الشتات الفلسطيني: حُرّاسُ قضيّةٍ مُجَزَّأة
سَارجيس سيمونيان*
لم تَعُد الهوة بين الشتات الفلسطيني والسلطة الفلسطينية شقًا خفيًا بل فراغًا هائلًا. في الماضي كان هذان الكيانان حامِلَي مشعل النضال الوطني المشترك، والآن يقفان في عالمَين منفصلين. مُنفَصلَان عن بعضهما البعض بسبب سنواتٍ من التدهور المؤسّسي، والقيادة الفاشلة، والتفكُّك البطيء لمشروع الدولة الفلسطينية. ومع سقوط القنابل على غزة ومواجهة المدنيين الفلسطينيين لمُعاناة لا يمكن تصوّرها، كان صوت السلطة الفلسطينية غائبًا بشكلٍ واضح، وغارقًا في صراعاتٍ القوة الداخلية واللامبالاة العالمية. وفي هذا المشهد الممزّق، يلوح سؤال واحد في الأفق: هل يمكن للشتات، المنفصل عن القيادة الرسمية، أن يصبح حجر الزاوية لقضية وطنية فلسطينية متخيَّلة؟
لطالما كان الشتات الفلسطيني العمود الفقري للنضال الوطني، حيث يُموّل حركات التحرير، ويدافع عبر المنصّات الدولية، ويقود حملات التضامن. خلال ذروة منظمة التحرير الفلسطينية، توحَّدَ الفلسطينيون المنفيون من خلال شبكات عابرة للحدود الوطنية، ما أدى إلى تضخيم صوتهم الجماعي من أجل تقرير المصير. ومع ذلك، فقد تآكل هذا التماسك. لقد دفع تآكل الثقة في السلطة الفلسطينية -التي ابتُلِيت بالفساد والاستبداد والحكم الفاشل- الشتات إلى إعادة تعريف دوره. ومع وجود ما يقرب من 50٪ من الفلسطينيين الآن خارج الأراضي الفلسطينية، تحوَّلَ هذا المجتمع العالمي من طموحات بناء الدولة إلى التعبئة الشعبية والدعوة الدولية، مما يشير إلى تمزُّق وإعادة مُعايَرة مهمّته التاريخية.
إن الفجوة بين الشتات الفلسطيني والسلطة الفلسطينية تُشكّلُ مأساةً وحسابًا في الوقت نفسه. فقد أصبحت إخفاقات القيادة الفلسطينية صارخة: ففي خضم حرب غزة، كان ردُّ الفعل المنفصل للسلطة الفلسطينية سببًا في تشكيك حتى حلفائها في شرعيتها. وقد أدى الإحباط من إدارة الرئيس محمود عباس، التي لطّخها الاستبداد واتُّهِمَت باختلاس الأموال العامة، إلى تحريض الاحتجاجات في رام الله وخارجها. كما أدى الفساد المستشري والحكم غير الفعّال إلى تآكل الثقة العامة. وتشير الاستطلاعات إلى أنَّ 87% من الفلسطينيين ينظرون إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها فاسدة، وأن 78% يريدون من عباس أن يستقيل. وفي الوقت نفسه، أدت الصراعات على السلطة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و”حماس” في غزة إلى شل الحكم ــ فقد أدى الصراع الداخلي بينهما إلى تفتيت الوحدة الفلسطينية، ولم يبقَ أمام السلطة الفلسطينية قيادة متماسكة لتمثيل قضية مشتركة.
وعلى النقيض من ذلك تمامًا، تبنّى الشتات نشاطًا ديناميكيًا (وغير مركزي في كثير من الأحيان). وكان تاريخيًا أداةً فعّالة في دعم القضية الفلسطينية من خلال المساهمات المالية، والدعوة، وجهود التضامن. لقد نجحت مبادرات مثل الحملات العالمية التي أطلقتها حركة الشباب الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي في حشد الدعم الشعبي لغزة، مُتجاوزةً القنوات الرسمية. وفي السنوات الأخيرة، حشد الأميركيون الفلسطينيون أموالًا قياسية لغزة في خضم الأزمات الإنسانية، حيث شهدت منظمات مثل صندوق إغاثة أطفال فلسطين ومؤسسة “أنيرا” مستويات غير مسبوقة من التبرّعات.
ومع تعثُّر السلطة الفلسطينية، خطت الجالية الفلسطينية في الخارج خطواتها الأولى على المسرح العالمي بقوة لا مثيل لها، وصاغت السياسة والخطاب الدوليين. وفي أروقة السلطة، أعادت المنظمات التي يقودها فلسطينيون في الشتات، مثل منظمة الأميركيين من أجل العدالة في فلسطين ومعهد التفاهم في الشرق الأوسط، صياغة السرديات حول الاحتلال الإسرائيلي، مُتحدّيةً في كثيرٍ من الأحيان السرديات الراسخة في وسائل الإعلام الغربية وممارسة الضغوط على الحكومات لإعادة النظر في السياسات التي مضى عليها عقود بشأن المساعدات العسكرية لإسرائيل.
لقد حافظت مناصرة الشتات على حق العودة الفلسطيني حيًّا في الخطاب العالمي. على سبيل المثال، قام مركز العودة الفلسطيني ومقره المملكة المتحدة بحملاتٍ لا هوادة فيها من أجل حقوق اللاجئين، وحصل على وضعٍ استشاري خاص لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة في العام 2015. وفي الوقت نفسه، تعمل الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، التي تعمل في خمس وأربعين دولة، على قيادة الأحداث العالمية لضمان بقاء القضية على الأجندة الدولية. وتضمن هذه الجهود أن يظلَّ حقُّ العودة ليس مجرد ذكرى بل حركة.
إنَّ الزخمَ من أجل التغيير يتزايد بالفعل. إنَّ دعوة الحملة الشعبية الفلسطينية لإضفاء الطابع الديموقراطي على منظمة التحرير الفلسطينية تُمثّل نقطة تحوُّل. إنَّ القيادة الموحَّدة، التي تعمل جنبًا إلى جنب مع الشتات المتمكِّن، يمكن أن تُحوِّلَ النشاط المتقطّع إلى قوة هائلة من أجل العدالة. وأيُّ شيءٍ أقل من ذلك يخاطر بترك مستقبل فلسطين مُجَزَّأً مثل حاضرها.
- سارجيس سيمونيان هو طالب دكتوراه في جامعة جورج تاون في قطر مُتخصّص في السياسة الدولية. وهو حاليًا متدرّب بحثي في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية.