تشريحٌ لسقوطٍ عسكري
لماذا فشلت القوات المسلحة التابعة لبشار الأسد في التحرُّك، على عكس تلك الموجودة في مصر وليبيا والجزائر والسودان؟
يزيد صايغ*
رافَقَ سقوطُ الرئيس السوري بشار الأسد طوفانٌ من التعليقاتِ المُطَّلعة والموثوقة، والتي تشرحُ كيفَ ولماذا انهار نظامه بهذه السرعة. لكننا لا نملك حتى الآن إجابةً مُناسِبة عن السؤال ذي الصلة الذي طرحه المراسل والمحلل السوري المخضرم حسن حسن في منشورٍ على منصة “X”: “شيءٌ ما لم يتم تفسيره بعد. كانت لدى الأسد قواتٌ مُوالية تستطيع الدفاع عن دمشق لفترةٍ من الوقت على الأقل، لا شكَّ في ذلك. قبل دمشق كان من الواضح أنَّ النظامَ غير قادرٍ على القتال في معظم أنحاء البلاد. بعد دمشق من الواضح أنه كان هناك قرارٌ بعدم القتال. لكن، لم يتم الكشف عن ذلك بعد”.
واستمرَّ حسن مُغرِّدًا: “كانت لدى الأسد القوات الأكثر تدريبًا وموالاةً لخوض القتال، ولكن لم يكن هناك أيٌّ منها في العاصمة”. وكما يبدو فإن الوحدات الموالية للنظام لم تكن مستعدة للقتال في معقل العلويين الذي يتباهى به الأسد في المنطقة الساحلية السورية.
لكن لماذا تخلّى الجيش عن الأسد بشكلٍ كامل لا رجعةَ فيه؟ لقد أشار محللون وخبراء في الشؤون السورية، مثل غريغوري ووترز ومحسن مصطفى، إلى عوامل متعدّدة أدّت إلى تدهور التماسك والاستعداد العسكري على مدى السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك نقل عشرات الآلاف من الضباط والجنود، والتآكل الشديد في مستويات المعيشة لكلٍّ من الجنود العاملين والاحتياطيين، والفساد الواسع النطاق الذي أدى إلى اختلاس الأجور وإمدادات الغذاء البائسة ــ وكلُّ هذا لم يكن ليؤدي إلّا إلى تنفير العلويين، الذين يهيمنون على الرتب والمناصب. ومن الواضح أنَّ هناكَ عواملَ أخرى مهمّة أدّت إلى تقويض الروح المعنوية: التحوُّل العقائدي نحو ضباطٍ غير مقاتلين يقودون من الخلف، والصدمة التي أحدثها الإدراك بأنَّ المساعدة العسكرية من روسيا وإيران و”حزب الله” التي كانت مفتاحًا لبقاء النظام في الماضي لن تأتي هذه المرة.
كانت هذه العوامل حاسمة في الواقع، وهي العوامل التي ساهمت في انهيار الجيش السوري، لكنها لا تُفسّرُ بالكامل لماذا تخلّت القيادة العليا للجيش عن المحاولات الأوّلية لحشد القوات وإعادة نشرها على طول خطوط المواجهة الجديدة التي كانت قابلة للدفاع عنها عسكريًا، وتحوّلت إلى موقفٍ سلبي تمامًا. ستكشفُ الأيام المقبلة الكثير عن التصوّرات من داخل النظام، وخصوصًا الجيش، ولكن تجربة السياسة العسكرية في الدول العربية الاستبدادية الأخرى خلال الأزمات والتحوّلات النظامية تُقدّمُ رؤى مفيدة في الوقت نفسه.
لقد تشكلت عملية انهيار المواثيق والعقود الاستبدادية في مصر وليبيا في العام 2011، وفي الجزائر والسودان في العام 2019، من خلال عوامل مشتركة عدة، ويبدو أن سوريا تشاركت في واحدٍ منها على الأقل في الأيام الأخيرة لنظام الأسد. في كلٍّ من البلدان العربية الأخرى، عندما اندلعت الانتفاضات الشعبية، كان الجيشُ يُدركُ بالفعل أنَّ الرؤساء الشاغلين للمنصب كانوا يُقوِّضون تفاهمات أساسية أو يُهدّدون مصالح حيوية، وبالتالي تَوقّف وعلّقَ دوره كعنصرٍ رئيس داعمٍ للسلطة الاستبدادية وضامن لاستدامة النظام.
لم يؤدِّ القلق بشأن تهديد الانتفاضات الشعبية إلى إحداثِ شرخٍ بين الأسد والجيش في العامين 2011 و2012، لكن يبدو أن استعداده للتخلّي عن كل دائرة اجتماعية سياسية تقريبًا من دوائر النظام وتركها لمصيرها قد أدى إلى تآكل أحد أهم إرث حُكمِ والده حافظ في الفترة 1970-2000. لقد كان هذا يشمل طبقة زراعية كبيرة تضرّرت بسبب النزوح في زمن الحرب وفقدان الائتمان الحكومي، وقطاع الأعمال الذي تعرّض لعمليات ابتزاز مُتكرّرة وعمليات استيلاءٍ مُفترسة. والأمر الحاسم هنا هو أنَّ بشار الأسد يبدو وكأنه انتهك اتفاقًا ضمنيًا مع طائفةٍ علوية فقدت عشرات الآلاف من الرجال في الدفاع عنه، وذلك بفشله في تخفيف مستويات المعيشة المتدهورة باستمرار وانخفاض الدخول في القطاع العام ــبما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنيةــ بسبب دورات لا نهاية لها من انخفاض قيمة العملة الوطنية والتضخّم.
لكن ربما كانت نقطة التحوُّل بالنسبة إلى القيادة العليا للجيش هي الشعور بأن الرئيس لم يعد باستطاعته الحصول على الدعم العسكري أو المالي الأجنبي في لحظةٍ حرجة، حتى لو كانت الأسباب المباشرة لذلك ــحرب روسيا في أوكرانيا، وتدهور الردع الاستراتيجي الإيراني، والخسائر العسكرية ل”حزب الله” في لبنان ــ خارجة تمامًا عن يديه وإرادته. وتُظهر الحالات العربية الأربع الأخرى أن الخسارة الفعلية أو المحتملة لقدرة الرئيس على الاستفادة من الدعم الأجنبي ــأو حماية الجيش من العقوبات الأجنبيةــ كانت محورية في تحديد مدى استعداد الجيش للدفاع أو التخلّي عنه.
في هذا الصدد على الأقل، يبدو أن سوريا كانت متوافقة مع الأنظمة الاستبدادية العربية الأخرى المدعومة عسكريًا. لكن هناك فرقَا رئيسًا. مع مراعاة الاختلافات، كانت القوات المسلحة، ولا تزال، لاعبًا سياسيًا مركزيًا ومركزًا حقيقيًا للسلطة في مصر وليبيا والجزائر والسودان قبل وبعد انتفاضاتها. علاوةً على ذلك، تتمتع جيوش هذه الدول باستقلال اجتماعي ومؤسّسي واسع النطاق. بعبارةٍ أخرى، فهي مستقلة عن أيِّ تحالُفٍ اجتماعي محدد جيدًا وعن مؤسّسات الدولة الأخرى، بما في ذلك الرئاسة، سواء بحُكمِ الأمر الواقع أو، كما في الحالة المصرية، قانونيًا، بعد تعديل مهم للغاية في الدستور المنقَّح لعام 2019.
سوريا مختلفة. من ناحية، على الرُغم من عسكرة المجتمع والسياسة والدور الواضح للجيش كركيزةٍ للنظام لعقود طويلة، فإنَّ الجيش السوري يفتقر إلى الاستقلال السياسي الذي يتمتع به نظراؤه العرب. ومن عجيب المفارقات أن تشابك هياكل القيادة الرسمية مع شبكات السيطرة غير الرسمية التي يسيطر عليها الأسد تعني أن الأسد بذل قصارى جهده للحفاظ على تماسك الجيش وضمان بقائه أثناء الحرب الأهلية بقدر ما بذل قصارى جهده للحفاظ على سلطته. في الآونة الأخيرة، أدى إهماله لهذه الوظيفة، وسط تشتت انتباهه باستنزاف الدخل من اقتصادٍ يتقلّص باستمرار، إلى إضعافِ تماسُك الجيش وسببِ دفاعه عنه مرة أخرى. ومن ناحية ثانية، كان الجيش السوري يفتقر أيضًا إلى الاستقلال الاجتماعي. كان الدافع ذاته إلى دعم بقاء النظام من خلال الاعتماد بشكل ساحق على تجنيد العلويين في الجيش سببًا في تعريض المؤسسة في نهاية المطاف لأيِّ اتجاهات تؤثر في المجتمع الذي استمدت منه قوتها. ولطالما مثّلَ الجيش دائرة انتخابية رئيسة في القطاع العام في حد ذاته، مما جعله لا غنى عنه كأداة للسلطة الرئاسية، وبالتالي فإن عجز الأسد عن حمايته من إفقار بقية بيروقراطية الدولة ارتدَّ عليه.
إن الاستنتاج الأخير المتفائل من هذه القراءة للعلاقات المدنية العسكرية السورية هو أن ما حدث للتو في دمشق ليس تكرارًا لما حدث في مصر في العام 2011، عندما أزاحت القوات المسلحة الرئيس حسني مبارك عن منصبه من أجل حماية موقعها والحفاظ على النظام الأساسي، أو عندما فعلت الجيوش الجزائرية والسودانية الشيء نفسه في العام 2019. ربما أعلنَ العشرات من كبار قادة الجيش السوري الذين بقوا في دمشق في اليوم الأخير من حكم الأسد أنهم لن يقاتلوا من أجله ونصحوه بالتنحي. ومع ذلك، فقد افتقروا إلى عادة الحكم الذاتي السياسي والاستقلال الاجتماعي اللازمَين لإجهاض الانتقال السياسي في سوريا والاستيلاء على السلطة بأيديهم.
- يزيد صايغ هو زميل بارز في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يعمل على الأدوار السياسية والاقتصادية المقارنة للقوات المسلحة العربية، وتأثير الحرب على الدول والمجتمعات، وسياسات النهضة الاستبدادية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.