سوريا ما بَعدَ الأسد ستَختَبِرُ مدى تَحَسُّنِ العلاقات التركية مع دول الخليج

لا يزال هناك أملٌ في أن تتمكّن السعودية والإمارات وقطر وتركيا من مواصلة العمل معًا، بدعم ومساندة الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، للمساعدة على تشكيل مستقبل مستقر ومُوَحَّد لسوريا.

الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: علاقات بلاده مع “هيئة تحرير الشام” الجيدة فتحت له أبواب النفوذ في دمشق.

جوناثان فينتون هارفي*

قد يؤدّي السقوطُ المفاجئ للرئيس السوري بشار الأسد، في أعقاب الهجوم الخاطف الذي شنّته قواتُ المتمرّدين بقيادة “هيئة تحرير الشام”، إلى وَضعِ المصالحات الإقليمية في جميع أنحاء الشرق الأوسط على مدى السنوات الأربع الماضية على المحك.

ينطبق هذا بشكلٍ خاص على دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، اللتين تباينت مواقفهما بشأن سوريا، وإن بدرجاتٍ مُتفاوتة. وهذه التباينات سوف تستمرُّ في أعقاب الإطاحة بالأسد، حيث تسعى “هيئة تحرير الشام” إلى تعزيز السيطرة على البلاد وبدء الجهود نحو إعادة الإعمار.

مع تطوُّر الاحتجاجات السلمية ضد الأسد في العام 2011 إلى حربٍ أهلية وحشية، أصبح الصراع أيضًا صراعًا جيوسياسيًا شرسًا بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي من ناحية، وإيران من ناحية أخرى. لكنَّ الاختلاف بين أنقرة وبعض دول الخليج من حيث الشركاء المُفَضَّلين على الأرض حَوَّلَ سوريا إلى موضوعٍ لصراعاتِ قوّة إقليمية. وقد تفاقمت هذه التوترات بين الجانبين بسبب الحصار الذي قادته السعودية والإمارات والبحرين على قطر -شريكة وحليفة تركيا- في العام 2017.

انخفضت حدّة القتال في سوريا بشكلٍ كبير في آذار (مارس) 2020 بعد عملية أستانا بين تركيا وروسيا وإيران. وقد جَمَّدَ هذا الاتفاق الصراع، مع احتفاظ المتمرّدين، تحت حماية تركيا، بالسيطرة الإقليمية على محافظة إدلب في شمال سوريا. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت الجهود الرامية إلى التقارب بين أنقرة والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية زخمًا، وخصوصًا مع نهاية أزمة الخليج في العام 2021.

والآن، قد تختبر الأحداث في سوريا ما إذا كانت هذه القوى الإقليمية قادرةً على الاستمرار في تجزئة خلافاتها الجيوسياسية، أو ما إذا كانت مصالحها المُتباينة بدلًا من ذلك ستُعَرّض تقاربها للخطر.

لقد أظهرت القوى الجيوسياسية الثلاث في مجلس التعاون الخليجي -الإمارات والسعودية وقطر- انقساماتٍ صارخة في ردود أفعالها على التطورات الراهنة في دمشق.

ويبدو أن أبو ظبي هي الأكثر قلقًا بينها، بعد أن دعمت الأسد ضمنًا وقادت الجهود لإعادة الديكتاتور السوري إلى الحظيرة العربية في السنوات الأخيرة. في الواقع، دعمت الإمارات التدخُّل العسكري الروسي لدعم الأسد في العام 2015 ــ وهو ما مثّلَ خرقًا للموقف التركي ومجلس التعاون الخليجي في ذلك الوقت ــ بعد أن دعمت في السابق المتمرّدين غير الإسلاميين لموازنة فصائل مثل جماعة “الإخوان المسلمين” و”أحرار الشام”، من دون هدف الإطاحة بالأسد. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2018، أصبحت الإمارات أول دولة عربية تنخرط ديبلوماسيا مع سوريا منذ تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية في العام 2011.

في أعقاب سقوط الأسد مباشرة، أعرب أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي للرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، عن مخاوفه بشأن حكومة المتمرّدين بقيادة “هيئة تحرير الشام”، مُحذِّرًا من استغلالِ الجهات الفاعلة غير الحكومية للفراغ الحالي في السلطة في دمشق. كما حَذّرَ من احتمالية “الفوضى” و”التطرُّف” لترسيخ جذورهما في سوريا.

إنَّ العداءَ التقليدي للإمارات تجاه الحركات الإسلامية المُتطرّفة -وهو المُحرّك الرئيس للتوتّرات السابقة مع قطر وتركيا- يجعل احتمالَ تشكيل “هيئة تحرير الشام” لحكومةٍ في سوريا مُثيرًا للقلق. كما إنَّ تفضيلَ أبو ظبي للقادة المستبدّين غير الديموقراطيين جعلها حذرة من الدعم الشعبي لإزالة الأسد في سوريا وبين ملايين اللاجئين من الحرب، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى تحفيز الدعوات المناهضة للاستبداد في أماكن أخرى في المنطقة. ولكن الأهم من ذلك أنَّ الاستيلاء الذي قادته “هيئة تحرير الشام” وَضَعَ حدًّا لمقامرة الإمارات في دعم الأسد كوسيلةٍ لضمانِ نفوذٍ مستقبلي في دمشق، مما يترك أبو ظبي بنفوذٍ محدود في البلاد، على الأقل في الوقت الحاضر.

من جهتها شاركت السعودية دولة الإمارات مخاوفها من حكومةٍ إسلامية مُتطرّفة في سوريا، وتبعت خطى أبو ظبي في التطبيع مع الأسد. لكنها اتخذت نهجًا أكثر تحفُّظًا تجاه التطورات الأخيرة في دمشق، مؤكّدةً على الحوار والمستقبل السياسي الشامل لسوريا. ومن الجدير بالذكر أنَّ الرياض أكدت أنها أقامت اتصالات مع جميع أصحاب المصلحة الإقليميين، وخصوصًا تركيا، مما يؤكد رغبة السعوديين في تقليل التداعيات الإقليمية وإعطاء الأولوية للتعاون.

في الوقت نفسه، أبدت قطر استعدادها للتعامل بشكلٍ استباقي مع الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” والعمل كقناةٍ خلفية بين السلطات الجديدة في دمشق وتركيا وروسيا وإيران والغرب، وتُفيدُ بعض المعلومات إنها تتواصل مباشرة مع رئيس الوزراء المؤقت محمد البشير للقيام بذلك. وإذا استمرّت قطر في لعب هذا الدور، فإنها ستُعزّز من أوراق اعتمادها الديبلوماسية الإقليمية، والتي تجلّت أصلًا في وساطتها في المحادثات بين إسرائيل و”حماس” منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ولكن هذه العلاقات، إلى جانب الموارد المالية للدوحة، ستضع قطر أيضًا في موقف أقوى لتشكيلِ اتجاهِ انتقال الحكم ما بعد الأسد. والواقع أنَّ قطر أعلنت أنها ستُعيد فتح سفارتها في دمشق لأول مرة منذ هاجمها الموالون للأسد في تموز (يوليو) 2011، مما يدل على كيف أثمر دعمها للمعارضة السورية نفوذًا في سوريا ما بعد الأسد.

وقد تسمح العلاقات الوثيقة بين قطر وتركيا أيضًا لكلا الجانبين بتنسيقِ مصالحهما. وعلى غرار الدوحة، عارضت أنقرة حكم الأسد، بسبب قمعه العنيف لحركات المعارضة السلمية في البداية وفظائعه اللاحقة -بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية- أثناء الحرب. وقد أدى دعم تركيا ل”هيئة تحرير الشام” ول”الجيش الوطني السوري”، الذي لعب أيضًا دورًا في الإطاحة بالأسد، إلى زيادة نفوذها الآن على التطورات المستقبلية في دمشق.

في الوقت نفسه، تشن عناصر من “الجيش الوطني السوري”، بدعمٍ تركي، حاليًا حملةً عسكرية في شمال شرق سوريا ضد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة. ترى أنقرة أن قوات سوريا الديموقراطية – الميليشيا الكردية السورية – هي فرعٌ من حزب العمال الكردستاني، وهو حزب متمرد كردي تركي موضوعٌ على لائحة الإرهاب في تركيا وأميركا منذ عقود.

في الوقت نفسه، تريد تركيا، التي كانت حريصة على رؤية ملايين اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم حاليًا يعودون إلى ديارهم، تجنُّبَ موجةٍ أخرى من اللاجئين نحو حدودها. لذا فهي لديها حوافز أكبر لدعم الجهود الرامية إلى استقرارِ سوريا.

وبينما قد تشترك جميع الجهات الفاعلة الإقليمية في هذا الهدف، فإن خلافاتها حول مسار سوريا الطويل الأجل واضحة، ما يعكس اختلافاتها الطويلة الأمد في النهج تجاه الشؤون الإقليمية.

بالإضافة إلى سوريا وأزمة الخليج لعام 2017، وجدت السعودية والإمارات من ناحية وتركيا من ناحية أخرى أنفسها أيضًا على جانبين متعارضين من صراعاتٍ إقليمية أخرى، بما في ذلك في ليبيا والقرن الأفريقي. في الواقع، نظرت الرياض وأبو ظبي إلى الأسد باعتباره ثقلًا موازنًا في سوريا للنفوذ الذي تمارسه تركيا من خلال الفصائل المتمرّدة تحت حمايتها في إدلب والشمال الشرقي.

على الأقل في الأمد القريب، من المرجّح أن تؤدي أيُّ خلافاتٍ بشأن سوريا إلى القليل لتعطيل الذوبان الأخير في العلاقات. منذ قمة العلا في كانون الثاني (يناير) 2021، سعى جميع الجهات الفاعلة الإقليمية إلى دفن خلافاتها وإعطاء الأولوية للتعاون. ومنذ خَفَّت حدّة التنافس بينهما، عملت أنقرة ودول الخليج أيضًا على ترقية علاقاتهما الاقتصادية، بما في ذلك السعي إلى إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، والتي من الممكن أن تؤدي إلى إنشاءِ واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة في العالم، بقيمة إجمالية تبلغ 2.4 تريليوني دولار. بالإضافة إلى ذلك، تُسلط مبيعات الطائرات المُسَيَّرة التي تبيعها أنقرة إلى الإمارات والسعودية والكويت الضوءَ على جهود جميع الأطراف لتعزيز العلاقات الأمنية في عالمٍ مُتعدّد الأقطاب على نحوٍ متزايد. ويشير هذا مُجتمعًا إلى أنَّ المسارَ الطويل الأجل لعلاقاتِ هذه الدول، والذي قد تتردّدُ بشدة في تعطيله، من الممكن أن يخلق حوافز للتعاون بشأن سوريا.

أما بالنسبة إلى إيران، فلم ترغب أيٌّ من دول الخليج في أن تكون في طليعة المواجهة مع طهران بسبب جهودها الرامية إلى تهدئة التوترات منذ العام 2023 ورغبتها في تجنّب الانجرار إلى حربٍ إقليمية بين إيران وإسرائيل. لكنها -وتركيا- قد تكون سعيدة بهدوء بتدهور وضع عملاء ووكلاء طهران في لبنان والآن في سوريا. لقد أدى تدمير إسرائيل لمعظم الآلة العسكرية ل”حزب الله” -بما في ذلك قتل زعيمه السيد حسن نصر الله في أيلول (سبتمبر)- إلى جانب سقوط الأسد إلى إضعاف موطئ قدم إيران الإقليمي بشكلٍ فعّال.

ونتيجةً لذلك، قد ترى السعودية فرصةً لإعادة تأكيد نفوذها في المشرق العربي، وخصوصًا في لبنان، والتي نأت الرياض بنفسها عنه أخيرًا بسبب نفوذ وهيمنة “حزب الله” على الحكومة في بيروت.

كما وجدت السعودية أرضية مشتركة مع قطر وتركيا في إدانة استيلاء إسرائيل على منطقة عازلة في الأراضي السورية خارج مرتفعات الجولان المحتلة وكذلك هجماتها على الأصول العسكرية السورية ومستودعات الأسلحة. كما انتقدت دول الخليج خطط إسرائيل لمضاعفة عدد سكانها في مرتفعات الجولان ووصفتها بأنها عملٌ “تخريبي” ضد سيادة سوريا واستقرارها. ومن الواضح أن إسرائيل تشعر بالقلق إزاء سقوط أسلحة نظام الأسد في أيدي حكومة يقودها الإسلاميون على عتبة بابها، لكن الرياض والدوحة وأنقرة حذّرت من خطر زعزعة استقرار سوريا في لحظة انتقالية.

في نهاية المطاف، قد تأمل دول الخليج أن يؤدي نفوذ تركيا، المدعوم بالحوافز التي تقودها الدول الغربية، إلى دفع “هيئة تحرير الشام” والحكومة الانتقالية في سوريا إلى الاعتدال. وقد نجحت “هيئة تحرير الشام” حتى الآن في تحقيق كل الأهداف المطلوبة لكسب موافقة واشنطن، حيث وعدت بحماية الأقليات وبتقييد ولاية البشير كرئيس للوزراء حتى آذار (مارس) 2025. ولكن ما سيأتي بعد ذلك، وما إذا كان سيتم صياغة دستور جديد في غضون ذلك، يظل غير مؤكد.

إذا تولت الدول الإقليمية المتنافسة السابقة في الشرق الأوسط زمام المبادرة في التعاون للعمل نحو سوريا مستقرة، فقد يلعب ذلك دورًا حاسمًا في توحيد البلاد. ومع ذلك، إذا تعثرت الجهود الأوسع لدعم استقرار سوريا، أو إذا تحوّلَ المشهد ما بعد الأسد إلى الأسوَإِ، فقد تلجأ الدول الإقليمية مرة أخرى إلى دعم الجهات الفاعلة السورية المتنافسة التي تتوافق مع أهدافها، مع احتمال حدوث احتكاك بينها.

لكن في الوقت الراهن، لا يزال هناك أملٌ في أن تتمكّن السعودية والإمارات وقطر وتركيا من مواصلة العمل معًا، بدعم ومساندة الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، للمساعدة على تشكيل مستقبل مستقر ومُوَحَّد لسوريا.

  • جوناثان فينتون هارفي هو صحافي ومحلل سياسي بريطاني ركز عمله بشكل كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى