الانتخاباتُ الرئاسية في لبنان: تاريخٌ من التدخّلاتِ والتوازُنات الخارجية (1)
عرفت الإنتخايات الرئاسية اللبنانية تدخلات عربية وأجنبية منذ استقلال لبنان في العام 1943، الأمر الذي جعلها لعبة سياسية في أيدي القوى المؤثّرة القريبة والبعيدة. في ما يلي دراسة عن هذه الإنتخابات وتاريخها وكيف كانت تجري حتى الآن تنشرها “أسواق العرب” على خمس حلقات، هنا الأولى منها.

الدكتور سعود المولى*
بعد شغور المنصب الرئاسي في لبنان لأكثر من سنتين (منذ 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022) انتخب البرلمان اللبناني يوم الخميس 9 كانون الثاني (يناير) 2024 قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية بأكثرية 99 صوتًا من أصل 128. سبقت ذلك جُملةً من التطوّرات والمداخلات كان أهمها وأخطرها والعامل الحاسم في التعجيل بالانتخاب نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان واتفاقية وقف إطلاق النار التي وافق عليها “حزب الله”. والحال أنَّ تقاطُعَ المداخلات الدولية مع الوضعِ المُستَجِدِّ على صعيدِ الحرب في جنوب لبنان انعكسَ في تحديد موعد جلسة الانتخاب. وعلى الرُغم من إدِّعاءات الكثيرين بأنَّ الانتخابات الرئاسية اللبنانية كانت عملية محض داخلية، تقول هذه الدراسة ومن دون مبالغة إنَّ الانتخابات الرئاسية في لبنان جرت، وهي تجري منذ زمن طويل، تحت وطأة وسطوة التدخّلات الخارجية؛ ونحنُ هنا سنستعرض نماذج عدة من “التدخّلات” الخارجية التي عرفتها الانتخابات الرئاسية وسنحاول قراءة دروسها.
فاصلة تاريخية[1]
- عبر تاريخ لبنان، لعبت العصبيات العشائرية والذهنيات المتولِّدة منه (التضامن الطائفي) دور التيارات النابذة (centrifugal forces) بحيث أدت الصراعات بين الداخل العربي-الإسلامي والخارج الغربي الأوروبي إلى قيام حواجز نفسية منعت التحام سكان الجبل بالسواحل والسهول الداخلية، على الرُغم من الوحدة الثقافية-اللغوية-العرقية التي تجمعهم في بوتقة حضارية واحدة.
- استقرت قواعد توزيع السكان والطوائف في القرن الثالث عشر-الرابع عشر (بعد حملات المماليك على جبيل وكسروان والشمال)، ما أرسى تفكك المناطق اللبنانية وانعدام الوحدة السياسية والوطنية على الرغم من سيادة اللغة العربية وعلاقات القرابة العربية…
- العصبيات العشائرية الطائفية والذهنيات المتولّدة منها كانت في الوقت نفسه قوى عسكرية حزبية.
- النظام الإقطاعي الفيدرالي شبه المستقل ذاتيًا والذي قام عليه الحكم العثماني للبنان، أدى الى ظهور التيارات الجاذبة (centripetal forces) التي ساعدت على بلورة الشعور الوطني اللبناني لاحقًا. ويبدو أن فترة الإمارة في جبل لبنان[2] عرفت وئامًا طائفيًا واختلاطًا سكانيًا جغرافيًا واقتصاديًا، على قاعدة وجود إدارة سياسية-عسكرية مشتركة خلقت قواسم مشتركة.
- العصبيات الحزبية القيسية- اليمنية[3] كانت دمجت زعماء الطوائف في تيارات وجماعات سياسية مشتركة متجاوزة للطوائف؛ وهي حزبيات حاربت ضد بعضها البعض بغض النظر عن الانتماء الديني الطائفي. هنا أيضًا قاعدة لوحدة صف متجاوزة للطوائف كانت في أساس العصبيات اليزبكية-الجنبلاطية ثم الانقسام الدستوري-الكتلوي في المراحل اللاحقة.
- نظام الامتيازات العثماني للدول الأوروبية[4]، ونظام الملل العثماني[5] في الإدارة الداخلية لشوؤن الطوائف، ضاعفا من سيطرة وسطوة الزعامات الدينية والعائلية على طوائفها وعشائرها. وبذا فإنَّ التيارات النابذة والتيارات الجاذبة كانت تتصارع على أرضية التوازنات الخارجية بين السلطنة العثمانية ودول أوروبا، خصوصًا أن الدخول الغربي الاقتصادي-الاجتماعي والثقافي-التربوي، فاقم من التفاوتات بين المناطق والطوائف اللبنانية.
- المثال القوي على الصلة ما بين الاستقواء بالخارج والغلبة في الداخل تُقدّمه حالة الموارنة والدروز في الفترتين الأولى (1840-1841) والثانية (1860-1861)، حيث أدى الصراع الدولي للسيطرة على المنطقة إلى صراع بين الإقطاعيين اللبنانيين على السلطة المحلية، على قاعدة استشعار الموارنة بقوتهم المستجدة للتخلّص من الإقطاع الدرزي والحكم العثماني وبتشجيع أوروبي مماثل لتشجيعهم الحركات القومية المسيحية في البلقان.
- نظام القائمقاميتين[6] ونظام المتصرفية[7] كانا نتيجة الحرب الأهلية الداخلية من جهة، والتدخلات الدولية الخارجية من جهة ثانية، والتي أنتجت توازنات جديدة في علاقة الدولة العثمانية والدول الأوروبية (ازدياد النفوذ الأجنبي، مقتضيات التوفيق بين مصالح وسياسات الدول الغربية المتصارعة، وبينها وبين الدولة العثمانية)، كما في علاقات الطوائف اللبنانية وميزان القوى بينها.
- والحال أنَّ تاريخ الصيغة السياسية اللبنانية، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، مرورًا بكل محطات تَشَكُّل الكيان اللبناني ودولته، هو تاريخ التدخل الخارجي لإنجاز تسوية بعد صراعات وحروب داخلية متكررة؛ ولا تشذُّ مسألة الانتخابات الرئاسية اللبنانية عن هذه القاعدة.
نموذج مرحلة الاستقلال الأولى 1943-1958
أسس الصراع البريطاني-الفرنسي في المشرق لقيام دولة الاستقلال في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943[8]. ولم تخلُ أول انتخابات رئاسية من حدٍّ أدنى من المقاييس الديموقراطية البرلمانية على النمط الغربي، بفضل الاحتلال البريطاني الذي طرد قوات فيشي الفرنسية، وكانت له اليد العليا في تلك المرحلة. كانت البلاد منقسمة فعليًا بين كتلتين سياسيتين وبرلمانيتين حكمتا الحياة السياسية اللبنانية لفترة طويلة، هما الكتلة الدستورية (ومن أعلامها بشارة الخوري ورياض الصلح، وكانت بريطانيا تدعمها)؛ والكتلة الوطنية (علمها إميل إده وكان الحاضن الطبيعي لها البيئة المارونية المؤيدة لفرنسا). وقد مثّل قرار بريطانيا إرسال أول بعثة ديبلوماسية إلى لبنان في العام 1941، بداية الصراع الفعلي بينها وبين فرنسا، كانت انتخابات الرئاسة الأولى مسرحه الدوري. وبدعم بريطاني أمام فرنسا المنهارة نتيجة الاحتلال النازي فاز بشارة الخوري والكتلة الدستورية في انتخابات 1943. وفي العام 1949 جرى التمديد للرئيس بشارة الخوري لولاية رئاسية جديدة، على وقع تداعيات نكبة 1948 في فلسطين، وبالأساس بسبب انشغال فرنسا في أزماتها الداخلية المتراكمة بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل الجمهورية الرابعة (بين العامين 1946 و1958) التي تعتبر أسوأ فترة سياسية في حياة فرنسا. ففي تلك السنوات وقعت فرنسا في أتون الحرب في الهند الصينية (1946-1954) وواجهت انتفاضة جزيرة مدغشقر (1948- 1949)[9] وتصاعد المقاومة الفيتنامية ضدها، ناهيك عن الأزمة السياسية العنيفة التي تسببت بها الفضيحة العسكرية السياسية المعروفة باسم “قضية الجنرالات” والمتعلقة بتسريب تقرير سري لقائد أركان الجيش الفرنسي عن الوضع في الهند الصينية[10]. كل هذا جعل بريطانيا طليقة اليدين في تقرير سياسة لبنان خصوصًا بعد أن تخلّصت من عبء فلسطين والهند بقرارها تقسيم البلدين وإنتاج حالة مستدامة من الصراعات والعنف وعدم الاستقرار في المنطقة.
لكن الرئيس بشاره الخوري لم يكمل ولايته الثانية بسبب تصاعد الغضب الشعبي ضده من جهة وتخلي بريطانيا عنه من جهة ثانية. وما بين العامين 1949 و1952 كانت الانقلابات السورية المتتالية وكانت الأزمات المتفاقمة بسبب اللجوء الفلسطيني والاضطرابات السورية والقطيعة الجمركية مع سوريا وفصل العملة بين البلدين وحلول ميناء حيفا محل ميناء بيروت…إلخ. في العام 1951، تشكّلت معارضة واسعة لسياسة بشارة الخوري ركّزت على العمل لإطاحة الرئيس. عمّ الإضراب بيروت وسائر المناطق اللبنانية، وذلك يومي 15 و 16 أيلول (سبتمبر) من العام 1952، كما تقدّم عددّ من النواب بطلب استقالة بشارة الخوري. قدّم الرئيس صائب سلام استقالة حكومته، في 17 أيلول (سبتمبر)، ولم يقبل أي شخص آخر بتشكيل حكومة جديدة. وعلى الأثر قدّم بشارة الخوري استقالته، وتشكلّت حكومة ثلاثية برئاسة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب.
نموذج مرحلة التوازن العربي-الغربي 1958-1970
فاز كميل شمعون برئاسة الجمهورية في 23 أيلول (سبتمبر) من العام 1952، بدعم بريطاني (وأميركي أيضًا). لقد تخلت بريطانيا عن بشارة الخوري بسبب انخراطها النشط في استعادة لبنان والشرق الأوسط عمومًا (حلف بغداد مثالًا) وبدء عملية ترتيب أوضاعها في المنطقة بعد صعود الرئيس محمد مصدق في إيران وتأميمه النفط (آذار/مارس1951) وقيام الثورة المصرية (تموز/يوليو 1952)، والانقلاب العسكري ضد الملك طلال في الأردن (آب/أغسطس 1952)؛ وأخيرًا تشكيل الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (ضمت فرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا)، وهي كانت نواة لما سيصبح لاحقًا الاتحاد الأوروبي. وبعد العام 1956 وأفول الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية (تصاعد حرب التحرير الوطنية في الجزائر منذ العام 1954، تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر 1956، ثم الوحدة المصرية-السورية 1958) حلت الولايات المتحدة الأميركية محل الإمبراطوريتين القديمتين، في مواجهة صعود الناصرية والقومية العربية[11].
ورثت الشهابية (ما سُمِّيَ لاحقًا ب”النهج”) بقايا الكتلة الدستورية في ظل وضع عربي جديد آيته الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر والعراق، والحرب الباردة بين الجبارين. فجاء الجنرال فؤاد شهاب إلى الرئاسة باتفاقٍ أميركي–مصري 1958. لكن شهاب لم يقبل بالتمديد أو التجديد (1964) الذي جاءه على طبقٍ من فضة (عريضة وقعها 71 نائبًا من أصل 99 هم عدد أعضاء البرلمان يومها) وذلك لمعرفته الدقيقة بتأثيرات الوضع العربي المحيط وتداعياته على لبنان، منذ وصول البعث إلى السلطة في العراق وسوريا (1963) ثم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني في العام 1964[12].
وكان عهد الرئيس شارل الحلو (1964-1970) استكمالًا في وجهٍ من وجوهه لعهد الرئيس شهاب محمولًا على تدخل فرنسي-فاتيكاني هذه المرة أراد بلورة وضع جديد للمسيحيين في لبنان. نذكر هنا تأثيرات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وصعود الديغولية في فرنسا، على مجمل الوضع اللبناني والماروني منه تحديدًا… لذا كانت مرحلة شارل الحلو مرحلة هدوء واستقرار لولا أن قطعت أنفاسها أزمة بنك إنترا (أواخر العام 1966) ثم نكسة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 والانطلاقة القوية للمقاومة العسكرية الفلسطينية بعد معركة الكرامة في الأردن في 21 آذار (مارس) 1968. فكان صعود الحلف الماروني الثلاثي (ريمون إده، بيار الجميل، كميل شمعون) واكتساحه انتخابات البرلمان في العام 1968، وكانت المعارك السياسية والعسكرية حول الموقف من العمل الفدائي وحقه بالعمل انطلاقًا من الأراضي اللبنانية 1968-1970.
نموذج انتخابات 1970 الموصوفة بالاستثنائية
يحلو للكثيرين التأكيد على أنَّ انتخابات الرئاسة في 23 أيلول (سبتمبر) 1970، والتي فاز فيها سليمان فرنجية (بفارقِ صوتٍ واحد)، كانت الوحيدة التي جرت من دون أيِّ تدخُّلٍ خارجي. لكن الاستحقاق الرئاسي في العام 1970 جاء تتويجًا لجُملةِ تحوّلاتٍ إقليمية وداخلية أبرزها: إنتخابات 1968 النيابية التي أحرز فيها الحلف الثلاثي الماروني تفوّقًا كبيرًا مستفيدًا من نكسة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، التي أضعفت التدخّل المصري الداعم للشهابيين وللمسلمين عمومًا؛ العدوان الاسرائيلي الكبير على مطار بيروت الدولي (28 كانون الأول/ديسمبر 1968) الذي كان بدايةَ دخولِ البلاد في سلسلةِ أزماتٍ عنيفة حول الموقف من العمل الفدائي في لبنان؛ وهي أزمات توجّها اتفاق القاهرة[13] الذي كان نقطة تحوّل كبرى في الوضع اللبناني (من حيث تصاعد الالتفاف المسيحي حول الحلف الثلاثي الجديد) كما الوضع العربي (من خلال تعاظم قوة وقدرات الثورة الفلسطينية انطلاقًا من جنوب لبنان). وبالتالي فقد كان الحلف الثلاثي ناخبًا كبيرًا في الاستحقاق الرئاسي محمولًا على وضعٍ إقليمي جديد، إلّا أنه لم يستطع تأمين أغلبية لأحد أعضائه فجاءت التسويات والتدخّلات (خصوصًا الروسية منها[14]) في ما سُمي بـ”صُدفة الصوت الواحد” الذي تبيَن أنه كان صوتًا جنبلاطيًا. وكان انتخاب الرئيس فرنجية إعلانًا بنهاية الحلف الثلاثي والشهابية في آن[15]، وقد تلته ورافقته متغيّرات جذرية في المنطقة تمثّلت بأحداث أيلول الأسود في الأردن وخروج منظمة التحرير الفلسطينية بعدها إلى لبنان، ووفاة الرئيس عبد الناصر يوم 28 أيلول (سبتمبر) 1970 بسبب الإنهاك وانشغاله بأحداث الأردن ومحاولات وقف القتال وعقد القمة العربية . لكن التغيّر الأهم تمثّل في ما سُمي الحركة التصحيحية في سوريا، وقد بدأ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه منذ أواخر العام 1969 واكتمل انقلابه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 لتبدأ مرحلة التدخل السوري المكشوف في لبنان.
وكانت ولاية الرئيس سليمان فرنجية في سنوات 1970-1976 شديدة الاضطراب وشهدت أحداثًا اجتماعية كبيرة من إضرابات وتظاهرات عمالية وطلابية… كما إنّها شكلت خميرة إنضاج الحرب الأهلية عبر سلسلة من الصدامات العسكرية والشعبية بين مؤيدي العمل الفلسطيني المسلح ومعارضيه، وصلت ذروتها في أحداث أيار (مايو) 1973 بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين، وانتهت بحرب السنتين 1975-1976[16].
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش:
[1] حول تاريخ لبنان الطائفي والتدخلات الخارجية يُنظر:
كمال الصليبي: بيت بمنازل كثيرة ، الكيان اللبناني بين التصوّر والواقع. منشورات نوفل، بيروت 1988
وجيه كوثراني: الاتجاهات الاجتماعية السياسية في جبل لبنان والمشرق العربي 1860- 1920، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1976
[2] إمارة جبل لبنان هو الاسم الذي أطلقه المؤرخون على جبل لبنان خلال العقد الثاني من القرن السابع عشر، وكانوا أطلقوا عليه أسماء متعددة غيره: إمارة الشوف، إمارة جبل الدروز. تأسَّست الإِمارة في العام 1516، على يد الأمير فخر الدين المعني الأول، الذي قدم الولاء للباب العالي. ولكن محاولاته التملُّص من دفع الجزية أزعجت الأتراك، فقرروا بسط النفوذ المباشر على البلاد، وفي العام 1544 توفي فخر الدين مسمومًا في بلاط باشا دمشق، وكذلك قتل ابنه قرقماز في العام 1585 أثناء قتاله للأتراك. بقيت المناطق التي تشكل لبنان المعاصر مقسَّمة وفق التقسيم الإداري الذي وضعه العثمانيون، فاتبعت بعض المناطق ولاية دمشق وبعضها الآخر ولايتيّ طرابلس وصيدا، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد فخر الدين الثاني بن قرقماز، الذي كان سياسيا ماهرًا ، فقام بدفع الجزية للسلطان وتقاسم معه الغنائم الحربية، فعينه السلطان واليًا على جبل لبنان، ثم وسّع نطاق سلطانه حتى شمل سوريا وفلسطين وشرق الأردن، فاعتبر من أعظم الشخصيات اللبنانية والشرقية التي برزت أثناء العهد العثماني، ولكنَّ أعداءه أثاروا غضب السلطان والولاة عليه، فقامت حملة كبيرة ألقت القبض عليه وسيق إلى الآستانة وأعدم شنقًا. وبعد ذلك بفترة زالت الإمارة المَعنية من جبل لبنان بعد أن دامت أكثر من خمسمئة سنة وحلت محلها الإمارة الشهابية. حكم جبل لبنان 8 أمراء من آل شهاب خلال الفترة الممتدة بين العامين 1697 و1841، وكان أبرزهم بشير الثاني الذي اعتبر خليفة فخر الدين الثاني. وخلال عهده حصلت بضعة أحداث مهمة في لبنان منها ثورة الشعب على الأمير بسبب الزيادة الباهظة في الضرائب، ومجيء الجيش الفرنسي إلى سوريا بقيادة نابليون بونابرت أثناء محاولته احتلال عكا، والحملة المصرية على بلاد الشام التي أخرجت لبنان لمدة تسع سنوات من تحت الحكم العثماني وأخضعته للحكم المصري، قبل أن يعود العثمانيون لاستعادة البلاد بمساعدة الإنكليز والروس.
[3] اشتد العداء السياسي بين قبائل العرب الآتية إلى لبنان وسوريا فحملوه معهم خصوصًا في حوران وبلاد جبل لبنان، ونشروا الحزبية القيسية واليمنية حتى كان لها الشأن العظيم في اضطراب البلاد. وفي جبل لبنان كان المعنيون رؤساء القيسيين وهم الذين مهّدوا سبيل القضاء على اليمنيين سنة 1711 م بموقعة عين دارة. وبحسب محمد كرد علي في كتابه خطط الشام “فقد كانت في القديم في حمص حتى ضرب المثل بها فقالوا: أذلُّ من قيسي بحمص، وذلك أن حمص كلها لليمن ليس بها من قيس إلّا بيت واحد. ثم كانت ترى آثارها في حوران ولبنان وربما انتقلت نغمتها من حوران منذ جلاء كثير من الأسر المسيحية إلى جبل لبنان وبقيت في هذا الجبل إلى القرن الماضي ثم اضمحلت”. وبرأيي أنها لم تضمحل إنما استترت وتحوّرت.
[4] الإمتيازات الاجنبية هي تسهيلات تقدمها دولة لدول أجنبية بهدف تشجيعها على الإقامة فيها واستثمار أموالها وخبراتها. وفي السياق العثماني، يُشار إليها أحيانًا في المصادر العربيّة والتركيّة العثمانيّة بلفظ العهود العتيقة أو عهدنامه. وقد أبرمت تفاهمات بين الدول الأوروبية والدولة العثمانية، منذ القرن السابع عشر، تقوم من خلاله الدول الأوروبية برعاية مصالح وحماية مسيحيي الدولة العثمانية، وباتت أوروبا تعتبر هذه الامتيازات “حقوقًا لها”، فحمت فرنسا والنمسا الكاثوليك، والإمبراطورية الروسية الأرثوذكس، وبريطانيا الجماعات البروتستانتية الصغيرة ثم الدروز؛ وكانت الامتيازات تشمل تسهيلات في السفر، والتقاضي أمام محاكم خاصة، والتعليم، والإعفاء من الضرائب في قطاعات بعينها، وتعيين قناصل أو تراجم أو موظفين قنصليين في البلاد.
[5] نظام الملل: هو نظام يعتمد على تصنيف رعايا الدولة العثمانية غير المسلمين تصنيفًا يقوم على المذهب الديني الذي ينتمي إليه هؤلاء الرعايا.
أما تعبير الملة: فهو يعني “سكان الامبراطورية العثمانية غير المسلمين”، وقد استخدم في أوائل القرن التاسع عشر على حين أن اللفظة (ملة) كانت في العصور السالفة تشير الى المسلمين ضمن الإمبراطورية حصرًا.
[6] القائمقاميتان هو نظام سياسي عثماني لحكم لبنان بين سنة 1842م و1861م أُقيم على اثر الاضطرابات التي حصلت بين المسيحيين والدروز (1840-1841) بتشجيع من الأوروبيين والمصريين (قبل اندحار الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا)، يقسم جبل لبنان إلي قائمقاميتين بحيث يحكم الأمراء الدروز المناطق الجنوبية المختلطة ويعين العثمانيون حاكمًا مسيحيًا للمناطق الشمالية ذات الأغلبية المسيحيّة.
[7] متصرفية جبل لبنان هو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية وعُمل به من العام 1861 وحتى العام 1918، وقد جعل هذا النظام جبل لبنان منفصلًا من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام، تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني تعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية العظمى الست: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا. وقد استمر هذا النظام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وإعلان الانتداب الفرنسي.
[8] يُنظر في ذلك: زين نور الدين زين؛ الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان؛ دار النهار، بيروت 1971
[9] https://www.monde-diplomatique.fr/1997/03/LEYMARIE/4646
[10] حول هذه القضايا والأزمات الفرنسية الداخلية والخارجية، يُنظر:
- Bernard Michal et Claude Guillaumin, Les grandes énigmes de la quatrième république, coll. «Les grandes énigmes historiques de notre temps», 1971
- Georgette Elgey, La République des illusions (1945-1951), Fayard, 1965 ; édition revue et augmentée, 1993
- Laurent Cesari, L’Indochine en guerres, 1945-1993, Belin, 1995.
- Jacques Dalloz, La Guerre d’Indochine, Seuil, 1987.
- Jacques Fauvet, La IVe république, Le Livre de Poche, mars 1962.
[11] – David Abernethy, The Dynamics of Global Dominance, European Overseas Empires 1415–1980. Yale University Press. 2000
– Piers Brendon, The Decline and Fall of the British Empire, 1781–1997. Random House. 2007
– Roger Louis, The British Empire in the Middle East, 1945–1951: Arab Nationalism, the United States, and Postwar Imperialism. Oxford University Press. 1986
[12] حول مرحلة الشهابية وما بعدها يُنظر:
اشتراكيون لبنانيون: تناقضات الوضع اللبناني، دار الطليعة، بيروت 1969
محسن إبراهيم: لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، دار الطليعة، بيروت 1970
[13] في 23 أبريل/نيسان 1969 استقالت حكومة رشيد كرامي بسبب المظاهرات والصدامات المسلحة على خلفية الانقسام الداخلي حول شرعية وجود العمل الفدائي الفلسطيني المسلح وانطلاقه من جنوب لبنان، ما قاد يومها إلى أزمة حكم كبيرة انتهت بتوقيع اتفاق القاهرة الشهير في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1969 لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وذلك بعد حوالي سبعة أشهر على بقاء لبنان من دون حكومة. أرسل الرئيس اللبناني آنذاك شارل حلو وفدا برئاسة قائد الجيش اميل بستاني إلى القاهرة للتحادث والتفاوض مع ياسر عرفات وتحت إشراف وزير الدفاع المصري محمد فوزي. اتفاق القاهرة 1969 أعطى الشرعية لوجود وعمل المقاومة الفلسطينية في لبنان. وقد اعتبر البعض هذا الاتفاق متعارضا مع مبادئ سيادة الدولة اللبنانية. وحظي اتفاق القاهرة عند إعلانه بتأييد أكثرية القيادات السياسية اللبنانية ولكنه وبعد غزو لبنان 1982 باتت هذه الأكثرية نفسها مؤيدة لإلغائه أو اعتباره باطلًا. في 21 مايو/أيار 1987 وافق البرلمان اللبناني على قانون إلغاء الاتفاق ووقعه في وقت لاحق رئيس الوزراء سليم الحص ورئيس الجمهورية أمين الجميّل.
[14] كانت المخابرات السوفياتية قد عملت على استدراج أحد الضباط اللبنانيين الطيار محمود مطر لخطف طائرة «ميراج» فرنسية الصنع لحسابها، لكنه أفشى السر لقيادة الجيش، مما تسبب بأزمة دبلوماسية، وتأجيج الحرب الباردة في لبنان. وبتدخل سوفياتي فإن النائب كمال جنبلاط لم يجيّر أصوات كتلته النيابية (جبهة النضال الوطني) الى المرشح الشهابي الياس سركيس، بل وزّعها بينه وبين فرنجية مناصفة. غير أن أحد نواب كتلته خرج على التوزيع وصوّت لمصلحة سليمان فرنجية (قيل يومها إنه النائب محمد دعاس زعيتر). وقد لعب المال دوره في هذه الانتخابات حيث كان فريق فرنجيه-كامل الأسعد-صائب سلام يوزع المال كما الوعود بالتوزير… ناهيك عن الإشارة إلى أن سليمان فرنجيه كان صديقًا حميمًا للرئيس حافظ الأسد.
[15] قائد الجيش اللبناني يومها كان ذا طموح رئاسي، ما جعله يحظى بدعم مصري وسهّل قبوله لـ«اتفاق القاهرة» الذي أزعج أميركا وجعلها تدعم فرنجيه ضد الشهابيين في انتخابات 1970. ناهيك عن عدم ثقة أميركا بمخابرات الجيش (المكتب الثاني يومها) المخترقة من مصر وسورية.
[16] مسعود الخوند؛ موسوعة الحرب اللبنانية، دار كنعان، بيروت 2006، الجزء الرابع،
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.