بعد غزّة… لبنان يُسقِطُ “الإسنادَ” ويفاوض

محمّد قوّاص*

لا تنتمي فكرة التفاوض مع إسرائيل إلى اللحظة التي اقترحها الرئيس اللبناني جوزيف عون قبل أيام. خَبِر البلد أمر هذه الآلية منذ اتفاق الهدنة في العام 1948، انتهاءً باتفاق إطلاق النار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. لكن الأبرز خلال محطات التفاوض، تلك التي، في زمن السطوة الكاملة ل”حزب الله” على النظام السياسي اللبناني، أنتجت اتفاقًا أثار جدلًا داخليًا لترسيم الحدود البحرية في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، أو اتفاقًا لترسيم الحدود البرية عطّل “طوفان الأقصى” التفاوض بشأنه.

ومع ذلك، فإنَّ لتوقيت موقف عون وخلفياته حيثيات مختلفة. أتى موقف الرئيس اللبناني ليكمل سياقًا أدلى به قبل أيام يغمز به من قناة “توريط البلد بحرب “الإسناد”. ويكاد الموقف الجديد أن يتقاطع مع تلميحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من على منبر “الكنيست” الإسرائيلي، عن السلام في المنطقة، والثناء على الرئيس اللبناني، والآمال المعقودة على “خط حيفا-بيروت”. ويكاد ما صدر من قصر بعبدا أن ينهي بلا رجعة منطق “اللادولة” وسلاحها غير الشرعي، لصالح فلسفة الدولة وخياراتها المسؤولة للدفاع عن البلاد وحماية أمنها.

لم يكن مسموحًا للبنان بالتفاوض حين كان البلد تحت الوصاية السورية في عهد الأسدَين. وصلت مراحل المفاوضات بين دمشق وتل أبيب إلى حافة الخواتيم برعاية حافظ مرّة، ثم بشّار مرّة أخرى، ولم تصل إلى مستوى الاتفاق بسبب حسابات سوريا وأجندة نظامها. بالمقابل، كان على جبهة جنوب لبنان أن تبقى مشتعلة، وأن تبقى وزارة خارجية لبنان بمثابة مكتب تابع للسياسة الخارجية السورية، وأن يُحرَّم على لبنان التفاوض خضوعًا لحسابات سوريا وأجندة نظامها.

يُطلقُ الرئيس اللبناني دينامية واضحة يعلن انضمام لبنان إلى مساراتٍ تجري في المنطقة ترفدها إرادات دولية، على ما أنتجت مشهدية قمّة شرم الشيخ الدولية للسلام. ولئن تقاطعت وجوه عربية وإسلامية وغربية هناك على تدشين مرحلة لم يكن لبنان مدعوًّا ليوم الإعلان عنها، فإنَّ الفطنة والفراسة استدعتا أن يدعو لبنان نفسه ليكون جُزءًا من مخاضٍ وجب الانخراط به وعدم البقاء مُهَمَّشًا على قارعةِ تحوُّلٍ تاريخي أيًّاً كانت نتائجه.

عجز سلاح “حزب الله” عن حماية لبنان. عجز عن حماية الحزب نفسه وقادته وزعيمه. وسواء تفاخر أمينه العام الحالي بالزعم بأنَّ الحزب تعافى وأعاد ترميم قدراته، فإنَّ السلاحَ بات خلفنا، كما هو حال سلاح حركة “حماس” في غزّة، الذي تقبّلت الحركة مبدأ تسليمه وخروجها والسلاح من مشهد الإدارة المقبلة.

بالمقابل، فإنَّ منطقَ الأمور يُفيد بأنَّ سلاح الجيش اللبناني –شأنه في ذلك شأن سلاح الحزب– لا يستطيع، بالمعنى العسكري، الدفاع عن لبنان وحمايته. فلا قواه تُقارَن بقوة الجيش الإسرائيلي، ولا مصادر التسليح الدولية تسمح بتعظيم قدراته، ولا مزاج لبناني سياسي من خارج بيئة الحزب يخطّط لحرب مع إسرائيل.

وفيما أنَّ بقية “دول الطوق” شيّدت استراتيجيتها على ثنائية القوة العسكرية والتفاوض والاتفاق، فإنَّ من بديهيات الدفاع الحديث أن يستظلَّ لبنان مظلة بشبكة علاقات دولية من شرق الكوكب وغربه، ويستندُ على تفاوض واتفاق بشأن “المشاكل العالقة” وفق تعبير رئيس البلاد.

لا يُمكنُ أن يكونَ لبنان خارج مفاوضات تجريها سوريا مع إسرائيل بشكلٍ مباشر وعلني وشفاف. وأساسًا، التفاوض على مدى التاريخ يجري بين الأعداء، بمعنى أن ما يدعو إليه الرئيس اللبناني ويمهّد له لا يغيّر من موقف لبنان السياسي من إسرائيل.

والتفاوض من أجل إنهاء الوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، والتفاوض على قواعد عدم الاشتباك، لا يرقى إلى مستوى يناقض التزام لبنان بمبادرة السلام العربية، ولا يملك تجاوز سقوف وضعتها السعودية شروطًا لها.

يوحي عون للرئيس الأميركي بجهوزية لبنان للتفاوض بوساطة مبعوثيه وتحت سقف إعلان “شرم الشيخ” وما تَعِدُ به خطّة غزّة. يبلغه أيضًا مقت البلد رسميًّا لورطة “حرب الإسناد”. يقرع الرئيس جرس التفاوض، فيما تعود طهران بدورها إلى الاندفاع نحو التفاوض مع واشنطن، واضعةً حزبها في لبنان متأهّبًا غبَّ الطلب، تارةً مُطلًّا على الروشة، وتارةً جامعًا كشّافته مُستعرضًا مشهدها بحبور.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت-دُبَي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى