تقريرُ الأضرار

رشيد درباس*

لا تُلْتَمسُ الفروع… إلّا بَعْدَ إحكام الأصول
الجاحظ

صبيحةُ السبت الواقع فيه الثالث والعشرون من تشرين الثاني (نوفمبر)، وصلني من صديقي العميد أسعد مَخّول مقطعٌ مُصَوَّرٌ عن قصف ضاحية بيروت الجنوبية (الضاحية) في الرابعة صباحًا، مع تعليقٍ له يقول: “فَجَّروا الفجر”. في الساعة الرابعة من صباح الأربعاء، توقّفَ إطلاقُ النار الإسرائيلي، فانفجرَ الفجرُ بالرصاصِ الاحتفالي؛ تعليقًا على ذلك أقولُ إنني أُبَرِّرُ لأهلِ الضاحية والجنوب والبقاع، ولجمهور “حزب الله” عمومًا الاحتفاء بالنصر الجريح، النازف دمًا ورُكامًا، ولا أُبرّرُ على الإطلاق لسائر اللبنانيين أي كلام أو ابتسامة سرور عن نصرٍ مزعوم؛ ذلكم أنَّ للألم أنينًا مُلتبسًا يُؤخَذُ بعين التقدير، أما الشماتة فلا يُبرِّرُها مُبرِّر ولا يسوغها مسوغ، لأن لبنان كلّهُ مهزوم، يستوي في ذلك مَن يرفضُ الاعترافَ بهذه الهزيمة، أو مَن يَعُدُّها، واهمًا، كسبًا وفوزًا، ومن ينكر ذلك، عليه مراجعة الاتفاق، ظاهرًا وباطنًا.

بعدَ كلِّ معركةٍ يطلبُ القائدُ تقريرًا بالأضرار، وهذا ما نتوقّعه من رئيس جديد للجمهورية وحكومة مسؤولة، للوقوف على الخسائر المتنوِّعة، بدءًا بإحصاءِ الشهداء والجرحى مرورًا بالدمار والخسائر الاقتصادية، والبحث عن وسائل التعويض والترميم، وعن التمويل اللازم من  الداخل والخارج، وعن أوضاعِ المُدن والبلدات والقرى المُهدَّمة، والحالة المالية والمصرفية، وكذلك ما لحق بالقطاعات الصحّية والتربوية والاجتماعية والبيئية من تخريبٍ ينطوي تعويضه على مشقّاتٍ كبيرة.

لكنَّ التقريرَ المطلوب يجب أن يصبَّ في وعاءٍ سياسي وطني، مَبني على فكرٍ إصلاحي واستشرافي لتلافي الوقوع مرة أخرى في شرك الكوارث المتوالدة.

لا بُدَّ لنا ابتداءً من التنويه بالظاهرة اللبنانية شعبًا وكيانًا، إذ ما كادت الجمهورية الوليدة تَبصُرُ النور، حتى راحت تتنقل من مستنقعٍ إلى آخر، وكل هذه المُستنقعات ذات روافد خارجية وجدت لها مواطئ تلويث في حقول التبايُنات الطائفية، ولكن الحيوية اللبنانية المُنبثقة عن مناخ الحرية والانفتاح ومستوى التعليم المُنتشر بين الطبقات، كانت كفيلةً بتحويل المستنقع إلى حديقة نقية الهواء على فتراتٍ عدة، إلى أن يغزوها بعوض الفتن وذباب السياسة مرة أخرى، فَتَتصَّبر وتتكيف، وتتهيّأ لزرع حدائق جديدة.

وعليه، واعتمادًا على هذا المعطى الراسخ على أكثر من قرن، يُعَوِّل اللبنانيون على أنَّ فداحةَ النتائج الناجمة عن هذه الحرب، توجب نسج شبكة فكرية وسياسية تتلقّفُ الهواجس والكوارث، وتكون مجالًا آمنًا لبحثٍ صحيحٍ في تقرير الاضرار، والخطوة التي يجب أن نخطوها في ما بعد، لأجلِ إنتاجِ أطروحةٍ وطنية مرنة قادرة على استيعاب مخاوف اللبنانيين وتطلُّعاتهم من أجل الذهاب إلى دولةٍ تُجفّف مستنقعاتها السياسية، وتقضي على حشرات الفساد،  وتبثّ مناخًا دائمًا، صافيًا من الملوّثات، يطمئننا إلى مصيرٍ لأبنائنا لا يشبه ما عانيناه على مدى العقود الماضية…

سأذهبُ بالصراحة إلى آخرها،  فأُناشِدُ القوى السياسية المسيحية التي اعترضت على سياسات “حزب الله”- المُبكِرة منها والمُتأخِّرة- أن تُقدّمَ مُبادرةً فورية تقوم على مَبدَإِ وحدة الدولة الدستورية، بعد أن تفشّى في الآونة الأخيرة نزوعٌ ظاهرٌ نحو الانقسام تحت شعارات الفدرلة، واللامركزية الشاملة، ومقولة “ما بيشبهونا”، خصوصًا وأنَّ هذه الوحدة لا تحجر على اللبنانيين الحق باللامركزية المُوسَّعة التي أراها الأسلوب الأمثل للتنمية والتطوّر، ولا تحجر عليهم أيضًا إمكانية إدخال إصلاحات دستورية وسياسية لا بُدَّ منها، لكي نبقى في سياق العصر ومواكبته.

وأُضيفُ، إن اللبنانييين بمعظمهم ليسوا أعراقًا،  ليسهل استدراجهم إلى العنصرية، وهم الآن بأكثريتهم ضاقوا ذرعًا بالتدخّلات الخارجية والصراعات التافهة، وهم كلهم بحاجة إلى الذهاب إلى دولةٍ قوية لا يستضعفها أبناؤها ولا يغرزون فيها بين حين وآخر، مشروعًا فئويًا فاشلًا، فلقد استقبلنا إخوتنا كما تقتضي الأصول، من غير مُضايقاتٍ أو مشاحنات خطيرة، فآنَ لنا، أن نكونَ كقرية دير الأحمر التي تحوَّلَ مطرانها وقساوستها ونائبها وأطباؤها وناشطوها إلى نموذجِ تلك الوحدة المطلوبة.

إنَّ المُبادَرة المرجوّة بسيطة العبارات عميقة الآثار، قوامها انَّ لبنان لأبنائه من دون تمييز، وأنَّ الإنماءَ حقُّ المناطق كلّها و”اللامركزيات” جميعها- مهما توسّعت أو ضاقت- وأنَّ الانفصامَ السياسي الذي آلَ إليه،  ليس محلَّ مُحاكمة ومُساءلة، وأنَّ الحربَ الإسرائيلية لم تُميِّز بين الطوائف والمناطق وأنها لا تُحقّقُ غلبة بعضنا على بعض، فقد كان للمسيحيين دورٌ في التأسيس، وتكوين السلطات، كما كانَ للتنوُّع فضل في عدم التحاق المسلمين بأنظمة الاستبداد، مع تمسُّكهم بعروبتهم التي عبروا عنها في نصرة قضايا العرب وعلى رأسها فلسطين.

مستقبلُ لبنان مُتوقّفٌ على مبادرةٍ وطنية تقوم على القبولِ المُتبادَل، بعدما عاينّا كلنا الخيبات والويلات المتشابهة، فتبين لنا بالوجه الشرعي أنه لا بُدَّ من “لبنان كوطنٍ نهائي لأبنائه فقط”.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى