لبنان: آخِرُ العلاجِ “الحَرَد”

محمّد قوّاص*

تدخّلَ المجتمعُ الدولي، بشكلٍ مُباشَرٍ مُعلَن، لجَرِّ الطبقةِ السياسية في لبنان إلى وقفِ الشغور الرئاسي، فانتُخِبَ قائد الجيش، العماد جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية. بالمقابل عَزَفَت عواصمُ القرار، لا سيما المُؤثِّرة منها، عن مُمارسةِ أيِّ ضغوطٍ لاختيارِ رئيسٍ للحكومة فانتَجَت المشاوراتُ النيابية المُلزِمة اختيارَ نوّاف سلام لرئاسة الحكومة. وفي تلك المُفارقة تظهرُ جيِّدًا قوة العامل الخارجي، ليس فقط حين يُدلي بدلوٍ حازم، بل أيضًا حين يُترَكُ للبنانيين تَدبّر مخارج لمأزقهم.
وأيًّا كانت حوافز التدخُّل الخارجي من عدمه، وحيثيات الحراك البرلماني الداخلي، فإنَّ الأمرَ يعكس موازين قوى دولية وإقليمية ومحلّية تغيّرت، وبات حسابُ الخسائر والأرباح يُنتجُ ذلك التحوُّل الجذري في هوية وبرامج ساكن قصر بعبدا وساكن السراي. ولو لم نكن نعرف ظروف الحكاية، لخال لنا أنَّ غرفةً واحدة دبّرت وصول عون إلى الرئاسة ووصول سلام إلى رئاسة الحكومة.
يكفي التمعُّن في قراءة “خطاب القسم” وخطاب سلام عقب لقاء رئيس الجمهورية، لاستنتاجِ مدى التناغُم والتلاقي في عزم الرجلين على إعادة البلد إلى سكّته “العادية” بعد عقود، منذ اتفاق الطائف في العام 1989، من الطبيعة “الشاذة” التي اُديرَت بها العملية السياسية في البلد. ولئن تقادمت وصاية دمشق وترنّحَ نفوذ طهران، فإن إنتاج سياسة “صُنِعَ في لبنان” ( Made in Lebanon) لم تدخل قاموس اللبنانيين وقد يصعبُ تصريفُ بضائعها.
وفق تلك الاستفاقة على ما هو من عاديات الأمور، يبدو الاستثناءُ مُعاندًا مُكابرًا غير قابل بالإيمان بعلم الحساب وحركة التاريخ. وجديرٌ هنا تأمُّل حالة الحَرَد والذهول التي قابل بها “الثنائي الشيعي” (“حزب الله” وحركة “أمل”) واقع انتخابات (على شكل مشاورات) “ارتكبها” مجلس النواب اللبناني، بشكلٍ ديموقراطي، ينصّ عليه الدستور، لحمل شخصية جديدة، خارج اتفاقٍ مزعوم، ليشكّل حكومة العهد الجديد شريكًا كاملًا لرئيس الجمهورية وخطاب قسمه.
وحين تخرج من أدخنة المحنة عبارة “مِش هَيك اتفقنا”، ففي ذلك عيبٌ أن يكونَ هناك اتفاقٌ قد دُبِّرَ خلف الكواليس وداخل الغُرَفِ المغلقة، كالعادة في زمن الوصايتين، من وراء ظهر اللبنانيين وبرلمانهم. والعيب الأكبر أن يتمّ المجاهرة والفخر من دون خجلٍ بالعيب بصفته حقّا تمّ انتهاكه. ولأنَّ من أصول العمل السياسي التمتّع بالرشاقة والبراغماتية لمواجهة التحدّيات والتعامُل مع المستجدّات غير المحسوبة، فإنَّ أقسى أعراض الضعف والتخبُّط هو “الحَرَد”.
والأدهى في أمرِ الاتفاقِ المزعوم أنه استندَ ببلادةٍ على مسلّمة خضوع برلمان البلد آليًا إلى ما قيل إنه حيكَ سرًّا مع أطرافٍ وجهّاتٍ صفقة لانتخاب عون رئيسًا. وبدا مما سرّبه “الحَرَد” من بنودٍ للصفقة الجديدة توضيب لخطّةِ طريقٍ تفرُض اسمًا بعينه لتشكيل الحكومة، وخريطة للحكومة العتيدة، وتوزيعًا للحصص داخل الإدارة اللبنانية. لكن التفاهمات المُفتَرضة تفرُضُ أيضًا شروطًا على العالم، سواء في مسألة مطالبته ببرامج لإعادة الأعمار، أم في تفسيرٍ “غبِّ الطلب” لقرار مجلس الأمن رقم 1701.
وفيما سيَجِدُ أهلُ “الحَرَد” مخارج أمام جمهورهم للتعامل مع الوضع المستجدّ في لبنان، فإنَّ نكبةَ “الثنائي الشيعي” أنه يكتشف فجأة أنَّ عواصم القرار حين قرّرت عدم التدخّل وترك الأمر للبنانيين وبرلمانهم، جرّدَ أيُّ اتفاقٍ مزعومٍ مُسبَق من أيِّ غطاءٍ خارجي ضامن وحرّرَ أهل البلد نهارًا من قيودِ ما حيك ليلًا. والواضح جًّدا أنَّ كارثة الحرب الأخيرة في لبنان، وسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وانشغال الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتحضير لاتفاقٍ ما مع “الأخوة” في الولايات المتحدة، وفق كلمات الرئيس مسعود بزشكيان، لم يترك لمَن حكم البلد، منذ 2005، إلّا نعمة الحَرَد.
والحال فإنَّ ردّ الفعل على تحوّلات لبنان بعد تلك في سوريا يبدو داخل إطار المنطق وسياقاته. يسهل هنا استنتاج حالة التأقلم والسعيّ إلى التعامل مع “الأمر الواقع” في طهران، وحالة الذهول والإنكار والتشبُّث بقواعد زمن بات راحلًا في بيروت. ولن يطولَ الأمر حتى تظهر أعراض جديدة، قد تكون دوافعها (للأسف) من طهران، للانخراط في ورشة عمل عون-سلام، ليس فقط لأنَّ الأمرَ مطلبٌ لبناني عام، بل لأنه بات حاجة ملحّة لشيعة البلد الذين يعيشون في قراهم ومدنهم نكبةً حقيقية لا تحجبها مزاعم النصر التي باتت نافرة تعبّر عنها بيأسٍ حسابات التواصل الاجتماعي.
تبدو طهران عائدةً إلى إيران، تودّع أذرعها، تنشغل بمصالحها، حريصةً على الاهتمامِ بملفاتها. انتهى زمنٌ طال منذ العام 1979. صار التحوّل السوري حقيقةً لا رجعة عنه يدعمه قرارٌ إقليمي دولي واضح. والأجدى في لبنان التخلّي عن أيِّ حَرَدٍ، والتحصُّن بالبلد ودستوره، والعمل بأصول وقواعد مقاربة التحوّلات الدولية ومغادرة حالة شاذة انتهت صلاحياتها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى