المحوَر الإيراني ينهار: توَجُّهٌ في طهران لإعادةِ تقييمٍ واقعيةٍ لطموحاتها الإقليمية
عمران خالد*
تسارعت السلسلة الدرامية للأحداث التي بدأت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بضربةِ “حماس” ضد إسرائيل، وانتشرت في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وأطاحت أنظمة وأعادت تشكيل خطوط الصدع في المنطقة. في اليوم نفسه الذي وافقت إسرائيل و”حزب الله” على وقف إطلاق النار الذي يوقف الأعمال العدائية في لبنان، شنّت “هيئة تحرير الشام” السورية المسلحة هجومًا جريئًا للاستيلاء على حلب، مما مثّلَ بداية نهاية حقبة لسوريا. في وقتٍ سابق من هذا الشهر، انهار حكم الرئيس بشار الأسد -وهي فترة مرادفة للقمع والصراع والانحلال – تحت وطأة المقاومة المتراكمة.
سوريا، التي خضعت لفترةٍ طويلة لنظامٍ دكتاتوري بعثي، وتضرّرت من 14 عامًا من الحرب الأهلية الوحشية، تُشرقُ الآن على حرّية هشّة. لكنَّ التحدّيات التي تنتظرها هائلة: التوترات الطائفية والانقسامات المتجذّرة قد تعرقل نهضة الأمة. في الوقت نفسه، كشفت الاضطرابات في سوريا عن ضعف “محور المقاومة” الذي كانت طهران تعتمد عليه في السابق للهيمنة على المشرق العربي. بالنسبة إلى آية الله علي خامنئي، فإنَّ انهيارَ هذه الشبكة، التي بُنيت بشقِّ الأنفس لفَرضِ النفوذ الإيراني، يُمثّلُ أزمةً سياسية وجودية. ولا يشيرُ سقوطُ نظام الأسد إلى تحوّلٍ جيوسياسي فحسب، بل إنه يشكّل أيضًا ضربةً نفسية (سيكولوجية) لطموحات إيران.
إنَّ الشرق الأوسط، المنطقة التي تعيشُ حالةً من التقلّبِ الدائم، يواجه تحوّلًا آخر محفوفًا بعدم اليقين، لكنه أيضًا مُشبَعٌ بالأمل في بدايةٍ جديدة. وربما تُـسَجَّلُ مغامرةُ “حزب الله” بفَتحِ جبهةٍ ثانية ضد إسرائيل أثناء الصراع في غزة باعتبارها واحدة من أخطر حساباته الخاطئة. فقد تجرّأت الحركة الشيعية اللبنانية، التي تدعمها إيران بقوة، على مساعدة “حماس”، ولكنها أساءت فهم الديناميكيات الإقليمية والبراعة العسكرية الإسرائيلية. وبضربه وإطلاق صوريخه على طول الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة، أثار “حزب الله” عشّ الدبابير، وكانت العواقب كارثية.
بعد ما يقرب من عامٍ على المناوشات التي أدّت إلى اقتلاع مئات الآلاف من السكان من جنوب لبنان وشمال إسرائيل، صعّدت الدولة العبرية عملياتها في أيلول (سبتمبر)، فوجّهت ضرباتٍ دقيقة قضت على قيادة “حزب الله”. وكان زعيم الحركة الأيقوني، السيد حسن نصر الله، من بين أولئك الذين تمَّ القضاء عليهم في سلسلةٍ من الغارات الجوية التي تركت هيكل قيادة “حزب الله” في حالةٍ يُرثى لها. وعلى الأرض، نجحت القوات الإسرائيلية في إبعاد مقاتلي “حزب الله” عن منطقة الحدود المُتنازَع عليها، وهو نصرٌ تكتيكي ورمزي لأمّةٍ مُعتادة على الصراع الدائم.
وبحلول شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، تغيّرت حسابات طهران. فاعترافًا منها بالخسائر الكبيرة غير المُستدامة، حثّت إيران حليفها اللبناني على السعي إلى السلام بدلًا من المخاطرة بمزيد من تآكل قدراته. وعلى مضضٍ، استسلم “حزب الله”، ووافق على وقف إطلاق النار الذي أعطى إسرائيل اليد العليا. وتُسلّطُ هذه الحلقة الضوء على حدود الحرب بالوكالة في منطقةٍ حيث التحالفات الهشّة والخطوات العسكرية الخاطئة يمكن أن تُفكّكَ سنواتٍ من النفوذ المبني بعناية. بالنسبة إلى “حزب الله”، فإن ثمن هذه المغامرة يمتدُّ إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة، مما يترك مستقبله -ومصداقية طهران – مُهتزًا بشكل لا يمكن إصلاحه في وقت قريب.
لقد كان اعتماد إيران على “حزب الله” كحجر زاوية لنفوذها في سوريا ضرورةً استراتيجية منذ فترة طويلة. ففي العام 2015، أثبتت الجماعة الشيعية اللبنانية، إلى جانب القوات الروسية، أنها محورية في إنقاذ نظام بشار الأسد من حافة الانهيار. لكن الشرق الأوسط منطقة محددة بالتحالفات المُتغيّرة واستنزاف الموارد، ولم تتمكن إيران ولا روسيا من حشد الإرادة -أو الوسائل- للدفاع عن دمشق.
لقد استنزفت طهران، بعد كل شيء، حربها بالوكالة مع إسرائيل، فيما موسكو غارقة ومتورّطة بعمقٍ في أوكرانيا. لقد خلق غيابهما فراغًا، سارعت “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” إلى استغلاله. مستفيدةً من وضع الأسد الضعيف، شنّت هذه الجماعات هجومًا على حلب، ظاهريًا لاستباق عملية النظام التي تستهدف معاقلها في شمال غرب سوريا. وكشف ما حدث عن هشاشة نظام الأسد. ففي ظل الفساد والإحباط، لم يَقُم الجيش السوري بأيِّ مقاومةٍ تُذكَر. وسقطت حلب بسهولة مذهلة، ما أكّدَ على مدى ضعف سلطة الأسد. ربما دعمت إيران وروسيا الأسد في الماضي، ولكن عدم قدرتهما على إنقاذه الآن يشير إلى ضعفٍ عميق في المحور الذي كان في يوم من الأيام يُرسّخ بقاء وصمود سوريا.
الواقع أنَّ إيران تواجه راهنًا إعادةَ تقييمٍ واقعية لطموحاتها الإقليمية. فبعد حرمانها من النفوذ المباشر على حدود إسرائيل، يتعيّن عليها الاعتماد على وكلائها في العراق وعلاقاتها الطويلة الأمد مع ميليشيا الحوثي في اليمن لفرض قوتها. مع ذلك، فإنَّ التركيز المتجدّد على طموحاتها النووية قد يكون محفوفًا بالمخاطر، وخصوصًا مع عودة دونالد ترامب الوشيكة إلى منصبه. لقد تركت استراتيجية ترامب السابقة للضغط الأقصى طهران مع مساحة صغيرة للمناورة، وقد يتعامل المرشد الأعلى خامنئي بحذر هذه المرة.
في الوقت نفسه، اشتعلت التوترات على الحدود السورية-الإسرائيلية. وللمرة الأولى منذ العام 1974، دخلت القوات الإسرائيلية مرتفعات الجولان الخاضعة لسيطرة سوريا لصد هجوم على موقع للأمم المتحدة بالقرب من قرية خضر الدرزية. وبحلول يوم الأحد، نشرت إسرائيل قوات إضافية لتأمين المنطقة العازلة، بهدف احتواء الجماعات المتمرّدة الإسلامية ومنع تدفق اللاجئين. من السابق لأوانه أن نتصور سيناريو يتوسّط فيه أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، زعيم “هيئة تحرير الشام”، لإبرام إتفاقية سلام مع إسرائيل بشأن مرتفعات الجولان المتنازع عليها. مع ذلك، وكما يثبت الشرق الأوسط مرارًا وتكرارًا، فإنَّ المستحيلَ لديه دائمًا طريقة ليصبح حقيقة.
- الدكتور عمران خالد هو محلل جيوستراتيجي وكاتب عمود في الشؤون الدولية. نُشرت أعماله على نطاق واسع من قبل مؤسسات إخبارية ومجلات دولية مرموقة.