إيران الضعيفة لا تعني شرقَ أوسطٍ أكثر سلامًا
إنَّ إضعافَ موقف إيران الإقليمي بسبب سقوط نظام الأسد في سوريا والحملات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وغزة يؤدي إلى خلق بيئة أمنية إقليمية أكثر تقلُّباً وخطورة.

أبو القاسم بَيِّنات*
أدّى السقوطُ السريع لنظام بشار الأسد في سوريا إلى جانب إضعاف إسرائيل ل”حزب الله” في لبنان وتدمير “حماس” في غزة إلى تقييماتٍ مُتفائلة في الغرب بشأن تراجُعِ قوّة إيران ونفوذها وظهورِ نظامٍ سياسي أكثر سلمية في الشرق الأوسط. مع ذلك، في حين تآكَلَ نفوذُ إيران الإقليمي، فإنَّ هذا لا يُبشّرُ بالضرورة ببيئةٍ أمنية إقليمية أكثر سلامًا واستقرارًا.
في الواقع، هناكَ فرصةٌ كبيرة لأن يُصبِحَ “الشرقُ الأوسط الجديد” أكثر تقلُّبًا وعَدمَ استقرارٍ من الشرق الأوسط القديم، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى ضعف موقف إيران الإقليمي. لقد ترك الانهيار شبه الكامل لنظام التحالف الإيراني طهران أكثر عُرضةً للخطر، مما قد يدفعها نحو استراتيجيات أمنية أكثر خطورةً وأكثر زعزعةً للاستقرار، في حين يخلقُ المزيدُ من المجالِ لسوءِ التقدير والسلوك المُتهوِّر من قبل خصوم إيران الإقليميين. وقد تَتّحدُ هاتان الديناميكيتان لتؤدّيا إلى مزيدٍ من انعدام الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط في الأشهر والسنوات المقبلة.
إنَّ مستقبلَ سوريا لا يزال غير مؤكّد في هذه المرحلة، وسوف يعتمد على أيٍّ من الجماعات المتمرّدة العديدة سوف ينتهي بها الأمر إلى الهيمنة على المشهد السياسي في دمشق وما إذا كانت هذه الجماعات سوف تكون قادرةً بشكلٍ جماعي على تشكيل حكومة مستقرة وموحَّدة. لكن في الوقتِ الحاضر وفي المستقبل المنظور، أدّى سقوط نظام الأسد إلى إزالةِ حليفٍ إيراني حاسمٍ يقع في موقع استراتيجي على حدود إسرائيل. بالإضافة إلى تعزيز القدرات العسكرية لطهران، وفّرت الشراكة مع سوريا جسرًا برِّيًا استراتيجيًا بين إيران و”حزب الله”، الجماعة المسلحة الأكثر قوةً داخل شبكة ما يسمى “محور المقاومة”. وكما اعترف الأمين العام الجديد ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم أخيرًا، فإنَّ إزالة نظام الأسد حرمت مجموعته من هذا الطريق الإمدادي الحاسم.
إنَّ أهمّية هذا التطوُّر تتضاعفُ بسبب توقيته، لأنه يأتي في أكثر اللحظات غير المناسبة لكلٍّ من إيران و”حزب الله”. إنَّ الأخير في حاجةٍ ماسة إلى الأسلحة الإيرانية وغيرها من الإمدادات اللوجستية لإعادةِ بناء قوته العسكرية وقدراته التنظيمية بعد حربه المدمّرة مع إسرائيل. ويتفاقم هذا الوضع بسبب تدمير إسرائيل للقدرات العسكرية والتنظيمية ل”حماس” في غزة، ردًا على هجوم المجموعة على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
لقد مكّن “محور المقاومة” إيران تاريخيًا من استهدافِ خصومها -وخصوصًا إسرائيل والقوات الأميركية في المنطقة – مع مستوى من الإنكار المعقول، ما سمحَ لطهران تجنُّبَ العواقب الوخيمة لمثل هذه الهجمات والتورُّط المباشر في أيِّ صراعاتٍ عسكرية تسببها. كما تمَّ تصميمُ نظام التحالف هذا للسماح لطهران بفتحِ جبهاتٍ مُتعدّدة ضد خصومها وتهديد مصالحهم في جميع أنحاء المنطقة من خلال حربٍ غير متكافئة في حال تورّطت إيران بشكلٍ مباشر في صراع. وقد أدى هذا إلى زيادة التكاليف المُتوقَّعة للعدوان ضد إيران، ما أدّى إلى تضخيم قوة ردع طهران ضد خصومها.
لكن الآن أصبح نظام التحالف هذا مُهدَّدًا بشدة. ما زال “حزب الله” يحتفظ بقوة قاتلة فعّالة، إلّا أنه من غير المرجح أن يستعيدَ مكانته السابقة في المستقبل المنظور. في الوقت نفسه، ما زالَ الحوثيون والجماعات شبه العسكرية العراقية ناشطين إلى حدٍّ كبير، مع القدرة على استهداف المصالح الإسرائيلية والأميركية في المنطقة. لكن في ذروة قوّتهما، كان يمكن ل”حزب الله” و”حماس” أن يُمطرا إسرائيل بمئات الصواريخ قصيرة المدى في يوم معيَّن، وبالتالي تعطيل الحياة الطبيعية في المدن الإسرائيلية، وخصوصًا في المناطق الحدودية. على النقيض من ذلك، لا يستطيع الحوثيون والجماعات شبه العسكرية العراقية الوصول إلى إسرائيل إلّا بطائرات مسيرة أو صواريخ باليستية، وهي أكثر عُرضةً للاعتراض وقليلة العرض.
للتعويض عن القيود التي يواجهها حلفاؤها من غير الدول الآن، سيتعيّن على إيران الاعتماد بشكلٍ أكبر على قدراتها العسكرية التقليدية والرد بشكل مباشر على التهديدات والتحديات العسكرية التي يفرضها خصومها. وهذا يعني أنه إذا استمرّت التوترات في التصاعد بين إيران وإسرائيل، فمن المرجح أن تشهدَ المنطقة المزيد من سيناريوات تبادل الصواريخ المباشرة التي حدثت بين البلدين في نيسان (أبريل) وتشرين الأول (أكتوبر) 2024.
لكن الاستراتيجية الدفاعية القائمة على التهديدِ باستخدامِ الهجمات الصاروخية التقليدية المباشرة تفرضُ تحدّياتها الخاصة على طهران. والجانب السلبي الرئيس هو أنها تُعرّضُ إيران للانتقامِ المباشر ومخاطر الصراع العسكري المستمر مع إسرائيل، في حين ترفع من خطر تورُّط الولايات المتحدة في الصراع إلى جانب إسرائيل ــ ليس فقط في دورٍ دفاعي كما حدث أثناء تبادل إطلاق النار في العام الفائت، بل وأيضًا في دورٍ هجومي. وقد أثبتت إيران أنها قادرة على توجيه ضربات صاروخية فعالة إلى إسرائيل، مع القدرة على اختراق أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المتقدّمة المختلفة وإمكانية التسبّب في خسائر بشرية فادحة وأضرار اقتصادية إذا اختارت استهداف المراكز السكانية المدنية والبنية الأساسية المدنية في الدولة العبرية. لكنها أثبتت أيضًا أنها شديدة التأثُّر بالهجمات المُضادة الجراحية وعمليات التخريب الإسرائيلية. علاوةً على ذلك، فإنَّ ضعفَ إيران العسكري التقليدي النسبي ــوخصوصًا قوتها الجوية الضعيفة وأسطولها المقاتل المُتقادِم ــ يجعل الصراع العسكري المستمر والمطوَّل مع إسرائيل، ناهيك عن الولايات المتحدة، أكثر تحدّيًا.
وللتغلُّب على هذه المعضلة، قد تسعى إيران إلى اتباع استراتيجيتين رئيسيتين لردع الهجمات العسكرية التي تشنّها إسرائيل والولايات المتحدة أو إجبارهما على خفض التصعيد إذا ما بدأتا أعمالًا عدائية.
أولًا، قد ترفع إيران الرهانات من خلال التهديد بمهاجمة البنى التحتية للنفط والغاز في الخليج العربي وتعطيل الشحن البحري في المنطقة، على أمل حشد جهود خفض التصعيد من جانب أصحاب المصلحة الإقليميين والعالميين، بما في ذلك الدول العربية المصدرة للنفط والغاز، فضلًا عن الصين واليابان والهند وغيرها من كبار مستوردي النفط والغاز في الخليج العربي. وقد استخدمت إيران هذه الحيلة في الماضي وقد تلجأ إليها بشكل متكرّر في المستقبل إذا تصاعدت التوترات مع إسرائيل والولايات المتحدة.
من الناحية التقنية، هذه الاستراتيجية قابلة للتنفيذ، حيث أنَّ غالبية منشآت النفط والغاز في البلدان المستهدفة المحتملة -بما فيها الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والبحرين- تقع على مرمى حجر من الساحل الإيراني ويمكن استهدافها حتى بالصواريخ قصيرة المدى. يمكن أيضًا الوصولُ إلى أهدافٍ أبعد، مثل حقول النفط في المملكة العربية السعودية، بصواريخ كروز وطائرات مسيَّرة، كما أثبتت الضربات على منشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019 والتي نُسِبت على نطاق واسع إلى إيران. ومع ذلك، فإنَّ هذا النوع من استراتيجية “التصعيد من أجل التهدئة” من شأنه أن يُخاطرَ بإشعالِ صراعٍ عسكري واسع النطاق، حيث ستواجه إيران صعوبةً أكبر في تنفيذ مثل هذه الهجمات مع إمكانية إنكارها بشكلٍ معقول. وهذا يعني أنَّ هذا السيناريو لن يُصبحَ أكثر مصداقية ولا يمكن تحقيقه إلّا إذا تعرّضت المصالح الحيوية لإيران، مثل منشآتها النفطية والغازية أو برنامجها النووي، للخطر.
ثانيًا، قد تُهدّدُ إيران بتسليح برنامجها النووي أو تفعل ذلك بالفعل من أجل تحقيق الردع النهائي. بحسب نظرية “الردع النووي الكامن”، فإن التهديد الموثوق بالاندفاع نحو صنع السلاح النووي ــوالذي يعتقد معظم المراقبين أن إيران قادرة عليه حاليًاــ قد يكون كافيًا لردعِ بعض الجهات الفاعلة عن تصعيد الصراع في ظلِّ ظروفٍ معيَّنة. لكن إذا اعتقدَ أيُّ طرفٍ مُتَحَدٍّ مُحتَمَل أنَّ الفرصة سانحة لشنِّ هجومٍ عسكري وقائي ناجح، فإنَّ الردعَ الكامن قد لا يثنيه عن مضاعفة الجهود لمواجهة إيران. ونظرًا للمخاطر التي ينطوي عليها الردع النووي الكامن، فقد تُقَرِّرُ إيران تسليح نفسها بالأسلحة النووية إذا اعتقدت أن هجومًا عسكريًا استراتيجيًا من قِبَل إسرائيل أو الولايات المتحدة مُرَجَّحٌ للغاية أو دخلت في صراع عسكري مطوَّل مع أيٍّ منهما، شريطة أن تتمكّن من تجميع الأسلحة بنجاح قبل اكتشافها أو الصمود في وجه الضربات العسكرية التي تسعى إلى منعها من القيام بذلك.
كما ذكرنا، تتمتع إيران حاليًا بوضع نووي على عتبة مُعيَّنة، ويعتقد بعض المسؤولين الغربيين والعديد من الخبراء النوويين أنها قادرة من الناحية التقنية على بناء وصناعة أسلحة نووية بدائية على الأقل في وقتٍ قصير نسبيًا، بل وتزعم هي نفسها ذلك. وإلى جانب امتلاكها للوسائل التقنية، أصدر العديد من المسؤولين الإيرانيين تحذيراتٍ غير مُبَطَّنة في السنوات الأخيرة بأنَّ طهران قد تُعيدُ النظر في عقيدتها النووية وحظرها المُعلَن لإنتاج الأسلحة النووية إذا واجهت إيران تهديدات وجودية.
وبصرفِ النظر عن مدى مبرر هذه الاستراتيجيات بالنسبة إلى إيران، فإنها تنطوي على مخاطر كبيرة وقد تُغذّي عدم الاستقرار الإقليمي وتؤدّي إلى تفاقم المعضلة الأمنية التي تواجه إيران وإسرائيل.
من ناحيةٍ أخرى، قد يُغري الوضع الراهن إسرائيل والولايات المتحدة لاستغلال الضعف الحالي لنظام التحالف الإيراني لتسجيل المزيد من الأهداف التكتيكية أو الاستراتيجية ضد طهران وحلفائها. وقد تشمل التدابير المحتملة تنفيذ ضربات عسكرية أو عمليات تخريب سرية ضد المواقع النووية الإيرانية ومراكزها ومنشآتها العسكرية والبنية الأساسية الحيوية للطاقة والكهرباء؛ أو إثارة وتنظيم تخريب سياسي وعدم استقرار وفوضى في الجمهورية الإسلامية.
لكن مثل هذه الاستراتيجية المحتملة التي ناقشناها آنفًا، فإن مثل هذا النهج محفوفٌ بالمخاطر ومُزعزِعٌ للاستقرار في المنطقة بأسرها، حيث لا تزال إيران تحتفظ بقدراتٍ عسكرية انتقامية مباشرة وغير مباشرة هائلة يمكنها أن تُطلِقَ العنان لأزمةٍ إقليمية كاملة. وعلاوة على ذلك، فإنَّ مثل هذه التدابير من شأنها أن تُغذّي انعدام الأمن في إيران وتُحفّزها على السعي بنشاط أكبر إلى امتلاك الأسلحة النووية والانخراط في سياسة حافة الهاوية العسكرية في المنطقة.
إنَّ إضعافَ موقف إيران الإقليمي بسبب سقوط نظام الأسد في سوريا والحملات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وغزة يؤدي إلى خلق بيئةٍ أمنية إقليمية أكثر تقلُّبًا وخطورة. ولتجنُّب السيناريوات المذكورة أعلاه والتنقّل بأمان عبر فترةِ الانتقال الخطيرة الحالية في المنطقة، يتعيّن على جميع الأطراف المعنية أن تُمارِسَ ضبط النفس وتبذل جهودًا حقيقية نحو خفضِ التصعيد الإقليمي وبناء الثقة. والبديل هو “شرق أوسط جديد” يشبه كثيرًا الشرق الأوسط القديم، ولكن أسوأ منه.
- أبو القاسم بيِّنات يشغل حاليًا منصب زميل ما بعد الدكتوراه في الدراسات الإيرانية في جامعة أوكلاهوما. كان سابقًا زميلًا ما بعد الدكتوراه في الأمن النووي في جامعة هارفارد. حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة سيراكيوز وكتب أطروحته للدكتوراه حول صنع السياسة النووية في إيران.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.