أَبو شبكة-بودلير: أَيُّ تَشابُه؟ أَيُّ تَباعُد؟

بودلير : حياة بوهيمية صاخبة

هنري زغيب*

نَظْلِم الياس أَبو شبكة (19031947) حين “نتَّهمُه” متأَثرًا ببودلير (1821-1867)، وبأَن “أَفاعي الفردوس” (بيروت 1938) تقليدٌ “أَزهارَ الشر” (باريس 1857). وهي موجةُ تُهَم واجهتْه طيلة حياته، إِذ رأَى البعضُ في قصائده تقليدَ لامرتين أَو دو موسيه أَو ڤينيـي. لكنَّ هذا التعميم يَظلِمُه أَيضًا.

أَجواء الأَدب الفرنسي

صحيح أَنَّ “أَبو” شبكة (كان يحب أَن يكتب اسمه دومًا بالرفع “أَبو” في جميع حلات الإِعراب) كان متَشبِّعًا بالثقافة الفرنسية، كونه درَس في معهد عينطورة الفرنسي الثقافة والتدريس. وصحيح أَنه نشأَ على قراءة الأَدب الفرنسي، وحين شبَّ ترجم نصوصًا منه إِلى العربية، صدر بعضُها في كتب. وصحيح أَنه تَرجَم كتاب “بودلير في حياته الغرامية” (1947) لكميل موكلير. وصحيح أَنه في باكورة كتبه “القيثارة” (1926) تَرجم قصائد (حرفيًّا أَو مقتبَسَةً) من شعراء رومنطيقيين. وصحيح أَن طبيعته الرومنطيقية تُقرِّبه من نزعة الرومنطيقيين الفرنسيين. لكنَّ جميع هذه العناصر تبقى شخصيةً حياتيةً ذات علاقة خاصةً به، ولا تُضْطَرُّه أَن يقلِّد أَو يتْبَع أَو يشابه.

فكيف تجلَّت هذه التشبيهات عند النُقَّاد؟

غلاف ترجمة أَبو شبكة

مقاربات النُقَّاد

منهم مَن رأَى تَشابُهًا مع بودلير في تَحَرُّق أَبو شبكة النافث السُمَّ القاتلَ في قصائد كتابه “غلواء”، حبه الأَول الذي استطال 9 سنوات قبل أَن يَتَتَوَّج بالزواج.

ومنهم مَن رأَى تَشابهًا بين الجيفة البودليرية (قصيدة “القاذورة” في “أَفاعي الفردوس”)  وقصيدة “الجيفة” في “أَزهار الشر”.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا في الجو المتشائم الأَسْود في “أَفاعي الفردوس”، وما يقابله من الجو ذاته في “أَزهار الشر”.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا بين وصْف أَبو شبكة الشهواتِ الجسدية اللاهبة، وما يقابلُها من أَوصاف شبيهة لدى بودلير.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا في المطْلق بين الشاعرَين: عند صدور “أَفاعي الفردوس” كتَب أَكثرُ من ناقد مستعملًا تعبير “هذا بودلير لبنان”.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا في الأُسلوب الحاد الناقم بين قصائد “أَفاعي الفردوس” والكثير من قصائد “أَزهار الشر”.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا في جَو أَبو شبكة عمومًا وأَجواء القرن التاسع عشر الرومنطيقي، وفي طليعتها قصائد بودلير.

ومنهم مَن رأَى تَشابُهًا في مواضيع القصائد بين أَبو شبكة وبودلير، وكذلك بينه وبين موسيه وڤينيي ولامرتين.

هذا التشابُه المتعدِّد أَعلاه مُبَرَّرٌ، وفيه من الواقع الشعري ما ظهر، ولو بشكلٍ متفاوت،  في قصائد أَبو شبكة.

بودلير بترجمة أَبو شبكة

… ومباعدات السيرة

لكنَّ هذا الواقع المتجلِّي في قصائد أَبو شبكة لم يكن ترفًا شعريًّا نظريًّا بل هو واقع عاشه فعلًا في حياته.

فهو عرفَ في مطلع شبابه (كان في الثامنة عشرة) جارتَه في الزوق أُولغا ساروفيم وجمعَتْه بها قصةُ حب مبْكر ظلَّ أَفلاطونيًّا تسع سنواتٍ تخلَّلَتْها قصائد عاطفية صافية إِلى “غلواء” (قَلَب أَحرف اسمها من “أُولغا” إِلى “غلواء”). لكن تلك السنوات العاطفية النقية شهدَت كذلك علاقة سرِّيَّةً مع سيدة متزوجة في الزوق (روز ساوفيم، سمَّاها “وردة”) وعاش معها سنواتٍ من العلاقة الجنسية البحتة انتهت بإِدراكه الخطأَ والخطيئة في ما يعمل، فانقلَب عليها ساخطًا غاضبًا لاعنًا، وثار على المرأَة/الجسد والمرأَة/العشيقة وكتب فيها معظم قصائد “أَفاعي الفردوس”، تمامًا مثلما كتب بودلير في “أَزهار الشر” قصائد في لعنة الجسد والمرأَة الزانية أَو العاهرة أَو السحاقية ومعظمها في عشيقته جانّْ دوفال.

أَبو شبكة بريشة مصطفى فروخ

خطوبة وعلاقات أُخرى

بعد تسع سنوات الخطوبة مع غلواء (تخلَّلَتها العلاقة الجسدية مع وردة) وبعد زواج أَبو شبكة من غلواء، عادت له علاقة جديدة مع مغنية سمراء (هادية) تعرَّف إِليها في بيروت وكانت تغني من قصائده. وتوطدَت علاقتُه بها حتى أَنه طلَب من صديقه قيصر الجميل أَن يرسمها، وعلَّقَ لوحتها في صدر صالون بيته. وعبثًا طالبه أَصدقاؤُه بأَن ينزع اللوحة احترامًا لزوجته أُولغا فلم يفعل (تزوَّج من أُولغا لكنها  بقيَتْ في بيتها الوالديّ ولم تسكُن مع الشاعر في بيته).

وحين انطفأَت علاقته بالمغنّية السمراء “هادية” (كتب فيها خمس قصائد موجودة في كتابه “إِلى الأَبد”)، شعر أَنه تعِب من النساء، ويئِس من أَن يجد الحبَّ الحقيقيَّ الذي ينتظره، فانصرف إِلى الطبيعة، وهي تناسب نزعته الرومنطيقية، وكتب قصائد كتابه “الأَلحان” (1944)، وهي في وصف طبيعة لبنان وعاداته الجميلة ومظاهر أَهله الطيبين.

… وجاءت ليلى

على أَن يأْسَه من الحب لم يَطُلْ، إِذ تعرَّف سنة 1940 بـ”ليلى” التي عاش معها سنوات حبٍّ كبيرٍ كتب لها خلاله كتابَين هما أَجملُ ما كتب من قصائد: “نداء القلب” (1944) و”إِلى الأَبد” (1945)، وهما مشبعان بالعاطفة الرومنطيقية العالية البعيدة كليًّا عن الجحيم والنار والجسد واللعنة والغضب في “أَفاعي الفردوس”.

بعدما عرف الحب مع ليلى (جارته في الزوق) اختفَت لوحة هادية من صالون بيته. أَعادها إِلى قيصر الجميِّل طالبًا منه إِعطاءَها إِلى صاحبتها، ونشَر في “إِلى الأَبد” المقطوعات الخمس التي كان كتَبها لـ”هادية”، كي لا يكتشفها أَحد بعده ويعتبرها مكتوبة لامرأَة أُخرى في عهد ليلى، فيما هو فعلًا منذ ليلى لم يعرف أَيَّ امرأَة ولا أَيَّ علاقة أُخرى، بل انصرف إِلى ليلى نهائيًا حتى انطفأَت حياته على هذا الحب الكبير في 27 كانون الثاني/يناير 1947.

لا تشابُه ولا تأْثير

سردتُ هذه التفاصيل كلَّها من حياة أَبو شبكة كي أَقولِ إِن الشبه بعيدٌ بين حياته وحياة بودلير (مع أَنهما تُوُفِّيا في سنٍّ متقاربة: أَبو شبكة عن 43 سنة وبودلير عن 47 سنة)، كما بين علاقات أَبو شبكة النسائية المتعدِّدة (غلواء، وردة، هادية، ليلى) وعلاقة بودلير بــجانّْ دوفال ونساء أُخريات من المواخير، وما تخلَّل حياته من عواصفَ ومآسٍ ونهاياتٍ مأْساوية لها وله.

يضيق المجال هنا عن سرد استشهاداتٍ من قصائد أَبو شبكة ومقارنتها بقصائد بودلير لتبيان الفوارق بينها، أَو لتبيان بعض التشابه غير المقصود لأَن حياة أَبو شبكة غير حياة بودلير. إِنما الخلاصة أَنْ كانت لكلٍّ من الشاعرَين حياتُه التي انعكسَت في شعره، إِنما لا تَشَابُه فيها مطلقًا بين سيرَة الشاعرَين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى