رئيس “يحفظ” النشيد الوطني

هنري زغيب*

بعد مقاليَّ السابقَين: “الخلاص؟ نائبٌ ناخبٌ حُرٌّ لاجتراح لبنان الآتي” (“أسواق العرب”-6 كانون الأَول/ديسمبر الحالي)، و”هذا هو الرئيس الذي يستحقُّه لبنان” (“أَسواق العرب”-13 كانون الأَول/ديسمبر الحالي)، تكتَمل ثلاثية الرئيس بهذا المقال..:

بديهيٌّ هو الحديثُ عن “مواصفات” الرئيس المقبل كما يَطرحها “بيت بو سياسة”: “رئيس سيادي”، “توافقي” (يعني اصطلاحي سلفًا بدون انتخاب حُر)، “يطبِّق الدستور”، “يراعي اتفاق الطائف”، “يُؤَمِّن المعايير”، “رئيس له حيثية”، “رئيس على مستوى المرحلة”، “يساوي بين المعادلات السياسية ضمن التوازنات الداخلية والإِقليمية”… إِلى سائر ما يتغرغر به “بيت بو سياسة” من مواصفاتٍ جميعُها طبيعية تلقائية عادية تنطبق على أَيِّ رئيس منتخَب، ولا ضرورة لذكْرها أَو وضعها أُسسًا لاختيار من يتولَّى رئاسة البلاد.

يبقى الشَرَفُ الأَهمُّ من تلك كلِّها: رئيسٌ للدولة وللوطن معًا.

شو الفرق”؟ هذا هو الفرق: الدولة هيئة معنوية دستورية تُديرها سُلطة مادية سياسية، والوطنُ تراث حضاري فكري ثقافي آثاريّ تاريخي.. الدولة محصورة بحدود لبنان الجغرافية لا شبرَ واحدًا خارجها، والوطن واسعٌ مدى جغرافيا العالم.. سلطةُ الدولة محدودةٌ بديموغرافياها، والوطن مُضيْءٌ بأَبنائه على أَرضه الأُم وفي جميع أَوطان الدنيا أَدناها وأَقصاها.. الدولةُ متغيِّرةٌ بتَبَدُّل السُلطة التي تديرُها تعاقُبًا، والوطن ثابتٌ على الزمن بأَعلامه وطاقات مبدعيه وإِرثه الفكري الذي يقرُّ له به العالم الحضاري..

للُبنان الدولة رئيسٌ يُدير قطاعاتها السياسية والإِدارية والاقتصادية والمالية واللوجستية والاجتماعية، وللُبنان الوطن رئيسٌ يدرك عطاءَات اللبنانيين ماضيًا وراهنًا في الآداب والفنون والعلوم وسائر الحقول المعرفية..

إذًا مَن ذا الذي يستاهل أَن يكون رئيس الدولة والوطن معًا؟

إِنه رئيسٌ يَعرف تاريخ لبنان المجيد فينصِّعُه أَكثرَ في وجدان أَبنائه الجُدد..

رئيسٌ يُدرك أَن صورة لبنان في العالم ليست طالعة من زواريب سياسييه ومقاييسهم ومعاييرهم ومصالحهم الانتخابية الصغيرة المناطقية، بل هي صورةٌ واسعة لوطن يُسْهم في نهضته أَبناؤُه المقيمون وأُولئك الناجحون بين جميع الـمَهاجر اللبنانية في العالم..

رئيسٌ يَعمل للأَجيال المقبلة لا للانتخابات المقبلة ولا يجعل الدولة في خدمته وخدمة نسْله وحاشيته، بل يكون هو في خدمة الدولة..

رئيسٌ يَعرف النشيد الوطني غيبًا، ولا يثرثر بكليشيهات السياسيين التقليدية الـمُخَشَّبة..

رئيسٌ يَعرف أَعلام لبنان الساطعين في لبنان وفي العالم، ويَعرف المحطات الكبرى في تاريخ لبنان، ويَعرف كيف يوجه إِليها الانتباه في احتفائه بهم والإِشارة إِليهم في خُطَبه ولقاءَاته وتوجيهاته لفريق الحكْم معه، ويَعرف أَن صورته بعد خروجه من الحكْم لن يبقى منها إِلَّا ما حقَّقه وأَنجزَه في حقل الثقافة والفكْر والإِبدع اللبناني.. فمع الوقت سيَنْسى الناس ما أَصدره من مراسيم وقوانين وقرارات وحكومات وأَعمال سياسية كانت يومَها بنْتَ ساعتها، وستَسقط من الذاكرة الجماعية والشعبية والسياسية فتَغرق مع الزمن في النسيان كما تَغرق جميع المنجزات السياسية فتمحوها تلك التي تأْتي بعدها في العهود التالية..

هو هذا ما ننتظره من الرئيس العتيد: أَن يُحقِّق للدولة حاجاتها الآنية الراهنة، وتوازيًا يحقِّق للبنان الوطن إِنجازات ثقافية فنية حضارية إِبداعية يَذْكُرها له الوطن ولا تَغرق في النسيان مهما طال عليها الوقت..

هو هذا رئيسٌ يَحكم دولة لبنان والوطن اللبناني في العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى