جورج خبَّاز: من خط التماس إِلى صدمة المتراس

 

هنري زغيب*

يفاجئُ جورج خبَّاز.

يأْخذُك إِلى الكوميديا فإِذا فيها غصَّةُ الدمع الحارق.. يأْخذك إِلى التراجيديا وفجأَةً يكسرها بكلمة، بحركة، بموقف، في خلطةٍ مسرحيةٍ ذكية معبِّرة تَخدُم النص وتختَبر الأَداء (“خْيال صحرا” – مسرح “كازينو لبنان”)..

دقيقةٌ هي الكتابةُ لاثنَين على المسرح.. تتطلَّب ديناميةً في الحوار، وتَتَاليًا في الحركة يخدم انسياب الخيط الدرامي وإِلَّا تَسَرَّبَ الملَل إِلى مقاعد الجمهور.. هذه الدقَّة الصعبة (الكتابة لِمُمثِّلَين فقط) عرفْناها في مسرحيات عالَمية: “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت (1953)، “الصرخة” لتينيسي وليامز (1967)، “من الرماد إِلى الرماد” لـهارولد پينْتِر (1996)، “القطار الأَخير إِلى نيبروك” لآرلين هيوتِن (1999)، وسواها..

جورج خبَّاز شحَنَ نصَّه بحركةٍ حملَت الحوار إِلى انسياب الخيط الروائي، فشكَّلَ مسرحيته من فصل واحد في 80 دقيقة رشيقة الانتقال من مناخ إِلى آخَر ضمن إِطار واحد: خطّ التماس، تُرافق العرضَ مؤَثِّرات بصرية على الشاشة، خفَّفت من الديكور المباشر وجعلَت للعمل بُعدًا بصريًّا أَفعل..

الإِيقاع المضبوط في حوار جورج خباز وإِخراجه وسينوغرافياه، لاقاه عادِل كرم فعادَل الإِيقاع ذاته، وتكامَلَ على الخشبة ممثلان مقْنِعان مكرَّسان أَدَّيا رسالةَ المسرحية بِمقاتلَيْن على خط التماس في أَحد شوارع بيروت، كان كلٌّ منهما “خْيال صحرا” خلال الحرب ينفِّذ أَوامر القنص والقتل، وانتهى “خْيال صحرا” بعد الحرب حارسًا ليليًا في إِحدى الشركات الخاصة للأَمن والحماية..

بعد 35 سنة (منذ 1990) على غياب خطوط التماس من شوارع بيروت، هل بَعدُ يَجمُلُ التذكير بها في مسرحية تنْكأُ ما كان فيها من مآسٍ وجراح؟ طبعًا يَجْمُل.. فالمتاريس التي اختفَت من الشوارع ما زالت في نفوس بشعة ووجوه قميئة لم تعِ بعد أَنْ وحدَه الولاءُ للوطن يُلغي الولاء لزعماء المتاريس السياسية (كما يدور هذه الأَيام لعرقلة تشكيل الحكومة).. وما في المسرحية من جدليات وتناقضات يأْخُذ إِلى التنبُّه من الإِيغال في تصَحُّر الوطن بسبب يوضاسييه، وضرورة الاحتفاء بعودته إِلى زمان عافيته، تفاؤُلًا ونظْرةً إِلى غدٍ منوِّر، كما تجسِّده عودةُ جورج خبَّاز إِلى المسرح بعد انقطاع أَربع سنوات أَخيرة أَبعدَتْه عن مسرحه في “الشاتوتريانون” بعد 17 سنة على خشبته بدون توقُّف..

وها هو عاد، وفي ثنائية ناجحة مع عادل كرم الذي سَطَع على الشاشتَين الكبيرة والصغيرة، واليوم يسطع قديرًا على المسرح في هذا العمل المركَّب، ويخاصر جورج خبَّاز في النجاح.. رجلان متناقضا الطبع والسلوك لكنهما وجهان لعملة واحدة من شباب مسحوق بالحرب، يلمُّهما مونولوغ داخلي حينًا وديالوغ لفظي أَحيانًا، في جدلية عميقة ذات صراع نفسي قاهر..

مسرحية “خْيال صحرا” (بعد شهر ناجح في الصيف الماضي ومثله نجاحًا هذا الشهر وعودة شهر ثالث في الربيع المقبل) تدل على أَن اللبناني يتابع العمل الناجح وصاحبَه أَنى يكن المسرح، وهي ثقة الجمهور الواسعة بجورج خبَّاز..

مع العهد الجديد المطلّ على لبنان منذ مطلع العام الجديد، يعود المسرح إِلى أَلَقه اللبناني، وتعود الحياة الثقافية تُزهر أَعمالًا جديرةً بلبنان العائد من غربة الصقيع..

شكرًا جورج خباز على عملك، وعادل كرم على نجاحك، وطارق كرم على مغامرتك الجريئة..

يبقى المهم دومًا: أَن نستاهلَ عودةَ لبنان الإِبداع إِلى لبنان اللبناني.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى