لبنان: بَينَ التحدِّياتِ الداخلية والخارجية

الدكتور ناصيف حتّي*

إتفاقُ وَقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل الذي دخلَ حَيِّزَ التنفيذ الأربعاء الماضي يُفتَرَضُ أن يؤدّي إلى انسحابٍ كُلّي للقوّاتِ الإسرائيلية من جنوب لبنان بشكلٍ تدريجي في فترةٍ أقصاها ٦٠ يومًا من تاريخه. ورُغمَ ذلك، ما زلنا نشهدُ أعمالًا عسكرية إسرائيلية بشكلٍ مُنخَفضٍ ومُتقطّعٍ فيما تدعو إسرائيل وتُشجّعُ عبرَ مساعدةٍ مالية سكّان الشمال للعودة إلى منازلهم. ويبدو أنَّ إسرائيل تُحاولُ خَلقَ واقعٍ جديدٍ على الأرض في بعضِ المناطق قبل انسحابها. والمطلوبُ من الطرفَين الغربيين في اللجنة، الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، الضغطُ على إسرائيل لوقفِ هذه الأعمال العسكرية وتسريع الانسحاب من الجنوب.

على صعيدٍ آخر، تَشهَدُ سوريا عودةَ السخونة العسكرية في لعبةِ تنشيطِ المواجهة بالوكالة التي يقومُ بها بعضُ الأطراف الخارجية الفاعلة على الساحة السورية لتعزيز موقعها في سوريا في “لعبة الأُمم” الدائرة والناشطة من جديد. يحصلُ ذلك في خضمِّ المُتغيّرات التي احدثتها الحربُ الإسرائيلية على سوريا التي بقيت كدولةٍ خارج استراتيجية “وحدة الساحات”، ولكنها استمرّت في جُزءٍ كبيرٍ منها كامتدادٍ للمسرح الاستراتيجي القتالي اللبناني.

وعلى صعيدٍ ثالث، ورُغمَ انخفاضِ حدّة القتال تبقى الحرب قائمة على غزة في ظلِّ محاولاتٍ التوصُّل إلى وقفِ إطلاق النار التي ما زال أمامها الكثير من التعقيدات.

وعلى صعيدٍ رابع، فإنَّ تصاعُدَ السياسة الإسرائيلية الناشطة لضمِّ الضفة الغربية وما تُشكّله هذه من احتمالاتِ انفجارِ الوَضعِ هناك في ظلِّ غيابٍ دولي ليس بالجديد من القوى الفاعلة والمؤثّرة لوَقفِ سياسةِ الضمِّ والحاملة لمخاطر تتخطّى المجال الفلسطيني، كُلُّها تُبشِّرُ باحتمالٍ كبير لحصول انفجارٍ في الضفة الغربية. انفجارٌ تتخطّى تداعياته السياسية جغرافية الضفة.

في خضمِّ هذه السخونة المحيطة بلبنان من جنوبِ فلسطين إلى شمالِ سوريا والمفتوحة على كافةِ الاحتمالات ولو بدرجاتٍ مختلفة، يبقى الإسراعُ، ولا نقول التسرُّع، في العمل على انتظامِ السلطات في لبنان، والخروج من حالةِ الفراغِ القاتل، أمرًا أكثر من ضروري.

صحيحٌ أنَّ تحديدَ موعدٍ للانتخابات الرئاسية في التاسع من شهر كانون الثاني (يناير) امرٌ شديد الأهمّية ورسالةٌ واضحة حول ضرورة الخروج من هذا الوضع غير الطبيعي في فترةٍ شديدة الصعوبة، ولكنَّ المُهِمّ أيضًا إطلاقُ عملية حوارٍ، مضامين لا عناوين، كما نذكر دائمًا. حوارٌ بين مختلف المكوِّنات الفاعلة في لبنان، أيًّا كانت صيغة هذا الحوار، للتوصُّلِ إلى بلورةِ تفاهُماتٍ ضرورية حولَ خريطةِ الطريق التي يجب ولوجها في عمليةِ الإنقاذ الوطني عند إنهاءِ الفراغ الرئاسي وانتظام السلطات.

وصحيحٌ أيضًا أنَّ العاملَ الخارجي كانَ وما زالَ مؤثِّرًا بشكلٍ كبير في التعامُلِ مع الأزمات الحادة التي يعيشها لبنان وذلك لأسبابٍ لبنانية أساسية كما شاهدنا دائمًا. ولكن هناكَ مسؤولية لبنانية وطنية يُشارِكُ في تحمّلها الجميع للعمل على التوصُّلِ إلى التفاهمات والتسويات المطلوبة. ولا بُدَّ من التذكير في ظلِّ الأوضاع التي يعيشها لبنان، أنه إلى جانب الأزمة الخارجية المُتعلّقة بالحرب الدائرة، هناكَ أزمةٌ بُنيويةٌ داخلية خطيرة تزدادُ تعقيدًا وكلفةً مع الوقت وتطالُ الجميع: الأزمة الاقتصادية المالية بتداعياتها المُتَعدّدة، وأبعادها ومخاطرها ومسبّباتها المختلفة ومنها السياسية التي تُعثّرُ إدارة شؤون البلاد. المطلوبُ استخلاصُ الدروس والعِبَر في هذا الخصوص لولوجِ بابِ إصلاحٍ شامل طالَ انتظاره، وازدادت تكلفته مع الوقت. فالحوارُ العملي والهادفُ حولَ هذا الأمر أكثر من ضروري لبلورة الخطوط العريضة والأفكار الأساسية لعمليةِ الإصلاح الأكثر من ضرورية.

المطلوبُ في حقيقةِ الأمر الإنخراطُ في مسارٍ حواري هادفٍ يُحضّرُ لانتظامِ السلطات مع انتخابِ رئيسٍ للجمهورية وتشكيلِ “حكومة مُهمّة”. ومن الضروري أن  يستندَ برنامجُ السلطة الجديدة على الأفكارِ والمُقترحات التي تكونُ ثمرةَ الحوار المطلوب. فالتحدّيات الوطنية كثيرة من مشاكل داخلية وأخرى خارجية مُترابطة، ويتأثّرُ بعضها ببعض، والمقاربة الشاملة ولو التدريجية في معالجة التحدّيات أمرٌ مُلحٌّ وأكثر من ضروري.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى