إيطاليا بشكلٍ خاص على الحدِّ من مثل هذه الحركة، وقد قادت الهجوم على ما أطلق عليه كثيرون استراتيجية أوروبا “لإخراج” إدارة الهجرة إلى الخارج ــ أي دفع الأموال للدول الجنوبية لفرض قيود على أمن الحدود.
قد تتولّى حكومات جديدة مُعادية للهجرة السلطة قريبًا في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا. في 23 شباط (فبراير) الجاري، ستعقد ألمانيا انتخابات فيدرالية مبكرة بعد سقوط الائتلاف الحاكم. إنَّ حزب البديل اليميني المتطرّف في ألمانيا آخذٌ في الصعود، وإذا نجح، فقد يدفع ألمانيا نحو موقفٍ أكثر كراهية للأجانب ومعاداة للمهاجرين. وفي فرنسا، حقق حزب التجمع الوطني اليميني المتطرّف المناهض للهجرة بشكلٍ صريح بقيادة مارين لوبان مكاسب تاريخية في الانتخابات المبكرة في حزيران (يونيو) 2024. وعلى الرُغم من أنه ليس في السلطة الآن، إلّا أنه أكثر نفوذًا من أيِّ وقت مضى.
لقد تعرّض النهج الأوروبي لضغوطٍ مُتزايدة. وكما تُظهِرُ البيانات، استجاب المهاجرون غير النظاميين بتحمّل مخاطر متزايدة أو التحوُّل إلى طرق أخرى. وفي الوقت نفسه، يتعيّن على الحكومة التونسية المُوازَنة بين منعِ المغادرة إلى أوروبا وأهدافٍ أخرى. تميل السلطات التونسية إلى التسامح مع التهريب عبر الحدود الجزائرية والليبية -والتي تقدر بنحو 5,000 شخص في العام 2023 وحده- لأنه يساعد الاقتصادات في المجتمعات الحدودية ويمكن أن يساهم في جمع المعلومات الاستخباراتية ضد التهديدات مثل الإرهاب. يصل العديد من المهاجرين من غرب إفريقيا -الذين أزالت الحكومات التونسية سابقًا متطلبات التأشيرة لهم في محاولة لتحسين العلاقات مع دول أخرى في القارة السمراء- إلى تونس أيضًا على متن رحلات تجارية. ومع ذلك، تفتقر تونس إلى إطارٍ قانوني -ناهيك عن استراتيجيةٍ أوسع- للتعامل مع هؤلاء الوافدين. لقد أدى تسييس الرئيس قيس سعيِّد للهجرة وخطابه إلى تأجيج المواقف العنصرية، ما ساهم في التمييز ضد مواطني جنوب الصحراء الكبرى المحاصرين فعليًا داخل تونس. إنَّ تعزيز أوروبا لأمن الحدود التونسية لمنعه اللاجئين من المغادرة -سواء من خلال تمويل حرس الحدود أو زيادة الدوريات نفسها- لا يؤدّي إلّا إلى تفاقم هذه الصراعات.
وبالتالي، يقع التحدّي على عاتق السلطات المحلية في المجتمعات التي يستقرُّ فيها المهاجرون. مع ذلك، تفتقر المجالس المحلية المُنتَخَبة والمُقنّنة حديثًا إلى السلطة والموارد الكافية لتطوير مجتمعاتها، ما يشير إلى أنه من غير المرجح أن تعطي الأولوية للتكامل أو التسامح مع الأجانب. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما تُترك قوات الأمن في المحافظات مثل مدينة صفاقس -مركز التهريب والمغادرة إلى أوروبا- في حين تسعى إلى القضاء على المغادرين غير النظاميين، بدون توجيهات مركزية واضحة. والوضع مليء بانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك مزاعم تورط السلطات التونسية في الاتجار بالبشر، فضلًا عن التواطؤ بين قوات أمن الحدود والمهرّبين.
في الوقت نفسه، يخضع الاتحاد الأوروبي لتدقيق متزايد بشأن مساهماته المزعومة في إساءة معاملة المهاجرين. تقوم المفوضية الأوروبية بمراجعة اتفاقيات التمويل مع تونس بعدما كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أن قوات الأمن التونسية المُموَّلة من الاتحاد الأوروبي شاركت في “عنف جنسي واسع النطاق” ضد مئات المهاجرين في تونس. ويواصل العديد من أعضاء البرلمان الأوروبي الاعتراض على أيِّ صفقاتٍ مع تونس، بحجة أنَّ إبرامَ الصفقات مع سعيِّد الاستبدادي، الذي فشل إلى حد كبير في ولايته الأولى في معالجة الظروف الاقتصادية المزرية في بلاده مع تكثيف القمع، من شأنه أن يسمح فقط بانتهاكات حقوق الإنسان بالإضافة إلى كارثة اقتصادية من شأنها أن تؤدي إلى زيادة أكبر في الهجرة.
في غضون ذلك، يبدو أن سعَيِّد يحاول بشكلٍ مُتزايد الاستفادة من مزاياه على أوروبا في هذه الساحة. فقد قال إنَّ تونس لن تكون حارس حدود لأوروبا، وتصرّفَ بناءً على هذا الخطاب من خلال عمليات إخلاء قسرية وغير إنسانية لمخيمات الخيام في تونس – حتى في الوقت الذي قَبِلَ في نهاية المطاف أموالًا أوروبية لأمن الحدود التونسية. ربما مستلهمًا إشاراته من واشنطن، يناقش البرلمان التونسي الآن قانونًا من شأنه أن يُسهّلَ عودة معظم المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية. وانتقدت منظمات حقوق الإنسان التونسية مشروع القانون، بحجة أن المهاجرين غالبًا ما يُجبَرون على توقيع أوراق الإعادة إلى الوطن ضد إرادتهم بعد تحمُّل الانتهاكات في مراكز المهاجرين.
قد يؤثّرُ سقوطُ بشار الأسد في سوريا أيضًا في الوضع. اعتبارًا من كانون الأول (ديسمبر) 2024، استضافت ألمانيا أكثر من 850 ألف لاجئ سوري، ويشكل السوريون أكبر مجموعة (حوالي 20 في المئة) من المهاجرين غير النظاميين على حدود أوروبا. في حين أنَّ الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تتمكن حكومة ما بعد الأسد من تهيئة الظروف الملائمة للاستقرار التي تجعل من سوريا مكانًا جذابًا للعودة، فإنَّ التحوُّلَ في سوريا قد يؤثر في أنماط الحركة لكلٍّ من مجتمعات اللاجئين السوريين الموجودة أصلًا في أوروبا والمجموعات الجديدة من السوريين الذين قد يختارون الهجرة إلى أوروبا عبر تونس.
في مواجهة الإدانة الداخلية والخارجية المتزايدة لنهجها الحالي، يتعيّن على أوروبا أن تضع استراتيجية للتعامل مع أزمة الهجرة بطريقةٍ إنسانية تحترمُ حقوق الإنسان. وينبغي أن يشملَ هذا إعادة النظر في جهودها الخاصة لاستيعاب المهاجرين مع دعم تونس في خلقِ مسارٍ لتسوية أوضاع الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى. ويمكن للدول الأوروبية أيضًا إعادة توجيه الأموال التي تُنفَقُ على أمن الحدود نحو دعم المنظمات الدولية في معالجة اللاجئين وطالبي اللجوء في تونس (أعلنت المملكة المتحدة أخيرًا عن جهود جديدة على هذا المنوال)؛ والعمل مع السلطات المحلية التونسية في برامج التنمية الطويلة الأجل (كما بدأت إيطاليا القيام بذلك)؛ ودعم المنظمات غير الحكومية التي تُرَوِّجُ للتسامح ومكافحة العنصرية. ومن شأن مثل هذا المسار أن يفيد كلًّا من أوروبا وتونس من خلال خلق الظروف المواتية للنمو الاقتصادي الطويل الأجل ومنع المزيد من عدم الاستقرار.
- سارة يَركس هي زميلة بارزة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، حيث تُركّز أبحاثها على التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية في تونس، فضلًا عن العلاقات بين الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
- سابينا هينبيرغ هي زميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. عملت كمتخصصة في شؤون البلدان في مجموعة تنسيق شمال أفريقيا التابعة لمنظمة العفو الدولية، وكانت في السابق زميلة ما بعد الدكتوراه في برنامج الدراسات الأفريقية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز. كما عملت محاضرة في كلية الخدمة الدولية في الجامعة الأميركية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.