جهودُ عُمان في مجالِ الزراعة تُشَكِّلُ أمثولةً يُحتَذى بها لدولٍ أُخرى

محمّد العارضي*

تُشَكِّلُ إعادةُ النظرِ في الأمن الغذائي في سياقِ تَغيُّرِ المناخ جانبًا حاسمًا من جوانبِ التخطيطِ للمستقبل. ويقعُ العبءُ على عاتقِ كلِّ دولةٍ في السعي إلى تمكينِ كلِّ مواطنٍ من الوصولِ إلى الغذاء الآمن والمُغَذّي مع مُراعاةِ أربعة أبعاد كما حدّدها البنك الدولي.

تَشمُلُ هذه الأبعاد التوافُرَ المادي، والوصولَ الاقتصادي، والاستخدامَ، والاستقرارَ بمرور الوقت. ويرتبطُ الأمنُ الغذائي بعددٍ من أهدافِ التنمية المُستدامة للأمم المتحدة. من بين هذه الأهداف: القضاءُ على الجوعِ وسوءِ التغذية في العالم، والصحّة والرفاهية لجميع الأعمار، والوصول إلى الطاقة النظيفة وبأسعارٍ معقولة، وتعزيزُ فُرصِ العمل والنمو الاقتصادي، وبناء البنية الأساسية المرنة، وتعزيزُ الصناعات الشاملة والمستدامة، وإنشاءُ مدنٍ ومُجتمعاتٍ مُستدامة، وضمانُ الاستهلاك والإنتاج المَسؤولَين، واتِّخاذُ إجراءاتٍ لمُعالجة تغيُّر المناخ.

ومن الضروري لأيِّ دولةٍ تُحاولُ تحقيقَ الأمنِ الغذائي أن تعملَ بشكلٍ استراتيجي على تطويرِ أنظمةٍ زراعيِّةٍ محلّية مُستدامة ومُصَمَّمة لإنتاجِ ما يكفي لتلبيةِ الطلبِ المحلّي والوطني، وكذلك للتصدير. كانت سلطنةُ عُمان سبّاقةً في توسيعِ وتعزيز قطاعها الزراعي، وتَحسين استخدام الموارد الوطنية، وتوظيف التكنولوجيا المتطوّرة لتوسيع الإنتاج. في العام الفائت، استثمرت السلطنة نحو 890 مليون دولار، كجُزءٍ من استراتيجيةِ الحكومة لتعزيزِ الأمن الغذائي وتنويعِ المصالح الاقتصادية وفقًا لرؤية 2040.

علاوةً على ذلك، شهد قطاعا الزراعة والثروة السمكية في عُمان زيادةً في الناتج المحلي الإجمالي من 1.09 مليار دولار في النصف الأول من العام 2023 إلى 116 مليار دولار خلال الفترة نفسها من هذا العام.

كما يُوجدُ 137 مشروعًا غذائيًا قيد التنفيذ، وأبرزها مدينة صحم الزراعية، التي ستدمج الممارسات المستدامة، والتكنولوجيا المتقدّمة، والتنمية المجتمعية بما في ذلك الزراعة المائية والهوائية وتربية الأسماك من أجل توفير الغذاء لـ25,000 شخص سنويًا. وهذا من شأنه أن يخلقَ المزيدَ من فُرصِ العمل ويسمحُ للمزارعين بتعظيم الإنتاج، مما يُقلّلُ من اعتمادِ السلطنة على صادراتِ الغذاء.

وللتعويضِ عن تأثير تغيُّر المناخ، فإنَّ التحوُّلَ الجذري بقيادةِ التخطيط الاستراتيجي الحكومي -كما كان الحال في عُمان- أمرٌ بالغ الأهمّية، حيث توجدُ تهديداتٌ وشيكة يمكن أن تَحدَّ من الوصول المادي والاقتصادي إلى الغذاء في العديد من البلدان. ​​ويمكن أن تُقدّمَ جهودُ السلطنة دراسة حالة وأمثولة يُحتذى بها للدول التي لم تُعطِ الأولوية للأعمال الزراعية حتى الآن. لم يَفُت الأوان بعد للاستثمار في هذا القطاع، والانتظارُ لفترةٍ أطول قد يؤدّي إلى أزماتٍ خطيرة لمواطنيها في السنوات المقبلة.

إنَّ تغيُّرَ المناخ يُمكنُ أن يُخلّفَ آثارًا ضارة على الزراعة، من فقدان الموارد الطبيعية، والهطول المُفرِط للأمطار، والحرارة المرتفعة جدًا، والجفاف، والآفات والأمراض الجديدة على سبيل المثال لا الحصر. ومن أجلِ التخفيفِ من مثل هذه التغيّرات ووَضعِ خططِ عملٍ للحَدِّ من الأضرار والسيطرة عليها، يجب على الدول أن تكونَ استباقية ومُسلَّحة بالأدوات التي قد تحتاجها مُسبَقًا.

إنَّ انخفاضَ نمو المحاصيل الرئيسة سيؤدي إلى انخفاضٍ حاد في العرض، ما يؤدّي إلى ارتفاعِ الأسعار. وقبل مُواجَهةِ مثل هذا المأزق، يُمكنُ للدول أن تبحثَ في البدائل وتنويع الإنتاج مع تشجيعِ أنماطِ استهلاكِ الغذاء التي تحترم المواسم، جنبًا إلى جنب مع الثروة الحيوانية والمحاصيل الوفيرة.

وبصرفِ النظر عن الاستثمار في الأُطُرِ الزراعية القائمة، يُمكِنُ للدولِ أن تتبنّى أفضل الممارسات والتقنيات من الرواد في مجال إنتاج الماشية والمحاصيل المحددة التي من المرجح أن تصمد أمام التغيّرات في مناخها. كما ستساهم المبادرات الأخرى نحو الانبعاثات الصفرية الصافية في مبادرات الزراعة المستدامة وبالتالي الأمن الغذائي.

وقد يشمل ذلك: إنشاءُ أنظمةٍ بيئيّةٍ طبيعية مُستَدامة وزيادةُ استخدامِ المركبات مُنخفضة الانبعاثات أو عديمة الانبعاثات، وزيادةُ القدرةِ على استخدامِ الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وإنشاءُ مبانٍ وآلاتٍ جديدة تُلبّي معايير كفاءة الطاقة الصارمة، وزيادةُ وسائل النقل العام، وإزالةُ الكربون من الصناعات مثل الطيران والاسمنت والصلب، والحدُّ من فَقدِ وهَدرِ الغذاء.

إنَّ البشريةَ تمرُّ بمرحلةٍ حرجة. ونحنُ نُدركُ المخاطرَ المُرتَبطة بنماذج الإنتاج الضخم التي سيطرت على التيار الرئيس على مدى العقود القليلة الماضية. ولا يوجدُ وقتٌ أفضل من الآن لجمع الفطنة والبراعة والتكنولوجيا التي اكتسبناها مع الممارسات المُستدامة التي تُركّزُ على المجتمع التي تبنّاها أسلافنا. وهذه هي السمة المُميّزة للتقاليد العُمانية، وهي تستخدمُ أفضل ما في ماضينا وحاضرنا لتمهيد الطريق لمستقبلٍ آمنٍ ومُزدَهر.

لقد قطعت عُمان شوطًا طويلًا في غضون بضعة عقود فقط، حيث تطوَّرت بوتيرةٍ سريعة ولكن ثابتة، وتطوّرت مع الزمن لحماية مستقبلها. وهذا يُظهِرُ قوة العقليات المجتمعية والالتزام الجماعي بالمضي قدمًا مع احترام الماضي أيضًا. وهذا بمثابة درسٍ مُهمٍّ للدول الأخرى التي يمكن أن تحقّقَ نجاحًا مُماثلًا من خلال القيادة الاستراتيجية والدفع نحو المشاركة المجتمعية.

وفي حين يفرضُ تغيُّرُ المناخ سلسلةً من المخاطر على الأمن الغذائي والرفاهة البشرية بشكلٍ عام، فإنَّ التخطيطَ والاستثمارات يُمكن أن يساعدان على التخفيف من هذه المخاطر وحماية المستقبل.

  • محمد العارضي هو الرئيس التنفيذي لشركة إنفستكورب ورئيس مجلس إدارة بنك صحار الدولي في سلطنة عُمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى