هل الاقتصاد المصري يتعافى حقًّا؟

كابي طبراني*

رفعت وكالة التصنيف العالمية “فيتش” التصنيف الائتماني لمصر بمقدار درجة واحدة إلى “B” في وقتٍ سابقٍ من الشهر الفائت، مُشيرةً إلى سلسلةٍ من التطوّرات الاقتصادية الإيجابية. وشملت العوامل الحاسمة لهذأ التصنيف احتياطات النقد الأجنبي المُعَزّزة بعد استثمار أبو ظبي في مشروع رأس الحكمة على الساحل الشمالي لمصر، وخفض قيمة العملة بنجاح في وقت سابق من هذا العام، وانخفاض مُطرد للتضخّم.

وتتوقع “فيتش” أن ينخفضَ ​​التضخّم إلى 12.5 في المئة بحلول منتصف العام 2025، وهو تحسُّنٌ كبيرٌ عن معدل 26 في المئة المُسَجّل في أيلول (سبتمبر).

وقد أعلنت “فيتش” هذا التصنيف قبل زيارة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا إلى القاهرة، والتي بدا أنها مرّت بشكلٍ جيد.

ورُغمَ أننا لا نعرف ما قيل خلف الأبواب المُغلقة ــربما كان الخط الروتيني لصندوق النقد الدولي بحثِّ السلطات المصرية على بذل جهود أكبر في ما يتصل بالإصلاحات الاقتصادية المُتَّفَق عليها هو الموضوع الأساس– لم تكن هناك أي إشارة إلى أنَّ صندوق النقد الدولي سوف يؤجّلُ صرفَ الشريحة التالية من قرضه بموجب تسهيلات الصندوق الموسَّعة الحالية البالغة 8 مليارات دولار. كما لا يبدو أنَّ مصرَ تسعى إلى إعادة التفاوض على تسهيلاتٍ ائتمانية لتمكينها من تأخير الرفع الجُزئي للدعم الحكومي، ومواصلة المماطلة في الخصخصة.

لكن وجهة النظر الإيجابية التي تتبنّاها “فيتش” لم تَحظَ بقبول الوكالتين الكبيرتين الأخريين، “ستاندرد آند بورز” و”موديز”. في الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر) ــبعد زيارة جورجيفاــ أكدت “ستاندرد آند بورز” تصنيفها لمصر عند مستوى “B-“، وإن كانت حافظت في الوقت نفسه على نظرتها الإيجابية. وفي بداية الشهر الفائت، أكدت “موديز” أيضًا تصنيفها عند مستوى “Caa1” واحتفظت بالنظرة الإيجابية.

يبدو تركيزُ “فيتش” على احتياطات النقد الأجنبي غريبًا بعض الشيء. فقد أُعلِنَ عن استثمار رأس الحكمة في آذار (مارس)، وبدأت أبو ظبي في إيداع العملات الأجنبية في غضون أيام من توقيع الاتفاق.

من الصحيح أنَّ رصيدَ النقد الأجنبي في مصر الذي بلغ 47 مليار دولار في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) كان أعلى مستوى له منذ أكثر من عشر سنين. لكن حتى قبل حقنة أبو ظبي المالية، كانت القاهرة تحتفظ باحتياطات تتراوح بين 30 و40 مليار دولار، وهو ضعف المستويات التي شهدتها أثناء الاضطرابات الاقتصادية التي أعقبت “الربيع العربي” في العام 2011.

وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الانخفاضَ في معدّل التضخُّم مُهمّ، لأنه سيُمَكِّنُ من خفضِ أسعارِ الفائدة، وبالتالي خفض المدفوعات المستحقّة على الديون المحلّية. كانت مدفوعات الفائدة على جميع أنواع الديون -المحلية والخارجية- تُمثّلُ أكثر من نصف الإنفاق الحكومي في الأشهر الأخيرة، ويمثل الدين المحلّي حصّة الأسد.

مع ذلك، تتفق وكالات التصنيف الثلاث على أهمّية القرار الذي اتُّخِذَ في آذار (مارس) بتعويم الجنيه المصري. فقد تمَّ تقليصُ السوق الموازية للنقد الأجنبي، وتجنّبت السلطات إغراءَ إعادةِ الدخول إلى السوق واستئناف التدخُّل في سعر الصرف.

لكن على الرُغم من ذلك، لم يكن سعر الصرف تحتَ أيِّ ضغوط، وبالتالي لم تكن هناك أسبابٌ كافيةٌ للتدخُّل. ومنذ تحرير العملة والسماح بانخفاض قيمتها بنسبة 38%، استفادت مصر من تدفّقات كبيرة من النقد الأجنبي، من صندوق النقد الدولي، فضلًا عن استثمار رأس الحكمة.

وفي ما يتصل بالالتزامات، قامت المملكة العربية السعودية في آب (أغسطس) بتحويل 10 مليارات دولار كانت أُودِعَت لدى البنك المركزي إلى صناديق استثمارية.

لذا فإن السؤال الذي يتعيّن طرحه هو ما إذا كانت السلطات المصرية سوف تكون قادرة على الحفاظ على نهجها المتمثّل في عدم التدخُّل كلما حدثت أزمة صرف أجنبي أخرى، والتي ستحدث بكل تأكيد.

كان النمط السائد على مدى عقود هو أن يسمح البنك المركزي بانخفاض كبير في قيمة الجنيه المصري عندما تصبح الضغوط على العملة المصرية شديدة للغاية، ثم يحاول بعد ذلك الإبقاء على هذا السعر الجديد لأطول فترة ممكنة، في مواجهة الخسارة الطويلة الأجل للقدرة التنافسية والقدرة الشرائية.

هل ستكون هذه المرة مختلفة؟ لا أستطيع أن أفكر في أيِّ أسباب تجعلُ الأمر كذلك، نظرًا لأنَّ السياسة الاقتصادية يديرها الأشخاص أنفسهم، أو على الأقل أشخاص لديهم النظرة المستقبلية عينها، الذين كانوا في السلطة لسنوات عديدة، ونظرًا لأن التحديات المالية الأساسية التي تواجه الحكومة لا تزال قائمة.

إنَّ مصر تتخذ خطوات مهمة لإصلاح اقتصادها. فقد تمَّ خفضُ الدعم، وزيادة ضريبة القيمة المضافة، وتبسيط تحصيل الضرائب (مرة أخرى)، وطرح عدد قليل من الشركات المملوكة للدولة للخصخصة ــ يحاول البنك المركزي التخلص من حصة تبلغ 30% في بنك يونايتد، في الأساس للمستثمرين المؤسسيين، خلال كانون الأول (ديسمبر) الجاري.

لا شك أن كل هذه الخطوات تؤدي إلى وضعٍ مالي أكثر استدامة واقتصادٍ أكثر حيوية. لكن نقاط الضعف لا تزال قائمة.

لقد أدى التوتر الإقليمي الحالي إلى خفض عائدات قناة السويس بأكثر من النصف ــ وهذه العائدات بالعملة الأجنبية. كما انخفضت عائدات السياحة ــمرة أخرى، بالعملة الأجنبية في المقام الأول ــ بسبب الأحداث الإقليمية. وانخفضت تكلفة دعم الوقود والسلع الأساسية، ولكن مع عيش خمس السكان في فقر مدقع أو معتدل، فإنَّ الدعمَ سوف يُشكّلُ عبئًا كبيرًا على موازنة الدولة لعقود مقبلة.

هناك أيضًا العبء الضخم المتمثّل في رواتب موظفي الدولة. تستهلك هذه الرواتب ما بين خمس وربع إيرادات الحكومة، ولكن الظروف الاجتماعية والسياسية في مصر تحول دون تقليص دور الحكومة كأكبر جهة توظيف في البلاد.

لكن هل ينبغي لنا إذن أن نشعرَ بقدرٍ أعظم من التفاؤل إزاء الاقتصاد المصري؟ في الأمد القريب، نعم، ينبغي لنا أن نشعر بقدر أكبر من التفاؤل. فعلى الرُغم من التأثيرات الاقتصادية للحرب الإقليمية، تتمتع مصر باحتياطات قوية من النقد الأجنبي، وتتمتع بعلاقات طيبة مع جهاتٍ مثل صندوق النقد الدولي والمستثمرين الخليجيين، القادرين على توفير المزيد من النقد الأجنبي في الأشهر المقبلة. ولكن لا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا بأننا نشهد أي تغيير جوهري في البنية الأساسية للاقتصاد المصري.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى