تسييسُ القصيدة يتنافى ونُخبويَّتها

هنري زغيب*
الردود التي تلقَّيتُها حول مفهوميَ الشعري بعد صدور مقالي السابق (“هيبة السُكُون في هيكل الشعر”-“أَسواق العرب”- 28 كانون الثاني/يناير 2025) طلبَتْ في معظمها استزادةً في هذا الموضوع الذي خلْتُهُ ما عاد يؤْنس العصر اليوم وسْط ما فيه من تطوُّرات متسارعة ظنَنْتُها أَبعدت القراء عن النقاش في الشعر جوهرًا وظواهر.
لذا أَستطرد هنا مواصلًا بحثي في هذا العالَم الجميل الذي هو الشعر.
الحصيلة الحياتية
فلسفيًا: الشعرُ تعبيرٌ عن أَنطولوجيا الإنسان: الأَنطولوجيا تُحدِّد الإِنسان عاقلًا، والشعرُ يترجم الإِنسانَ الذي، من أَوَّل عهده بالكلمة، قال الشعر تعبيرًا عن انفعالاته بالغناء مرَّاتٍ، ومرَّاتٍ بالأَحاسيس الصامتة. والشعر، شكلًا ومضمونًا، لاحَقَ تطوُّر الإِنسان منذ بدائيّتِه حتى أَقصى تَحَضُّره. وتطوُّرُ الشعر ليس عملًا إِراديًّا بل حصيلةٌ حياتية عفوية لتطوُّر الإِنسان في الطبيعة. من هنا أَنَّ الإِيقاع في الشعر متلازمٌ وإِيقاع كينونة الإِنسان في طبيعةٍ قائمةٍ أَصلًا على التناغُم والتناسُق والإِيقاع.

المواضيع مطروحة فمن يتميَّز؟
هل موضوعاتٌ مُميَّزة لشِعرنا دون سواه؟ عدا استثناءَات غيرِ رئيسَة، عالجَ شِعرُنا مواضيعَ مطروحةً أَمام جَميع الشعراء. فالعاطفةُ الإِنسانية (غضَبُها، رضاها، حُزنُها والفرح، رماديُّها والمُلوَّن) تتفاوتُ تعبيريًّا لا كينونيًّا. والمرأَةُ يتفاوت الإِحساسُ إِزاءها في التعبير لَها لا في جوهرها. والوطن يبقى المدى الذي يَعبُرُه الشاعر بما يعتبر دخوله مؤَاتيًا قناعاته. وإِذا كان التعبير غيرَ جدَليٍّ في التعبير عن العاطفة الإِنسانية أَو إِزاء المرأَة، فالموضوع الوطني ما زال إِلى جدَل، لأَن معظم شِعرنا الوطنيّ ما زال يُسَيِّس الوطن ولا يُمَلْحِمُه. الوطن، في الشعر العظيم، يَخرج ملحمةً أَو رموزًا أَو مسافةً عبقريةً يرسُمُها الشاعر، فيَما أَكثر شِعرِنا الوطني استهلاكيٌّ فَقَدَ الكثير من الرؤْيا لأَنه ارتَمى في حضن السياسة الآنية المتقلبة.

السياسة تُفسد الشعر
تسيَّس الشعر. صار الشاعر بوقًا عند الحاكم أَو بوقًا ضدّ حاكم آخَر. صار إِلى عصبيّةٍ قبَليّةٍ جعلَتْنا في جاهلية جديدة. لَم يَعُد الشعر يَختلف عن أَيِّ كلامٍ حَماسيٍّ أَو منبَرِيٍّ أَو خطابِيٍّ نقرأُه كلَّ يوم في الصحف. والآنِيُّ نقيضُ الخالد. والشعر المُسيَّسُ آنِيٌّ لا يَخلُد. وإِذا غَرِقَت القصيدةُ في الالتزام السياسي غرِقَ شاعرُها في رمال الطارئِ المتحركة عوضَ فلا يتخطَّى الأُحدوثةَ إِلى الحدَث.
تسييسُ القصيدة يتنافى تَمامًا ونُخبويّتها المميَّزة. فالشعر ليس بندقيّةً إِيديولوجيّة. للإِيديولوجيّاتِ النثرُ وافتتاحياتُ الصحف. والشعر الخالِد على الزمان ليسَ زيتًا لبندقيةِ المُقاتل، ولا أَرُزًّا لطلعة العروس، ولا زهرًا لإِكليل الفقيد، ولا شرائطَ ملوّنةً لزينة العيد. الشعرُ حالةٌ تعكسُ حدَثًا وليس العكس. من هنا أَنَّ المسافةَ ضروريةٌ بين الشاعر والحدَث (أَو الموضوع). وشاعرٌ لا يراعي هذه المسافة، يقفز إِلى نار الحدَث فيحترق فيها، ويُمسي شِعره تقريريًّا سرديًّا. وليست هذه خصيصةَ الشِعر العظيم.
الغيابُ عن الحدَث السياسي ليس نقيصةً يتجنَّبُها الشاعر. فهذا پول فاليري عاش حربَين متتاليَتَين ولم يكتُب قصيدة “سياسية” واحدة. ولَم يَحُلْ ذلك دون كونِهِ أَحد أَكبر شعراء عصره.

شرقًا وغربًا
الشاعرُ المعاصرُ عندنا يعاني إِجمالًا من تَبَعيّةٍ ذاتِ نقيضَين: الحديث الغربي وقديمنا التقليديّ الجامد. فهو إِمّا اتِّباعيٌّ تقليدَنا كسولٌ لا يسعى إِلى التجديد، وإِمَّا اتّباعيٌّ طرازَ الغرب كسولٌ أَخَذَ النموذجَ الغربيّ حيثما وصل، لا مُتَتَبِّعًا مراحلَ وصوله (كمَن بلغَ مصبَّ النهر فاكتفى ولَم يتتبّع المراحل التي قطعها هذا النهر). أَخذ موضةَ الغرب وتبنّى “ثوراته” الشعرية فإِذا به يَحيا “ثورات” سواه: لَم ينفعل بِها، فبقِيَ غيرَ فاعلٍ بنا ولا بشعره، وضاع بين حاضرٍ غربِيٍّ مستورَد وماضٍ تقليديٍّ جامد. خرَج من لباسِه ولَم يَسْتَوِ عليه اللباس الغربِيّ فَعَرِيَ وعانَت قصيدتُه من هَمّ التصنيف واضطراب صِيَغِ التعبير.
إنّ للغرب ظروفَه ومعطياتِه. وكم من شاعرٍ عندنا قرأَ شِعر الغرب فقَلَّدَ موضته ببّغائيًّا، وخاصمَ الجمال والجماليا خَجِلًا بالغنائية الشرقية فتَجنَّبها، وهي الأُنثى التي بدونِها لا تكونُ رجولة. كانت قصائدُ شعرائنا عابقةً برموزنا ذات الأَبعاد الإِنسانية والتراثية والحضارية، وركِبَتْ موجةَ الغرب فباتت رموزُها مُفْرَغَةً من مضمونِها المتجذّر تراثيًّا. وهنا خطيئة الكثيرين من شعرائنا: أَرادوا أَن يتخلّصوا كليًّا من القديم ليكونوا “جُدُدًا”، فيَما المنطق السليَم: بقَدْرِما يعرف الشاعر أَن يغرف من جيِّد القديم، يكون حديثًا ويُبدع جديدًا. فالتجديد لا يكون إِلَّا من ضمن الأُصول. فالشعر بطبيعته اقتحام. ولا يكون اقتحامٌ خارج دائرة الهدَف.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو رئيس اللجنة الوطنية لنشر الإِبداع اللبناني، ومدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.