الشرع أمام العالم: جَدَلُ الجماعة والدولة

محمّد قوّاص*

في موسم “الميلاد” في العالم يَغرُفُ أحمد الشرع، قائد “إدارة العمليات العسكرية” وزعيم “هيئة تحرير الشام” في سوريا، الكثير من الهدايا من جعبته. قاد تحوُّلًا يكاد يكوُن مثاليًا في سكونه رُغمَ صخبه، يُريدهُ قائمًا على العدلِ لا الانتقام، والوَعدِ بإنصافِ البلد في تعدّده القبلي والديني والطائفي والقومي، ويَعِدُ بالسلم والحوار والشراكة مع الآخرين.
يَجهدُ الشرع لنيل شرعيةٍ في سوريا تتجاوز ثوريةً جهادية، حملته إلى دمشق، لكنها غير كافية لمُبايعته زعيمًا على البلد ومواطنيه. يُوزّعُ المواقف المُدهِشة، وكأنها مُعَدّة مُنضَبِطة جاهزة لتهدئة القلق وملاقاة الأسئلة. والحيرة تكمُنُ في الوَصلِ بين مواقف جهاديٍّ أصولي قديم، ما زال موضوعًا على لوائح الإرهاب، ودعوته لانتهاجِ “منطقِ الدولة والمؤسّسات”. يلتقي الرجلُ صحافةَ العالم. يُخاطِبُ وفودَ السوريين ومنهم ممن يُمثّلون “الأقليات” التي تهتم لها العواصم البعيدة. يُثلجُ “القائد” صدورَ الحاضرين، من دون ضمان أن لا تمحو الأقدار السوداء النوايا الحسنة مهما كانت بيضاء صادقة.
يَستنتجُ الشرع حُسنَ “استطيابِ” سوريا لما يقوله. يستنتجُ أيضًا أنَّ ذلك ليس كافيًا وغير وافٍ. العالم الذي يُرحّب، يخفي وراء الابتسامة جبالًا من شكوك. تَنقّلَ الرجل من “داعش” إلى “القاعدة” حين كان العالم أجمع يُحاربُ إرهابَ التنظيمَين مُكافِحًا فكرًا ماضويًا ظلاميًا لا يتحدّث لغة العصر وقوانينه، ولا يُجاري مشهد العالم ومصالح بلدانه. فمعسولُ الكلام لا يكفي، وعلى الوافد الجديد إلى حدائق المجتمع الدولي أن يتقيّدَ بقواعد وأصولٍ وشروط.
بدا أنَّ سيمفونيةً واحدة يعزفها أصحاب الشأن، وربما القرار، في مسار سوريا. صدرَ عن الولايات المتحدة من واشنطن والاتحاد الأوروبي من بروكسل واجتماع لجنة الاتصال العربي من العقبة في الأردن، قولٌ مُشترَك يدعو الشرع وصحبه إلى إطلاقِ عمليةٍ سياسية تقودُ إلى فترةٍ انتقالية يُكتَبُ خلالها دستورٌ وتنتهي بانتخاباتٍ تتشكّلُ وفقها الدولة الجديدة في سوريا.
تنهل تلك الصياغات من قرارٍ لمجلس الأمن، صدر في العام 2015، في لحظةِ تَقاطُعٍ نادرة بشأن سوريا قد لا تحظى سوريا مُجَدَّدًا بها. حتى أنَّ كلَّ العواصم، بما فيها العربية، تُعلّقُ قلقها وشروطها على مِشجَبِ ذلك القرار داعيةً “أولي الأمر” الجدد في دمشق إلى تنفيذ ما لم يقبل النظام الساقط تنفيذه. حتى أنَّ مجلس الأمن عاجله من نيويورك بدعوةِ إجماعٍ في هذا الصدد.
قد يَمتعِضُ الشرع، لا سيما حين التقى غير بيدرسون، من أنَّ الرسول الأممي يتعامل مع حال دمشق الجديد وكأنه تفصيلٌ لا يختلف كثيرًا عن حالها حين زارها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وانتظر حينها 4 أيام حتى يقابل مسؤولًا. هذه المرة التقاه بعد ساعات من وصوله، واضطرَّ إلى تنبيهه أنَّ سوريا تغيّرت، وأنَّ نظامها السابق قد سقط، وأنَّ القرار الأممي 2254 الذي وُجِدَ لتنظيم العلاقة بين نظام ومعارضة صار مُتقادمًا، وبات البلد يحتاج إلى تعديله أو تجديده.
وَجَدَ الشرع في بيان “الائتلاف السوري” المُعارِض مددًا. رفض البيان تعويم النظام السابق من خلال القرار الشهير وحذّرَ من “وصايةٍ أُممية”. لكن خيبة بيدرسون تبدو أقل من خيباته التي عرفها مع النظام السابق. كان الرجل يعمل موظفًا أُمميًا مُكَلَّفًا بملفٍّ “هامشي” لا تهتم له العواصم. بات هذه الأيام نجمًا تتطلّعُ القوى الدولية إلى مواهبه، فتدفعُ باتجاهه بالدعم والتأييد، وتجعل من إحاطاته المُنتَظَرة بوصلةً سيتقرَّرُ وفقها شكل التعامل مع “سوريا الجديدة”.
يرمي الشرع كثيرًا من الأوراق في دمشق. تُبادِلهُ العواصم بأوراقها، تُرسِلُ له المُوفَدين يحملون قليلًا من الهدايا وكثيرًا من الوعود. يقرأ الرجل العالم جيدًا، ويُدرِجُ كلَّ موقفٍ في سياقات “لعبة الأمم”. يعرفُ أنه يحتاجُ “شرعيةً” دولية تزيح عنه غمامة “الإرهاب” وصيت “الجماعات”. يعرفُ أيضًا أنه مُضطَرٌّ للاستعانة بالرابحين الكبار من “غزوته” لرَدِّ الخاسرين الكبار من “فعلته”. يُدركُ حاجته إلى حاضنةٍ عربية جامعة تردّ عنه حواضن غير عربية مُغادرة أو وافدة. لا بُدَّ أنه قرأ سيرة المنطقة منذ “ربيعها” المزعوم وتصدّيها لمَن حملوا الدين مُبرِّرًا وحيدًا لشرعة الحكم وشرعيته.
تُقابل عواصم الدنيا زوال النظام بارتياح وارتياب. ومن حقّ السوريين قبل ذلك، أن يُناقشوا ويُجادلوا في مسار سوريا المقبل. فإذا ما استفاد الشرع من لحظةٍ دولية نادرة وغامضة أوصلته إلى دمشق، فحريّ به التمتّع بهبّة عالم استفاق على سوريا، والتدثّر بسقوف تجعله حدثًا سعيدًا يجوز احتضانه وحماية إنجازه. فسوريا ليست أفغانستان ولا تسمح الجغرافيا السورية تجربة طالبانية لا يبدو حتى الآن أنه يصبو إليها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى