الانتخاباتُ الرئاسية في لبنان: تاريخٌ من التدخُّلاتِ والتوازُنات الخارجية (2)
عرفت الإنتخايات الرئاسية اللبنانية تدخلات عربية وأجنبية منذ استقلال لبنان في العام 1943، الأمر الذي جعلها لعبة سياسية في أيدي القوى المؤثّرة القريبة والبعيدة. في ما يلي دراسة عن هذه الإنتخابات وتاريخها وكيف كانت تجري حتى الآن تنشرها “أسواق العرب” على خمس حلقات، هنا الثانية منها.

الدكتور سعود المولى*
نموذج مرحلة الحرب الأهلية 1976- 1989
مع دخول القوات السورية إلى لبنان في ربيع 1976 جرى أولُ تعديلٍ للدستور لجهة تقديم المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية؛ ومن ثمّ انتُخِبَ الرئيس الياس سركيس في قصر منصور قرب متحف بيروت وليس في البرلمان اللبناني. فمع وضوح الموقف السوري بانتخاب حاكم مصرف لبنان الياس سركيس حدّد رئيس مجلس النواب كامل الأسعد يوم 8 أيار (مايو) 1976 موعدًا لانتخاب الرئيس الجديد. في تلك الفترة دعت الحركة الوطنية (اليسار اللبناني) ورئيسها كمال جنبلاط (مدعومة من منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات) إلى الإضراب العام يوم انتخاب الرئيس، وممارسة شتى أنواع التحرك والاحتجاج الشعبي لمنع الانتخاب. كما دعت النواب إلى الامتناع عن حضور الجلسة، معتبرةً أن عدم إكمال النصاب إحباط لمحاولة تعيين سوريا لرئيس جديد. وكانت جلسة انتخاب سركيس الجلسة الأطول في تاريخ الانتخابات الرئاسية في لبنان حتى ذلك التاريخ، إذ استمرت ما يقرب من ست ساعات بانتظار استكمال النصاب الذي رسا في نهاية المطاف على 69 نائبًا، حضروا وسط إضراب عام، وقطع للطرقات بالإطارات المحترقة وإطلاق القذائف على مقر المجلس في قصر منصور، في محاولة لتعطيل الجلسة بالقوة بعد فشل تطيير النصاب، خصوصًا أنَّ قوات جيش التحرير الفلسطيني (التابعة لسوريا) عملت جهدها لتأمين سلامة النواب عند وصولهم إلى مبنى المجلس، فيما كانت مجموعات من الصاعقة (منظمة فلسطينية تابعة للبعث السوري) ترافق بعض النواب وتؤمن لهم الحراسة. وقد سرت أنباء مؤكدة عن إحضار عدد من النواب بالقوة إلى جلسة الانتخاب. ولم يتمكن الرئيس الياس سركيس من استلام مهامه لامتناع الرئيس سليمان فرنجية عن تسليم قصر بعبدا قبل انتهاء ولايته. وقد أقسم الرئيس سركيس اليمين الدستورية في فندق “بارك أوتيل” بشتوره (البقاع) أمام 67 نائبًا[1].
في العام 1977 حدث التحوُّل في التحالفات على الأرض اللبنانية. فانهار التحالف السوري مع اليمين اللبناني بسبب عاملَين حاسمَين: 1- وصول اليمين الإسرائيلي (الليكود) إلى الحكم في إسرائيل لأول مرة منذ تأسيس الكيان الصهيوني، 2- اكتمال ابتعاد الرئيس أنور السادات عن الحلف مع سوريا منذ اتفاقية سيناء في 4 أيلول (سبتمبر) 1975 ثم زيارته القدس في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، وصولًا إلى اتفاقية كامب دايفيد في 17 أيلول (سبتمبر) 1978 ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 26 آذار (مارس) 1979. جعل هذا الأمر سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية بحاجةٍ إلى عودة اللقاء والتحالف بينهما وبضغط سوفياتي أكيد[2].
وعلى المنوال نفسه من التدخل الخارجي الحاسم (إنما باتجاهٍ مُضاد هذه المرة) كان انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيسًا للجمهورية في 23 آب (أغسطس) 1982 أي غداة الاحتلال الاسرائيلي لبيروت ومعظم الأراضي اللبنانية من الجنوب إلى الجبل والبقاع الغربي، وخروج قوات الثورة الفلسطينية إلى الشمال والبقاع الشمالي، بعد حرب عنيفة وحصار أعنف وأقسى للعاصمة بيروت، وبعد خروج القوات السورية من المعادلة بتوقيع اتفاقية وقف اطلاق النار وفك الاشتباك بين سوريا واسرائيل يوم 12 حزيران (يونيو) 1982 أي بعد أقل من أسبوع على بداية الاجتياح. وقد جاء انتخاب بشير الجميل ضدَّ الإرادة السورية ومحمولًا على نتائج الغزو الاسرائيلي (مع ملاحظة أن الرئيس سركيس الذي جاءت به سوريا كان من أبرز الممهدين والمساعدين على وصول بشير الجميل للرئاسة عندما أيقن بنغير الموازين العربية والدولية منذ اتفاقية كامب دايفيد). وكما كان انتخابه نتاجَ موازين القوى الجديدة فإنَّ اغتيال بشير الجميل يوم 14 أيلول (سبتمبر) 1983 (وقبل تسلمه الولاية رسميًا) جاء ليؤكد قوة العامل الخارجي الحاسمة في الرئاسة اللبنانية؛ وهو الأمر نفسه الذي حدث مع انتخاب شقيقه أمين الجميل وعهده الذي عرف كل أنواع التموجات في العلاقة مع سوريا. فقد جاء انتخاب أمين الجميل في ظل تواجد القوة المتعددة الجنسيات (أميركا- بريطانيا- فرنسا-إيطاليا) في لبنان[3].
عند تولي أمين الجميل الرئاسة كان جنوب لبنان ومعظم مناطق الجبل وبيروت والجزء الأكبر من البقاع الغربي تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي عقب غزو لبنان؛ وكان الجيش السوري مهيمنًا على شمال وشرق لبنان، وكانت الحكومة اللبنانية فاقدة للسلطة وللسيادة العملية على الأراضي اللبنانية. وقد استمر عجز حكومة أمين الجميل في فرض الهيمنة على لبنان طوال فترة عهده. وباقتراب نهاية فترته الرئاسية في 23 أيلول (سبتمبر) 1988 حصل توافق سوري-أميركي يقضي بانتخاب النائب مخايل الضاهر رئيسًا للجمهورية. وقد حاولت سوريا فرضه على النواب، ولكن لم يستطع مجلس النواب اختيار خلف للرئيس الجميل، فقام قبل 15 دقيقة من انتهاء فترته الرئاسية بتنصيب قائد الجيش ميشال عون رئيسًا للوزراء حيث شكل حكومة عسكرية من 6 وزراء يمثلون الطوائف الرئيسة في لبنان. ولم تعجب هذه الأسماء الكتلة المسلمة في البرلمان التي أصرّت على بقاء الحكومة القائمة التي يرأسها بالنيابة سليم الحص، فأدى ذلك إلى استقالة الوزراء الممثلين للطوائف الإسلامية الثلاث السنة والشيعة والدروز. فكان على الأرض حكومتان متنافستان واحدة بقيادة ميشال عون وأخرى بقيادة سليم الحص. وانتهى الأمر بفرض سليم الحص رئيسًا للحكومة الموحدة بعد اجتياح سوري للقصر الرئاسي في بعبدا بغطاء أميركي-سعودي ولجوء ميشال عون للسفارة الفرنسية ثم خروجه إلى فرنسا[4].
نموذج مرحلة ما بعد الطائف 1989-2005
بحلول العام 1989 نشأ وضع جديد في المنطقة ابتدأ بتحولات أوروبا الشرقية وصولًا إلى انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية كلها. سمح هذا الأمر بقيام تحالف سوري-أميركي-سعودي (تعزز بعد غزو العراق للكويت في 2 آب/أغسطس 1990) نتج عنه اتفاق الطائف ( 22 تشرين الأول/أكتوبر 1989) ثم انهيار الرئاسة العونية بضربة عسكرية سورية محمية من أميركا وإسرائيل (13 تشرين الأول/أكتوبر 1990).
ولكن قبل الإطاحة بميشال عون كان لبنان قد شهد انتخاب رينيه معوض رئيسًا في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، ثم اغتياله في 22 من الشهر نفسه ، فانتخاب الياس الهراوي من بعده.
يروي العميد في الاحتياط طنوس معوض الذي كان مستشارًا أمنيًا وعسكريًا للرئيس معوض، أنه أيقن بعد جلسة الانتخاب، أنَّ الرئيس المنتخب رئيسٌ من دون قصر ولا حرس جمهوري ولا جيش تحت أمرته ولا جهاز مخابرات… وباختصار، لا شيء لديه في مواجهة أعداء الطائف الداخليين والخارجيين الذين عملوا على مواجهته وإسقاطه. واعتبر العميد معوض أنّ:”الرئيس كان مقدامًا وذا معنويات مرتفعة وكان يراهن على مناقبية كبار الضباط في الجيش وفي الأجهزة الأمنية الأخرى. لكن شجاعته لم تكن لتحميه من القتلة، فهو كان مكشوفًا تمامًا أمامهم وفي وضع صعب نتيجة إقامته في المنطقة الغربية من بيروت التي كانت تعج بخليط كبير من الأحزاب والتنظيمات وعملاء الأجهزة الأمنية المختلفة”. كل ذلك في كفة، وفي الأخرى بواكير الخلافات بين النظام السوري والرئيس معوض والتي بدأت تطل برأسها. أراد السوريون تعيين 20 وزيرًا من جماعتهم المخلصين والأحزاب الموالية لهم، لكن الرئيس رفض توزيرهم، وقال لهم : “كل وزرائي ضد إسرائيل ولكنني أنا أعيَنهم مع الرئيس سليم الحص لا أنتم”… “فأخذت الخشية السوريين وأيقنوا أنهم أمام الياس سركيس آخر يرفض التنازل والمساومة وقادر على الرفض وصاحب باع طويل وحنكة في العمل السياسي، إضافة إلى أنه يحظى بدعم منطقة كبيرة ومؤثرة هي زغرتا-الزاوية وما تمثله على المستوى المسيحي والوطني في لبنان”. يعتبر العميد معوض أن الخلاف مع السوريين كان حقيقيًا فقد أراد الرئيس إنهاء الحرب وتطبيق اتفاق الطائف فعلًا لا قولًا، والوصول إلى مصالحة حقيقية بين اللبنانيين. وعندما عرض الرئيس السوري حافظ الأسد استخدام الجيش السوري لإنهاء تمرد العماد ميشال عون، أجابه الرئيس معوض شاكرًا أنه لا يريد إسقاط نقطة دم واحدة. لكن المشكلة الأكبر أنَّ الرئيس كان على قناعة بأنَّ الاتفاق السعودي-السوري الذي تجلى في اتفاق الطائف كان يحظى بمباركة الرئيس السوري وأنه سيساعده على تنفيذه. [5] استطاع النظام السوري، ومن خلال اغتيال معوض، تحويل اتفاق الطائف إلى طائف سوري بتفويض أميركي-سعودي كامل.
في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 انتخب النواب الياس الهراوي رئيسًا للجمهورية، وشكل الدكتور سليم الحص أولى حكومات العهد الجديد، وانحسر الكلام عن المصالحة الوطنية لتحل محله لغة التهديد بالحسم العسكري[6]. استهل الهراوي عهده بتغطية احتلال جيش النظام السوري للمناطق الشرقية المسيحية الخارجة عن سيطرته… وتحول لبنان طوال 15 عامًا مجرد محافظة سورية تختار القيادة السورية من يناسب مصالحها لرئاسته في ما كان يصفه النائب ريمون إده بضم ألمانيا النازية للدولة النمسوية المجاورة[7]. وحتى حزيران (يونيو) 1990 عقد الرئيس الهراوي 19 قمة مع الرئيس الأسد والمسؤولين الكبار في دمشق جلها غير معلن حصل سرًا خشية إثارة المزيد من الحساسيات الداخلية مسيحيًا وإسلاميًا.[8]
وغدا القرار اللبناني سوريًا بامتياز نتيجة التفويض الأميركي-السعودي لسوريا. ففي منتصف آب (أغسطس) 1990، استقبل الرئيس حافظ الأسد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الاوسط جون كيلي الذي سلمه رسالة من الرئيس جورج بوش. وفي 13 أيلول (سبتمبر)، زار وزير الخارجية الأميركي جيمس بايكر دمشق للمرة الأولى ، وعقد لقاءً طويلًا مع الرئيس السوري جرى خلاله التفاهم على كيفية معالجة أزمتي الخليج ولبنان. وأعطت واشنطن موافقتها على الإطاحة بميشال عون وفق الشروط السورية مقابل مشاركة سوريا في الحرب على العراق[9] . هذا التفويض الأميركي-السعودي استمر حتى نهاية العام 2001.
وكان القرار سوريًا في التمديد للهراوي كما في انتخابه. في 20 تموز (يوليو) 1995 قال عبد الحليم خدام (نائب الرئيس السوري يومها) إنَّ التمديد للرئيس الياس الهراوي قائم[10]. وفي 10 تشرين الأول (أكتوبر) حسم الأمر حديث الرئيس بشار الأسد إلى “الأهرام” المصرية الذي جاء فيه “يبدو أن اللبنانيين متفقون على التمديد للرئيس”[11]. يومها وافق نواب البرلمان اللبناني على التمديد خلافًا للدستور.
لم يكن الأميركيون متحمسين للتمديد لكنهم بدوا أقل حماسة للمفاوضة أو للمقايضة. وعلق الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيكولاس بيرنز على قرار التمديد في مؤتمره الصحافي اليومي بقوله “إن هذا الامر يعني الشعب اللبناني وحده، وليس على الأميركيين أن يبدوا أي حكم في هذا الشأن”. أما الموقف الفرنسي فاتسم بالتحفّظ وبعدم تحديد رأي واضح وصريح، على اعتبار “أن هذا الموضوع قضية داخلية لبنانية، ويعود إلى مجلس النواب اللبناني أن يقرر بحرية طرق الانتخاب”[12].
كانت سوريا هي اللاعب الرئيس والأوحد في اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية في مرحلة ما بعد الطائف خصوصًا أنها باتت تمسك بكامل مفاصل اللعبة السياسية الداخلية بعدما أطلقت الولايات المتحدة الأميركية يدها في لبنان بعد حرب الخليج الأولى[13]. وساهم في تعزيز وضعها التخلص من أعدائها السياسيين، فدخل قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع السجن في العام 1994، وكان الرئيس أمين الجميل قد استقر في منفاه الاختياري في باريس اعتبارًا من 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1988، وانتقل العماد ميشال عون إلى منفاه الإجباري في العام 1991 نتيجة اتفاق بين السلطات اللبنانية والفرنسية. وخلت الساحة من معارضة مسيحية حقيقية. وجاءت مقاطعة القوى المسيحية للانتخابات النيابية في العام 1992 لتُكرّس هذا الواقع.
في المقابل، أتاح حلفاء الداخل لسوريا وخصوصًا في الرئاسات الثلاث (الهراوي، ونبيه بري، ورفيق الحريري) التي شكلت ما يعرف بالترويكا السياسية، إمكان تثبيت سلطتها في لبنان في إطار لعبة تبادل المصالح والخدمات، مما جعل لسوريا الكلمة الفصل في كلِّ تفصيل لبناني. كان ذلك عهد ما سمي بالوصاية السورية والذي عرف استقرارًا أكيدًا بفعل استقرار العلاقات الأميركية-السعودية-السورية بعد حرب الخليج. وشكل انتخاب العماد إميل لحود في العام 1998 امتدادًا طبيعيًا لهذه الوصاية السورية، المباركة عربيًا ودوليًا، على لبنان. وقد اعتُبرت المرحلة حتى العام 2004، مرحلة سورية بامتياز. [14]
وإذا كان الرئيس حافظ الاسد هو الذي اختار الرئيس إميل لحود، فإن ابنه بشار الذي تسلم الحكم بعد وفاة والده في 13 حزيران (يونيو) 2000 هو الذي دفع في اتجاه التمديد له.
التحوُّل الحاسم 2001- 2005
بين انتخاب إميل لحود في العام 1998 والتمديد له في العام 2004 حصلت جملة تطورات إقليمية ودولية أبرزها احتلال القوات الأميركية للعراق في العام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين. لكن العامل الدولي الحاسم كان في “غزوة” 11 أيلول (سبتمبر) 2001؛ إذ دخلت بعدها دول العالم في عصر محاربة الإرهاب “الإسلامي”، واحتلت قوى التحالف الغربي أفغانستان، وأدرجت عددًا من الدول على لائحة الدول الداعمة للإرهاب ومنها سوريا. وما كان يصح قبل هذا التاريخ لجهة التفويض السوري إمساك زمام الأمور في لبنان، لم يعد يصح بعده، خصوصًا أنَّ سوريا رفضت أن تتعاون مع قوى التحالف الغربي في العراق في العام 2003، كما سبق لها أن تعاونت في العام 1990. تغيرت في الواقع الأهداف الاستراتيجية، وباتت تتطلب نوعًا آخر من التحالفات. وهو ما رفض الأسد الاعتراف به أو قبوله. وهكذا جاء قرار “محاسبة سوريا” الصادر عن الكونغرس الأميركي في أواخر العام 2003،[15] ومن بعده القرار الدولي 1559 في 2 أيلول (سبتمبر) 2004 ليعلنا من دون مواربة انتهاء عصر الوصاية السورية في لبنان. وقد أعلن القرار 1559 “تأييده لعملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة تجري وفقًا لقواعد الدستور اللبناني من غير تدخل أو نفوذ أجنبيين”؛ وطلب من “جميع القوات الأجنبية المتبقية الانسحاب من لبنان”. فما كان من الأسد إلّا أنَّ رد على هذا القرار الذي قصد سوريا في الحديث عن التدخل الأجنبي من دون سواها، بالتمديد للرئيس إميل لحود[16].
اعتبر الرئيس بشار الأسد أن رفيق الحريري ووليد جنبلاط هما رأس المؤامرة ضد نظامه، خصوصًا بعد مشاركة بعض أعضاء كتلة الحريري وجنبلاط بلقاء للقوى المسيحية المعارضة في فندق كارلتون، وبعده لقاء فندق بريستول. وحين لم تعد المعارضة محصورة بالمسيحيين، بل صارت على مستوى كل لبنان، تأكد الأسد أنّ الحريري هو من يحرّك الأمور. وقبل أسبوعين على اغتياله، قال الحريري لوليد جنبلاط بحضور الوزير غازي العريضي: “إما يقتلونني أو يقتلوك”[17]. وهكذا دخل لبنان حقبة الاغتيالات والحروب من جديد.
“حزب الله” يشارك في الحكومة للمرة الأولى
باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، تصاعدت المواجهة بين السنّة وغالبية مسيحية ضد سوريا، فاندلعت “ثورة الأرز” (14 آذار/مارس) في مقابل القوى المؤيدة لسوريا (8 آذار/مارس)، وفي مقدمها “حزب الله”، واستقالت حكومة الرئيس عمر كرامي التي تشكلت بعد اغتيال الحريري، وقد حكمت التوترات هذه المرحلة التي شهدت إعادة توزيع للحصص والمواقع بين الأحزاب. وبعد استقالة عمر كرامي كُلِّف نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة بموجب توافق فرنسي-سعودي-أميركي، على أنَّ مهمَّة هذه الحكومة انطوت على التحضير لانتخابات أيار (مايو) النيابية. وتصاعدت الأزمة بعد خروج القوات السورية من لبنان (26 نيسان/أبريل 2005). وفي تلك الفترة، عاد ميشال عون من فرنسا وانقسمت البلاد عموديًّا بين تحالف 14 آذار وتحالف 8 آذار، الفريق الأول موالٍ للغرب والسعودية، وأمَّا الثاني فموالٍ لإيران وسوريا. لكن ذلك لم يمنع تحالف هذه القوى في الانتخابات البرلمانية التي جرت ربيع 2005 بما عرف يومها بالحلف الرباعي (ضم حركة “أمل” و”حزب الله” وتيار سعد الحريري وتيار وليد جنبلاط)[18].
جرت الانتخابات وفاز تحالف 14 آذار بالأغلبية النيابية، فكُلف وزير المال السابق فؤاد السنيورة بتشكيل الحكومة التي شارك فيها “حزب الله “للمرة الأولى. خرج رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع من السجن بعد 11 عامًا، وتحالف مع تكتل 14 آذار، أمَّا عون فتحالف مع “حزب الله”. وفي 6 شباط (فبراير) 2006، أبرم ميشال عون والسيد حسن نصر الله اتفاق مار مخايل الذي أسهم في رسم المشهد السياسي اللاحق[19].
الحوار والمحاولات الداخلية للحلحلة
دفع الانقسام بين القوى الخارجية المؤثرة تقليديًّا في لبنان، وغياب أُفق التسويات الخارجية المعتادة، القوى السياسية إلى البحث عن سبيلٍ لحلِّ التوترات التي ما انفكَّت تتعمَّق. وبناءً على دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري، انطلقت أولى جلسات الحوار في آذار (مارس) 2006 بين تحالفَي 14 آذار و8 آذار. وكانت الملفات التي وُضعت على الطاولة ملفات دسمة، وشملت اغتيال الحريري والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان[20]، والعلاقة مع سوريا وترسيم الحدود معها وسلاح “حزب الله”. وبعد انعقاد 7 جلسات ، توافق الفرقاء على ميثاق شرف للتخاطب السياسي والإعلامي، وعلى نزع السلاح الفلسطيني خلال ستة أشهر، إلَّا أنَّهم لم يتوافقوا على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقرَّروا تأجيل البحث في الاستراتيجية الدفاعية.
لكن الحرب التي اندلعت في 12 تموز (يوليو) 2006، أعطت نفوذ “حزب الله” بُعدًا إقليميًّا، فبات تطويقه مستحيلًا. وقد بدا ذلك واضحًا في آخر جلسة حوار عُقدت في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، فلم يتوافق الفرقاء لا على المحكمة الدولية ولا على تشكيل حكومة وحدة وطنية.
وفي العام 2007، قررت فرنسا الدخول على الخطِّ بعدما انقطع الحوار بين الفرقاء اللبنانيين، فأقنعتهم الخارجية الفرنسية بعقد جلسة حوار في تموز (يوليو) في سان كلو، إلَّا أنَّه لم يتوصل إلى أي نتيجة.
هكذا نرى كيف أنَّ الحوارات الداخلية كانت تجري أيضًا على وقع المواقف الخارجية وأجنداتها.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة لمزيدٍ من التفاصيل.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش:
[1] حول هذه المرحلة وتفاصيلها يُنظر:
مركز التخطيط الفلسطيني؛ وقائع الأحداث اللبنانية 1975- 1976، الجزء الثاني، بيروت 1976
مسعود الخوند؛ موسوعة الحرب اللبنانية، مرجع سابق، الجزء الخامس
[2] يُنظر: سعود المولى؛ الشيعة اللبنانيون في تبلور وعيهم الوطني، منشورات هيا بنا، بيروت 2008
[3] المرجع السابق نفسه، ومسعود الخوند، مرجع سابق، الجزء السادس
[4]سعود المولى؛ المرجع السابق نفسه. ومسعود الخوند؛ مرجع سابق: الجزء السابع والجزء الثامن
[5] طنوس معوض؛ 18 يوما من عمر لبنان، دار النهار، بيروت،2002
[6] رئاسيات 1998،”ملف النهار”، الياس الهراوي، ص9
[7] رئاسيات 2014 بيار عطاالله، النهار، 15 نيسان 2014
[8] رئاسيات 1998،”ملف النهار”، الياس الهراوي، ص9
[9] كريم بقرادوني؛ لعنة وطن، دار عبر الشرق للمنشورات، بيروت،لا تاريخ. ص223
مسعود الخوند؛ مرجع سابق، الجزء الثامن
[10] حول الموضوع يُنظر مقال سركيس نعوم في مجلة الوسط اللندنية بتاريخ 23/10/1995، أعيد نشره على الرابط التالي:
https://cutt.ly/F8M20Vf
[11] حول الموضوع يُنظر مقال أحمد الغز في جريدة اللواء على الرابط التالي:
http://www.aliwaa.com/Article.aspx?ArticleId=199844
[12] النهار 20 تشرين الاول 1995
[13] http://www.thisissyria.net/2007/09/22/forum/206.html
[14] Augustus Richard Norton, ‘The Lebanese Formula Revisited’, in Theodor Hanf (ed.), Power Sharing: Concepts and Cases (Lettres de Byblos/Letters from Byblos, Byblos 2008), 85-88.
يُنظر عبد الرؤوف سنّو : التعايش المأزوم لبنان من الميثاق الوطني إلى اتفاق الدوحة وتداعياته 1943 – 2011 ؛ متوفر على الرابط التالي https://cutt.ly/TwlE5blq
[15] يُنظر سعود المولى؛ مرجع سابق
International Crisis Group Working to Prevent Conflict Worldwide, “Engaging Syria? U.S. Constraints and Opportunities”, Middle East Report no. 83, February 11, 2009, http://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/8C6E970E5E2DAC378525755A006C4B17-Full_Report.pdf3-4
[16] جنى نصر الله: هل يكون إميل لحود آخر من تنصبه سورية رئيسًا على لبنان؟ النهار – السبت 22 أيلول/ سبتمبر 2007
[17] جورج بكاسيني؛ الطريق إلى الاستقلال. خمس سنوات مع رفيق الحريري، ط2، بيروت 2008، ص 236 .
[18] المرجع السابق نفسه
[19] يُنظر النص الكامل لتفاهم مارمخايل على هذا الرابط: https://cutt.ly/0wlKCDEk
[20] المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي محكمة جنائية ذات طابع دولي اقترحت وأقرت من قبل مجلس الأمن بموجب القرار 1757 للنظر في نتائج التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، ومقرها مدينة لاهاي في هولندا. دعم إنشاء هذه المحكمة في لبنان تحالف 14 آذار في حين عارضها قوى 8 آذار بدعوى إنها تعمل على تدويل لبنان وتؤدي إلى التدخل الدولي والخارجي بشؤون لبنان الداخلية. لكن المحكمة لم تبدأ أعمالها قبل 1 مارس/مارس 2009 وأدانت المحكمة خلال ولايتها ثلاثة عناصر من حزب الله غيابيًا لدورهم في الاعتداء وفرضت عليهم خمس عقوبات سجن مؤبد، ولم تتطرق إلى مسؤولية ودور الحزب نفسه في الجريمة. وفي 1 يوليو/تموز 2022، دخلت المحكمة مرحلة تصريف الأعمال المتبقية للحفاظ على سجلاتها ومحفوظاتها، والوفاء بالالتزامات المتبقية تجاه المتضررين والشهود، والاستجابة لطلبات الحصول على معلومات الواردة من السلطات الوطنية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.