لماذا ستتعاملُ الصين مع سوريا ما بَعدَ الأسد بحَذَر
إذا رفضت الحكوماتُ الغربية مَنحَ الشرعية المطلوبة للمتمرّدين الإسلاميين الذين تحوّلوا إلى حكّامٍ في سوريا، فمن المرجح أن تغتنمَ بكين الفُرَص لاستغلال التوتّرات بين دمشق والغرب بطرقٍ تخدمُ مصالح الصين الخاصة.

جيورجيو كافييرو*
لم تُرَحِّب القيادة الصينية بسقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد في أواخر العام الفائت. وعلى الرُغم من عدم تدخّلها عسكريًا في سوريا، كما فعلت روسيا وإيران، فقد دعمت الصين نظام الأسد ديبلوماسيًا ورمزيًا. وعادةً تحت راية الدفاع عن سيادة سوريا، انضمت بكين إلى موسكو في استخدام حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي 10 مرات لحماية حكومة الأسد من القرارات المدعومة من الغرب خلال 13 عامًا من الحرب الأهلية السورية. كما استضافت الصين الأسد في هانغتشو في أيلول (سبتمبر) 2023 كجُزءٍ من زيارةٍ ساعدت على تعزيز صورته كزعيمٍ نجا من العزلة الدولية. ونتيجةً لذلك، تواجه الصين في سوريا ما بعد الأسد اليوم معضلات مُعقَّدة. ولكن اعتمادًا على كيفية تطور الأوضاع وكيفية تعامل الغرب في نهاية المطاف مع القوى الجديدة في دمشق، فإنَّ بكين والحكومة السورية المؤقتة بقيادة جماعة “هيئة تحرير الشام”، قد تنجحان في إنشاءِ شكلٍ من أشكالِ الشراكة المتجذّرة في التفكير البراغماتي والواقعي.
الصين والحرب الأهلية السورية
عندما وصلت الانتفاضات العربية إلى سوريا في العام 2011، عارضت الصين تغيير النظام في دمشق. ولم يكن هذا بالضرورة بسبب حبّها لنظام الأسد في حدِّ ذاته، بل كان أكثر بسبب المفاهيم الصينية لـ “الاستقرار الاستبدادي” ومعارضة الثورات المدعومة من الغرب باسم “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”.
كانّ المسؤولون الصينيون يُشكّكون في إمكانية استفادة الغرب من الإطاحة بالأسد وقلقين بشأن “الثورات الملوّنة” بشكلٍ عام. وقد أكدت حالات التدخّل العسكري الغربي في العراق وليبيا، على وجه الخصوص، وجهة نظر بكين بأنَّ مثل هذه الحملات التي تقودها الولايات المتحدة فوضوية ومزعزعة للاستقرار، وغالبًا ما تخلق مشاكل سيئة أو أسوأ من الأنظمة الاستبدادية المستهدفة التي حلّت محلها. بالإضافة إلى ذلك، كانت بكين تخشى من إمكانية وصول رياح التغيير السياسي في العالم العربي إليها، في وقتٍ كان ما معدله 500 مظاهرة مناهضة للفساد تجري هناك يوميًا.
مع ذلك، كان الحديث عن دعم الصين لسوريا اقتصاديًا أثناء الحرب الأهلية مبالغًا فيه في كثير من الأحيان. وعلى الرُغم من أنَّ بكين ودمشق أقامتا “شراكة استراتيجية” خلال زيارة الأسد إلى هانغتشو في العام 2023 -والتي جاءت بعد 21 شهرًا من انضمام سوريا إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية- إلّا أنَّ العلاقات الاقتصادية الثنائية لم تَنمُ بما يكفي لموازنة التأثير الضار للعقوبات الغربية الصارمة ضد سوريا ونظام الأسد. وعلى الرُغم من آمال الحكومة السورية في أن تستثمرَ الصين بكثافة في إعادة إعمار البلاد بعد أن حقّقَ النظام ما بدا وكأنه انتصارٌ حاسم على المتمرّدين في العامين 2016 و2017، إلّا أنَّ بيئة الاستثمار في سوريا كانت غير مستقرة للغاية حتى بالنسبة إلى الصينيين المتسامحين تاريخيًا مع المخاطر. وبالنظر إلى أنَّ التجارة الثنائية بلغت 541 مليون دولار في العام 2022 -انخفاضًا من 2 ملياري دولار في العام 2011- فمن الواضح أنَّ سوريا لم تكن سوقًا جذّابة للشركات الصينية لسنوات عديدة. مع ذلك، تُعدُّ الصين مصدرًا رئيسًا للواردات لسوريا، بعد تركيا والإمارات العربية المتحدة فقط، حيث تشمل الصادرات الصينية الرئيسة إلى سوريا الأقمشة والحديد والإطارات.
العاملُ المُتعلّق بمسلمي شينجيانغ
خلال الحرب الأهلية السورية، سافر المسلمون الأويغور من إقليم شينجيانغ في غرب الصين إلى سوريا للانضمام إلى صفوف الجماعات الجهادية التي تقاتل نظام الأسد. وتتراوح تقديرات عددهم من بضع مئات إلى 5000. وقدّرت إحدى وسائل الإعلام في دبي الرقم بنحو 20 ألفًا. وقد أثار احتمال عودة هؤلاء المتطرّفين العنيفين إلى الصين الرعب بين المسؤولين في بكين، وهو سبب آخر وراء دعم الصين للأسد في الصراع. وفي حين استخدمت الصين لفترة طويلة تهديد تطرُّف مسلمي الأويغور كستارٍ دخاني لقمعها لهم في شينجيانغ، فإنَّ هذه المخاوف ليست بالضرورة بلا أساس في ما يتعلق بسوريا. وكما أعلن أحد المتشدّدين الأويغور في العام 2017، “لم نكن نهتم بكيفية سير القتال أو مَن هو الأسد. أردنا فقط أن نتعلّمَ كيفية استخدام الأسلحة ثم العودة إلى الصين”.
لقد رأت بكين أنَّ سقوطَ الأسد كان يحمل دومًا إمكانية خلق معضلات أمنية في ما يتصل بقضية الأويغور المتطرّفين الذين اكتسبوا خبرة القتال. وربما ترى الصين الآن أنَّ هذه التهديدات أصبحت أقرب إلى التحقق، وهو ما تجسّد في ظهور أحد المُتشدّدين الأويغور المُلَثّمين في مقطع فيديو تمَّ تداوله في يوم سقوط الأسد، حيث أعلن: “سنطرد قريبًا الكفّار الصينيين”.
ونتيجةً لهذا، تشعرُ بكين بقلقٍ بالغ إزاء المُتشدّدين الأويغور الذين ما زالوا في سوريا ما بَعدَ الأسد اليوم، وبعضهم في مناصب رفيعة المستوى. ومن بين الأمور المُثيرة للقلق بشكلٍ خاص الحزب الإسلامي التركستاني، وهو منظمة جهادية تابعة لتنظيم “القاعدة” ومتحالفة منذ فترة طويلة مع “هيئة تحرير الشام”. وقد أدرجته الأمم المتحدة ككيانٍ إرهابي، ويتألف بشكلٍ أساس من الأويغور والأوزبك، ويسعى إلى تشكيل دولة إسلامية في غرب الصين -بما في ذلك شينجيانغ- وأجزاء من آسيا الوسطى. وقد تأسّس الحزب الإسلامي التركستاني في باكستان في العام 1997، ونقل مقاتليه إلى إدلب أثناء الحرب الأهلية السورية، بعد أن كثفت بكين ضغوطها على السلطات في باكستان وأفغانستان لملاحقة المجموعة. وشارك الحزب الإسلامي التركستاني، الذي صنّفته الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية حتى العام 2020، في تقدم المتمرّدين بقيادة “هيئة تحرير الشام” الذي أطاحَ نظام الأسد في أواخر العام الماضي. وحتى لو لم يتمكّن مقاتلو الحزب الإسلامي التركستاني من العودة إلى الصين مباشرة من سوريا، فإنَّ قدرتهم على السفر إلى البلدان المجاورة للصين تثير قلق صنّاع السياسات في بكين.
ردًّا على التقارير التي تُفيدُ بأنَّ السلطات الجديدة في دمشق تُعيِّنُ مقاتلين من الحزب الإسلامي التركستاني في مناصب رفيعة المستوى داخل الجيش السوري المُعاد تشكيله، أوضح المسؤولون الصينيون أنَّ الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” يجب أن “تفي بالتزاماتها في مكافحة الإرهاب ومنع أي قوات إرهابية من استخدام الأراضي السورية لتهديد أمن البلدان الأخرى”. ومن المرجح أن يتطلب إقامة علاقة صحّية مع الصين من “هيئة تحرير الشام” إيجاد توازن بين إظهار الامتنان لمقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني وتخفيف المخاوف الأمنية لدى بكين. وقد أعرب أحمد الشرع –قائد “هيئة تحرير الشام” والزعيم السوري الفعلي المعروف سابقًا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني- في وقت سابق عن تضامنه مع الأويغور ومعاناتهم من “الاضطهاد” تحت الحكم الصيني، بينما صرح أيضًا بأنَّ “نضالهم ضد الصين ليس نضالنا”.
إبقاءُ الأبوابِ مفتوحة
إن الصين سوف تتعامل مع الموقف العام بحذر، وتمتنع عن اتخاذ قرارات متهوّرة في ما يتصل بـ”سوريا الجديدة”، في حين تحاول ربما استخدام نفوذها لتحفيز حكومة ما بعد الأسد في دمشق على تجنُّب التسامح مع الجماعات المسلحة الأويغورية على الأراضي السورية. وفي الممارسة العملية، قد يستلزم هذا استخدام الصين لحق النقض في مجلس الأمن الدولي للدفاع عن دمشق من أيِّ إجراء محتمل قد تسعى الحكومات الغربية إلى اتخاذه ضد “هيئة تحرير الشام” في المستقبل، في حين تَعرُضُ القيامَ باستثمارات كبيرة في الاقتصاد السوري الذي مزّقته الحرب.
ونظرًا لعدم رغبتها في أن تكونَ سوريا ما بعد الأسد ملاذًا للمنظمات الإرهابية الدولية التي تتطلّع إلى الصين، فمن المُحتَمل أن يجدَ المسؤولون في بكين سُبُلَ تحقيقِ أقصى استفادة من الموقف ومحاولة العمل مع أيِّ حكومة تنشأ في دمشق. وعلى الرُغم من أنَّ دور سوريا في مبادرة الحزام والطريق لم ينطلق أبدًا في عهد الأسد، فإنَّ الصين سوف تحافظ على منظورٍ طويل الأجل لدمشق وتنظر إلى علاقتها المستقبلية مع سوريا في سياق مشروع تطوير البنية الأساسية الطموح هذا في السنوات والعقود المقبلة، بدلًا من التركيز حصريًا على الآفاق القصيرة الأجل. وسوف يتطلب القيام بذلك “الانخراط العملي” مع القيادة السورية الجديدة.
على الصعيد السياسي، سوف تسعى الصين إلى الاستفادة من أيِّ أخطاءٍ غربية مُحتَملة في سوريا ما بعد الأسد. وبالمقارنة بالرفض الحالي من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لشطب “هيئة تحرير الشام” من قائمة الجماعات الإرهابية مع الإبقاء على أشد العقوبات المفروضة على سوريا، فإنَّ مبدأ “عدم التدخُّل” الذي تتبناه الصين قد يروق للحكومة السورية الجديدة. ومع إثبات الشرع بأنه قبل كل شيء شخصٌ عملي وبراغماتي، فإنَّ قيادة “هيئة تحرير الشام” تُدرك أهمية تأمين الشراكات مع كلٍّ من القوى الإقليمية وأعضاء مجلس الأمن الدائمين من أجل الحصول على قدرٍ أعظم من الشرعية على الساحة الدولية، وهو أمرٌ مهم للتَحَدِّييَن المزدوجين المتمثلين في بناء الدولة وإعادة بناء اقتصاد سوريا.
إذا رفضت الحكومات الغربية منح مثل هذه الشرعية للمتمرّدين الإسلاميين الذين تحوّلوا إلى حكامٍ في سوريا، فمن المرجح أن تغتنم بكين الفرص لاستغلال التوترات بين دمشق والغرب بطرقٍ تخدمُ مصالح الصين الخاصة. وفي ظل هذه الظروف، قد تحافظ سوريا التي تحكمها “هيئة تحرير الشام” على سياسة “التطلّع شرقًا” التي انتهجتها دمشق منذ عهد الأسد، لصالح الصين.
- جورجيو كافييرو هو الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة “Gulf State Analytics“، وهي شركة استشارية في مجال المخاطر الجيوسياسية مقرها واشنطن وتُركّز على الشرق الأوسط، وهو أستاذ مساعد في جامعة جورج تاون. يمكن متابعته عبر منصة إكس على: @GiorgioCafiero.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.