صدّام وروكفِلر (2 من 3)
كُنَّا في “أسواق العرب”، نشرنا فصولًا من كتاب: “العراقي الغامض – قراءة مُتأخِّرة في عقل صدّام حسين”، للزميل سليمان الفرزلي. ها هنا ننشرُ الحلقة الثانية من فصلٍ جديد من الكتاب الذي بات مُعَدًّا للطبع.

سليمان الفرزلي*
اكتسبت مهمّة دايفيد روكفلر في بغداد أهمّيةً إضافية، لأنَّ مصالحه المالية والنفطية والصناعية أخذت منذ العام 1969 تتطلّبُ تسويةً سلمية للصراع العربي–الإسرائيلي، فاستمرار ذلك الصراع من دون أُفُق يُمكنُ أن يؤثّرَ سلبًا في الاستثمارات النفطية في العالم العربي. ففي الثامن من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1969، قبل نحو عشرة أيام من انعقاد القمة العربية الخامسة في الرباط يوم 20 من ذلك الشهر (1)، رفع هنري كيسنجر مذكّرةً إلى الرئيس ريتشارد نيكسون، يوصيه فيها باستقبال دايفيد روكفلر وزملائه، “لأنَّ أولئك السادة، كلّ منهم لسبب مستقل، يساوره القلق من التطوّرات في الشرق الأوسط… من الطبيعي أن تكونَ صناعة النفط هي الأكثر تأثّرًا لأنها تُضيفُ إلى المالية الأميركية ما لا يقل عن 1,7 مليار دولار في السنة، وهو مبلغ صافٍ يحقق لها فائضًا في ميزان المدفوعات. ومصدر القلق الرئيس لدى دايفيد روكفلر تحديدًا، خشيته من أن يُقدِمَ القادة العرب، في مؤتمرهم الخامس، على اتخاذ قرارات، منها قطع علاقاتهم مع الولايات المتحدة، ما يؤدّي الى التضييق على الامتيازات النفطية لشركات النفط، إن لم يكن التأميم الكامل لها”.
بعد هذه المطالعة، اقترح هنري كيسنجر على الرئيس ريتشارد نيكسون، أن يُرسلَ مبعوثًا إلى القاهرة، وربما إلى عواصم عربية أخرى، يحمل في جعبته مقترحًا جديدًا لتسوية الصراع العربي–الإسرائيلي، يكون على غرار “مبادرة روجرز” (2)، هدفه تعطيل أي توجُّه مُحتَمل، يمكنه أن يوقع ضررًا بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة.
***
بعد انتهاء مقابلة روكفلر مع صدّام حسين، كتب آثر لوري تقريرًا رفعه الى رؤسائه في الخارجية الأميركية، ذكر فيه تصوّراته لما سمعه من روكفلر حول المقابلة، فكتب يقول: “مع أنَّ صدام حسين، خلال فترة وجودي في بغداد (1972–1975)، كان في منصب نائب الرئيس، لكن الجميع كانوا يعرفون أنه يُمسك بالسلطة الحقيقية. فقد نجح أن يُقيمَ أقوى وأفعل دولة بوليسية في العالم العربي، فلم توجد على الإطلاق بين الدول العربية واحدة تُضاهيها أو تُدانيها، من حيث مدى وطبيعة انتشار الأجهزة الأمنية، وأجهزة أمن حزب البعث وغيرها، وبطشه بلا هوادة أو رحمة أيضًا، وهذا أمرٌ شائعٌ ومعروف. كانت أجهزته الاستخبارية تعمل بغرور منقطع النظير، بفعل السلطة المطلقة”.
ثم يستدرك القائم بالأعمال الأميركي ليقول: “لكن على الرُغمِ من واقع الدولة البوليسية السائد في العراق، نشأ مناخٌ مثيرٌ في البلاد، نتيجة توقيع اتفاقية الجزائر مع شاه إيران في شهر آذار (مارس) 1975، وانهيار التمرّد الكردي في الشمال، وقد أدّى ذلك الى اندفاعة كبرى في اتجاه استيراد التكنولوجيا الغربية، فكانت دولارات البترول تتدفق عليه من كل حدب وصوب، وهو ما أطلق اهتمام رجال الأعمال والسياسيين الأميركيين بالوضع العراقي. وقد أُتيحَت لي الفرصة، في ذلك الوقت، أن أتعرّفَ على عددٍ منهم زاروا بغداد خلال خدمتي هناك، منهم آرثر سولزبرغر (ناشر جريدة “نيويورك تايمز”)، ودايفيد روكفلر، أول مدير تنفيذي أميركي كبير استقبله صدام حسين، كما قضيتُ وقتًا مُمتعًا لأربعة أيام مع السناتور تيد كنيدي، الذي زار بغداد مع عائلته ومساعديه عام 1975″.
يتابع آرثر لوري: “لقد كنتُ مُتفائلًا جدًا حول مستقبل العلاقات الأميركية–العراقية، ليس على أساس التفاهُمات السياسية، بل لأنَّ صدام حسين أبدى رغبةً كبيرة في الحصول على التكنولوجيات والمساعدات الغربية، وفي التعامل مع رجالات أمثال دايفيد روكفلر. وهناك عددٌ من الأميركيين الذين قابلوه، مثل رولاند إيفانس وغيره، وجدوه حاد الذكاء، براغماتي، واقعي المزاج والرأي، عنيد في مواقفه، لكن بالإمكان التعامل معه، بالإضافة الى قراره الجريء بالتفاهم مع شاه إيران، مُتنازلًا عن جُزءٍ من شطِّ العرب، مُنهيًا بذلك التمرّد الكردي. كلُّ ذلك يُنبىء بأنه قائدٌ مُستعدٌّ أن يفعلَ أيَّ شيءٍ لازم لدفع بلاده الى الأمام. لكن دول الخليج كانت تنظر إلى ذلك الطُموح بعين الريبة والخوف”.
***
كان الشاهنشاه محمد رضا بهلوي في واشنطن، فرتّب هنري كيسنجر في 27 من تموز (يوليو) 1973، اجتماعًا مُوَسَّعًا معه، شارك فيه أرداشير زاهدي، السفير الإيراني لدى واشنطن، وريتشارد هلمز السفير الأميركي في طهران، (بعد خروجه من منصبه كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية الذي شغله من 1966 إلى 1973)، وهارولد سوندرز، عضو المجلس القومي الأميركي. في ذلك الاجتماع حكى كيسنجر للشاه عن “التوسُّعية المصرفية” لصديقه دايفيد روكفلر.
سألَ كيسنجر الشاه عن مقابلةٍ صحافية كان أجراها في واشنطن، حول شراء السلاح، وأثارَ فيها جدلًا، فأجابه: “سألني الصحافيون عن ذلك، نظرًا إلى القيمة الهائلة لتلك المشتريات بالدولارات الأميركية، فقلتُ لهم إنَّ المالَ ليس مهمًّا، المهم ألّا يعود الأميركيون ينظرون إلى إيران على أنها مجرد دولة من دول الشرق الأوسط. إننا نعرف ماذا نفعل”.
في تلك الفترة عاد الحديث عن أخطار حظر تصدير النفط، فقال الشاه بلهجةٍ تحذيرية: “سألني أحد الصحافيين ما إذا كانت إيران سوف تشارك في إعلانِ حظرٍ على تصدير النفط إلى الغرب، فأجبته بالنفي، لكن بعض الدول الأخرى في الشرق الوسط قد تُحاول ذلك. رأيي أنها، إذا فعلت، فسيكون الأمر خطرًا ومُضِرًّا”.
أخذ الشاه نَفَسًا عميقًا، ثم قال: “ما يجب أن أُبلغك به، بيني وبينك وبخصوصيةٍ تامة، أنَّ المصريين سألوني رأيي في إمكانية استخدام النفط كسلاح، فأجبتهم بأنه أمرٌ بديهيٌ أن يكون كذلك، لكنني لا أشعر بأنه من الحكمة تهديد الولايات المتحدة بالنفط. نبَّهتُ المصريين إلى أنَّ الولايات المتحدة (في حال حدوث ذلك) قد تغضب غضبًا شديدًا على مصر، وتُلحق الأذى بها. وقلتُ للمصريين، إنَّ لعبَ هذه الورقة بعناية وحذر، يمكن أن يساعد الولايات المتحدة على استغلال هذا التهديد لتظهير أخطاره في بعض الدوائر، وفي الوقت ذاته يمكن أن يأتي بمفعولٍ عكسي. أردتُ فقط أن أُطلِعك على ذلك قبل مقابلتك حافظ اسماعيل مرة ثانية” (3).
بعد أحاديث تفصيلية عن شؤونٍ عديدة، خارج الاهتمام العربي المباشر، انتقلَ الحديث بين كيسنجر والشاه إلى الشؤون العربية، وكان المُنطَلَق الوضع الأردني.
قال الشاه بنبرةٍ جازمة: “إذا زال الأردن فلا مستقبل للكويت أو السعودية”.
تحفَّز كيسنجر، قطَّب جبينه، وقال للشاه: “إذا هوجم الأردن، فإننا سنشجّع إسرائيل على التعبئة والاستعداد لتغطيتهم. وسوف نتخذ نحن بعض الخطوات، على أن قدرتنا على المناورة باتت أقل مما كانت عليه في أيلول (سبتمبر) 1970. في ذلك الوقت كان العراق يُهدّد الأردن. ليتنا نعرف ما إذا كانت إيران يُمكنها أن تُحرّك قواتها، ويهمّنا أن نعرف استعدادكم للقيام بنشاطٍ عسكري”.
تعجّلَ الشاه الرد: “نعم. لدينا الأكراد أيضًا. في مسألة الأكراد كلانا يمكننا أن نقدّمَ المزيد من الدعمِ المباشر، (دار هذا الكلام قبل ثمانية أشهر فقط من سحب الشاه دعمه للأكراد، حين عقد مع صدام حسين اتفاقية الجزائر)، “حزب البعث” ضعيفٌ الآن، ولكسب الوقت يُغيّرُ لهجته تجاه الغرب. وقد أبلغت الأكراد أن يرفضوا رفضاً مُطلقًا الدخول في حكم وحدة وطنية، (في العراق)، كما طلبتُ منهم عدم استقبال أي مبعوثين من الاتحاد السوفياتي أو من “حزب البعث”. لكن إذا أردنا أن نلزمهم بذلك، علينا أن نعطيهم مبلغًا إضافيًا من المال”.
لم يلتزم كيسنجر بأيِّ كلامٍ قاطع، فأكّدَ للشاه أنَّ ذلك قد يكونُ مُمكنًا “من حيث المَبدَإِ”، ثم عاود الحديث عن الأردن، فقال لكيسنجر: “يمكننا أن نعيد تأهيل دبابات الجيش الاردني، إذا وافقتم على تزويدهم بالمحرّكات”.
رفعَ كيسنجر حاجبيه الكثيفين، سوى من وضع نظارته على أرنبة أنفه، تغيّرَ صوته، أدرك الشاه بفراسة، أنَّ “العزيز هنري” يريد التهرُّب من الالتزامات التي طلبها، فتركه يقول: “يمكن أن ننظرَ في هذا الطلب بإيجابية”.
واستدرك مُتعجّلًا: “لكن السؤال الوحيد هو، كيف نفعل ذلك؟”.
بادره الشاه: “الأردن بحاجة الى المزيد من المال. عليكم أن تمارسوا أقصى ما تستطيعون من ضغط على السعوديين والكويتيين لحملهم على الدفع”.
قال كسينجر في ردّه عليه كلامًا مُحرِجًا: “كنتُ بصدد أن أطلبَ منك أن تفعل ذلك بدورك”.
وصرف الموضوع السعودي بقوله للشاه: “عندما نُعَيِّنُ سفيرًا جديدًا لدى المملكة العربية السعودية، نصبحُ في وضعٍ أفضل”!
***
تَوَقَّعَ الاميركيون، أن تُحدِثَ مقابلة صدام حسين ودايفيد روكفلر، امتعاضًا في الداخل، ولو مُستترًا، فراحت الأجهزة الأميركية المختصّة، ترصد، وتُحلّلُ، وتستنتجُ، في ما سموه: “المعارضة المحلية لصدام حسين، وأهميتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة”. وأشارت تلك الأجهزة إلى الجهات الخارجية التي يتعيّن على واشنطن إبلاغها نتائج ذلك الرصد، ووضعت لائحة بالعواصم، التي يُمكن اطلاعها على خلاصاته، فكانت: طهران، وتل أبيب، ولندن، وباريس، والبلدان العربية الصديقة.
يُستفادُ من التقارير الديبلوماسية حول هذه المسألة، أنَّ الأجهزة الأميركية، اخترقت الإدارات والوزارات العراقية، فكانت تتلقّى معلومات داخلية من موظّف، أو كبار الموظفين، في وزارة الخارجية العراقية، والإدارات الأخرى. ويُستَدَلُّ من تلك التقارير أيضًا، أنَّ الشيوعيين العراقيين كانوا الأشد، والأوضح، انتقادًا للحكم العراقي، فوصفوه بأنه “مُنافق”، لأنه يُطوّر علاقاته الاقتصادية مع الغرب، بينما يؤكّد التزامه، وتمسُّكه، بمعاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي، (المُوقَّعة في التاسع من نيسان/أبريل 1972).
في تلك الفترة وجد السوفيات أنَّ انشغالَ الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وانسحاب الوجود البريطاني من شرق السويس، فرصةٌ سانحة لمدِّ نفوذهم في العراق وفي اليمن الجنوبي. وهذا ما حمل واشنطن إلى التنبُّه لدرء هذا الخطر الداهم على مصالحها النفطية بشكلٍ خاص، فبدأت تمدُّ الجسور مع بغداد، وإن بشكلٍ غير رسمي. ومن الطبيعي أن يستلزمَ ذلك إجراء تقويم شامل للنتائج، الفورية والمتوقعة، للمصالحة العراقية–الإيرانية، بعد اتفاقية الجزائر، وانهيار التمرّد الكردي، وهما تطوران مهمّان من حيث إراحة الحكم العراقي وكسبه المزيد من الوقت استعدادًا للمستقبل.
وكما سبقَ لنا القول، فإنَّ الرافضين العراقيين للتقارب مع الغرب، اتخذوا حجّتهم من استقبال صدام حسين لدايفيد روكفلر، وعدم استقبال غيره من السياسيين الأميركيين، وعزوا ذلك إلى أنَّ صدّام حسين أراد التقليل من أهمية لقائه مع روكفلر، لكونه “غير ذي صفة سياسية”. ذلك أنَّ الشكوك بالولايات المتحدة وتصرّفاتها إزاء العراق، كانت أوسع مدى في صفوف البعثيين العاديين، خصوصًا بين الذين ليست لهم مناصب تنفيذية عُليا، ويُصدّقون الشعارات الكلامية التي كانت تُطلَقُ ضد “الإمبريالية الأميركية”.
إنه من السذاجة القول بأنَّ المثقّفين البعثيين، من العراقيين والعرب، الذين درسوا في الولايات المتحدة، وتخرّجوا من جامعاتها ومعاهدها، تنطلي عليهم مثل هذه السردية. فهم يعرفون تلك البلاد من فوق ومن تحت، وبعضهم وضع نفسه في خدمتها. لكن الأجهزة الأميركية كانت تعلم أنَّ “اتفاقية الجزائر” مع الشاه، وانهيار التمرّد الكردي نتيجةً لها، عززت سلطة صدام حسين في الدولة والحزب، في الوقت ذاته، رَؤوا أنَّ من نتائجها، (عطفًا على لقاء صدام–روكفلر قبل ذلك بأسابيع معدودة)، انفتاح الطريق أمام التجارة الغربية مع بغداد، مما يُضعف الموقف السوفياتي، أو على الأقل، يُخفّف من الحملات العقائدية البعثية المُوَجَّهة من بغداد إلى بعض الدول العربية.
في زيارتي إلى بغداد مطلع 1981، أَثَرتُ هذا المعطى الأخير مع الراحل علي غنَّام، وهو بعثي سعودي وعضو القيادة القومية للحزب (4)، كان يُصدِرُ، في حينه، مجلة “الطليعة العربية” المُعارِضة للحكم السعودي، والمصدر المهم للأخبار المخفيَّة في الجزيرة العربية. سألته إذا كانت للتقارُب العراقي–السعودي، بفعل الحرب مع إيران، نتائج سلبية على توجّهات المجلة، أو حتى احتمال إغلاقها، فقال: “لا أظنُّ أنَّ هذه المطبوعة ستضيق في عيونهم، فما حدث هو أكبر من ذلك بكثير”، (راجع “علامات الدرب”، الصفحة 583).
لم يتوقّع الأميركيون أن تُثيرَ توجُّهات صدام حسين الخجولة والمُستترة نحو الولايات المتحدة والغرب، معارضةً واسعة، واعتراضًا داخل الحزب، وخارجه، أكبر مما كان هو والأميركيون يتوقّعون. فتبيّن لهم، أنَّ المعارضة الخفيَّة لتوجه صدام حسين، شملت شرائح واسعة في” حزب البعث”، (في صفوف المنتسبين المتحمّسين للشعارات الثورية)، وفي الطبقة الوسطى من ضباط الجيش، وأوسع مدى بين الشيعة، وأشد صلابة وجرأة بين الشيوعيين والأكراد.
اعتمدَ صدام حسين، في مواجهة تلك الموجة، التراجع خطوة إلى الوراء، (عملًا بالقاعدة اللينينية التي كان يُردّدها الشيوعيون في حالات الانتكاس: “خطوة إلى الوراء، وخطوتان الى الأمام “)، وشعر بالحاجة إلى إنعاشِ وتجديدِ الصورة الثورية للنظام البعثي، أمام مواطنيه وتجاه حزبه، بامتصاص المعارضة الواسعة غير المنتظرة. ولأول مرة خشي أن يشردَ البعثيون المُستاؤون فينضمّون إلى حركاتٍ راديكالية أخرى. ولذلك أوصت الأجهزة الأميركية إدارة البلاد في حينه، أن تتحلّى بالصبر، وألَّا تأخذ الشعارات الحزبية، والحملات الإعلامية الرسمية، على محمل الجد، وأن تلتفتَ فقط إلى جوهر السياسات العملية للدولة العراقية.
(الحلقة الثاالثة والأخيرة تتبع غدًا)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
شواهد وأسانيد
1) كنت في عداد المدعوين الى غداء أقامه خليل عيتاني، السفير اللبناني لدى الرباط، للصحافيين اللبنانيين الذين كانوا يغطون مؤتمر القمة العربية الخامس في نهاية عام 1969، وكان بين المدعوين الصحافي الفرنسي أريك رولو أبرز كتاب جريدة “لوموند” يومها، الذي أبلغ الحاضرين أن الأميركيين وزعوا على بعض رؤساء الوفود العربية مذكرة سريَّة حول موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي، وضرورة إنهائه، صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، وقال رولو أنه شاهد نسخة منها لدى أحد رؤساء الوفود.
في مساء ذلك اليوم زرت مقر الوفد العراقي، الذي كان برئاسة حردان التكريتي، نائب الرئيس أحمد حسن البكر، فوجدت عنده نائبه في الوفد صلاح عمر العلي. جلسنا الى الحدث عن المؤتمر، فعبّر حردان التكريتي عن خيبة أمله بتلك القمة، وقال إنه لن يحضر مؤتمرات عربية بعد اليوم، عندئذ أبلغته ما سمعت على الغداء من أريك رولو، فتناول حقيبته وسحب نسخة من تلك المذكرة الأميركية، وأعطانيها قائلاً:” احتفظ بها”.
أخذت تلك الوثيقة، المؤلفة من صفحة صغيرة واحدة، قرأتها ووضعتها في جيبي. في اليوم التالي التقيت ماري – آن جبور الأميركية اللبنانية، من بلدتنا جب جنين، كانت تعمل في السفارة الأميركية في الرباط، فأخبرتها عن الوثيقة وأبرزت لها النسخة، فقالت إنها لا علم لها بها، لكن ستسأل رؤساءها عنها. وبعد ساعات زارتني في فندق “تور حسان” حيث كنت نازلاً في العاصمة المغربية، وقالت لي إن المسؤولين في السفارة يظنون أنها “مزورة”. إلاّ أنني لا أظن أنها كذلك، وربما أشاعوا “خبرية التزوير” لأن الوثيقة تسرَّبت الى الصحافة.
كانت أهمية مؤتمر قمة الرباط نابعة من انعقادها على مفترق حاسم من حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل على قناة السويس، حيث كان المصريون يقومون، بمساعدة الاتحاد السوفياتي، على بناء جدار من الصواريخ على الضفة الغربية من القناة غايته صد الطيران الإسرائيلي من التحليق فوق العمق المصري. ولما بدأت كفة الصراع تميل الى مصر بعد إسقاط عدد غير مألوف من الطائرات الإسرائيلية الأميركية الصنع، شعر الأميركيون بضرورة التدخل الديبلوماسي لإطلاق عملية سلمية.
***
2) أطلق وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركي، في خواتيم ولاية الرئيس ليندون جونسون، يوم 9 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1969، خطة حملت اسمه، قبل عشرة أيام من القمة العربية الخامسة في الرباط، وثلاثة أسابيع فقط من تنصيب الرئيس الأميركي الجديد ريتشارد نيكسون. وكانت غاية تلك المبادرة وقف الصراع العربي – الإسرائيلي بعد الاجتياح الكبير الذي قام به الجيش الإسرائيلي للأراضي العربية المجاورة، مصر، وسوريا، والأردن، في حرب الأيام الستة في الخامس من حزيران (يونيو) 1967.
تضمنت مبادرة روجرز أربع نقاط أساسية، هي:
أ- التفاوض بين إسرائيل والدول العربية المعنية بإشراف المبعوث الأممي غونار يارينغ، على قاعدة مفاوضات الهدنة التي جرت بين إسرائيل والدول العربية المحيطة عام 1949، في جزيرة “رودوس” اليونانية، في أعقاب الحرب الإسرائيلية – العربية الأولى التي أسفرت عن قيام دولة إسرائيل في عام 1948.
ب- تنسحب إسرائيل من الأراضي المصرية التي احتلتها في حرب حزيران (يونيو) عام 1967.
ج- تتعهد كلٌّ من مصر وإسرائيل بإقامة سلام بينهما.
د- إجراء مفاوضات بين مصر وإسرائيل للاتفاق على المناطق المنزوعة السلاح بينهما، وعلى الإجراءات الكفيلة بضمان حرية الملاحة في خليج العقبة على البحر الأحمر، وعلى ترتيبات أمنية لقطاع غزة.
****
3) الفريق حافظ إسماعيل، ضابط مصري كبير تقلَّد مناصب عسكرية، وديبلوماسية، واستخباراتية رفيعة، لفترة طويلة، في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، مما جعله شاهداً موثوقاً على تاريخ مصر الحديث. تأهل في الكلية العسكرية المصرية من 1937 الى 1939، ثم غادر الى لندن ليتابع علومه العسكرية في الكلية العسكرية الملكية في “ووليتش”، ومن بعدها في كلية أركان الحرب في “كامبرلي” عام 1944 أواخر الحرب العالمية الثانية.
في محادثات الوحدة بين مصر وسوريا عام 1957، كلفه الرئيس جمال عبد الناصر التنسيق بين الجيشين المصري والسوري، التي أسفرت عن قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، مطلع عام 1958.
ثم اختاره عبد الناصر وكيلاً لوزارة الخارجية (1960 – 1964)، ثم سفيراً لدى بريطانيا (1964 – 1965). ومن بعد ذلك سفيراً لدى إيطاليا ومالطا (1965 – 1968). ثم سفيراً لدى فرنسا وإيرلندا (1968 – 1970).
عينه عبد الناصر رئيساً للاستخبارات العامة في شهر أيار (مايو) من عام 1970، وخلال عمله في هذا المنصب توفي الرئيس جمال عبد الناصر، لكن السادات أبقاه لفترة وجيزة حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة، ليعينه وزير دولة (1970 – 1971). ثم لفترة وجيزة وزير دولة للشؤون الخارجية (خمسة أشهر فقط من 18 آذار (مارس) عام 1971 الى 12 أيلول (سبتمبر) من السنة ذاتها، ليختاره بعد ذلك مستشاره لشؤون الأمن القومي، وفوق ذلك كلفه في عام 1973 رئاسة ديوان رئيس الجمهورية. وفي سنة 1974، عينه سفيراً لدى موسكو حيث وضع دراسة عنوانها “ماذا يجري في الاتحاد السوفياتي؟” (نشرتها جريدة “الجمهورية” المصرية في 14 آب / أغسطس عام 1988).
بعدها، عاد سفيراً الى فرنسا (1977 – 1979)، ليتقاعد من العمل العام. توفي في عام 1997 عن 78 عاماً.
****
4) علي غنام، من أوائل البعثيين في المملكة العربية السعودية، بعد محمد الربيع، الداعية البعثي الأول في السعودية قبل تأسيس الحزب، والكاتب السعودي المعروف عبد الرحمن منيف الذي انتخب عضوا في القيادة القومية في مؤتمرها الرابع الذي جرى في بيروت خلال شهر آب (أغسطس) من عام 1960. وكان فرع الحزب في السعودية عقد أول مؤتمر قطري عام 1956.
قبل أن يتشكل البعثيون في السعودية كتنظيم حزبي، مارسوا نشاطهم بقيادة علي غنام، تحت اسم “منظمة أحرار الجزيرة العربية”. وقد مارس البعثيون السعوديون في تلك الفترة الساخنة من الخمسينات، التي جرت فيها تحولات جذرية على الصعيد العربي بعد الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، وقيام الوحدة السورية – المصرية بدفع من حزب البعث في سوريا، نشاطاً ملحوظاً، تحت ستار المطالب النقابية في المنطقة الشرقية من المملكة، حيث تعمل شركة النفط العربية – الأميركية (أرامكو).
لعب علي غنام دوراً مهماً في الحركة العمالية التي قامت في تلك المنطقة، ذات الغالبية الشيعية، وكانت تطالب بإنشاء نقابة لانتزاع حقوق عمال النفط. وهو أصلاً من مدينة الجبيل الصناعية على الخليج العربي، وفي مطلع عام 1964 انتخب غنام عضواً في القيادة القومية في دمشق، خلال المؤتمر القومي السابع الذي انعقد اعتراضاً على التحول المتطرف الذي شهده المؤتمر القومي السادس في العاصمة السورية في السنة السابقة.
عندما جرى انقلاب صلاح جديد على القيادة القومية عام 1966، وفرار القادة المؤسسين للحزب سابقاً، ميشال عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني، الى بيروت، اعتقل الانقلابيون أعضاء آخرين في القيادة القومية من بينهم السعودي علي غنام، واللبنانيان جبران مجدلاني، والدكتور عبد المجيد الرافعي. بقي هؤلاء مسجونين في دمشق لمدة تتجاوز السنة، حين أطلق سراحهم عام 1967 وعادوا الى بيروت، بعد هزيمة الجيش السوري أمام الجيش الإسرائيلي في حرب حزيران (يونيو) من تلك السنة.
عاش علي غنام في بغداد منذ عودة حزب البعث الى السلطة هناك صيف عام 1968، حيث كان يُصدر مجلة “الطليعة العربية” المعارضة للنظام السعودي. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق انتقل الى اليمن حيث توفي منتصف عام 2020.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.