طانيوس يوسف عبدالله: دكتوراه أَميركية لـ”معمرجي” من لبنان
هنري زغيب*
حين صافحتُهُ أَحسسْتُ في كفِّي بقُرمة سنديانة مباركة من عندنا في الجبل..
كانت راشانا غُرُوبَــئــذٍ تودِّع نهارًا لبنانيًّا ينطوي على متحفٍ حيٍّ بين شوارعها من منحوتات البصابصة، وعلى بيت هادئٍ يستريح فيه “المعلِّم المعمرجي” طانيوس يوسف عبدالله هانئًا بسنواته الخمس والتسعين (من مواليد راشانا 1929)..
تستقبلُني شهادةٌ جامعيةٌ أَميركية تتصدَّر صالونه باعتزاز.. أَقْرَأُ فيها: “إِن جامعة نيو مكسيكو تمنح السيد طانيوس يوسف عبدالله شهادة الدكتوراه الفخرية لِمُساهمته في تعليم خمسة مهندسين ومحامية وصيدلانيَّة وطبيب – أَلْبُوكِرْكي في 16 كانون الأَول 1999” (أَلْبُوكِرْكي مدينة كبرى في ولاية نيومكسيكو، والجامعة تأَسست سنة 1889، وهي ثاني أَقدم جامعة فيها)..
أَجلس إِليه في خشْعة البَرَكة.. أَتأَمل أَصابعه الـمُفَولَذَة بتقصيب الحجارة يدَويًّا ثم رفْعها لبناء الجدران.. يحدِّثني بصفاءٍ ذهنيٍّ تَشوبُه لثْغةُ السِنّ.. أَسأَلهُ عن “أَعلام الشهادة” الثمانية.. يستريح صدرُه إِلى نعمة الأُبوَّة: عبدالله (مهندس ميكانيكي)، شوقي (مهندس كهرباء – حاليًّا، منذ أَول تشرين الأَول 2024، رئيس الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU)، أَسمهان (مهندسة معمارية)، بسَّام (مهندس اتصالات)، لورا (صيدلانية)، نوال (محامية)، شربل (مهندس مدني)، روني (طبيب)..
لا يستأْثر بنجاح أَولاده.. يعزوه كذلك إِلى زوجته “الست ميلانة” (زمرُّد تسجيلًا).. “كانت جارتي في راشانا وتصغرني بثماني سنوات.. تزوَّجْنا سنة 1956.. كنتُ أُغادر البيت باكرًا إِلى تقصيب الحجارة والبناء، وهي تهتمُّ بالبيت والأَولاد والعناية بمواسم الدخان واللوز والزيتون في أَرضنا وبمزرعة الدجاج كي تساعدَني على إِعالة الأَولاد”..
كانت معنا ابنتُه الكبرى أَسمهان.. تُريحُهُ من شرح: “كانت أُمي ذاتَ صبْر ورؤْية.. رفضَتْ أَن نذهب إِلى مدارس رسمية مجَّانية، وأَصرَّت على أَن نُحصِّل دراستنا لدى مدارس خاصة في البترون وبيروت.. عند استحقاق الأَقساط المدرسية، كانت تستدين مبالغَ تعيدُها لأَصحابها لدى حصاد المواسم.. كان الجميع يثقون بها.. أَحيانًا يمدُّونها بالمبلغ من دون فائدة، لثقتهم بها”..
يستلُّ الحديث من ابنته: “كانوا يسمُّونني “شيخ المعلِّمين” (البنَّائين).. معظم بيوت راشانا والجوار هي من شُغلي.. كنتُ أَغدو مشيًا إِلى الورشة ولا أَعود إِلَّا مع الغروب.. ميلانة أَساس تربية أَولادنا.. أَرادَتْهم جميعهم يكونون متعلِّمين.. أَنا لم أَتعلَّم إِلَّا ثلاث سنوات، وانصرفتُ إِلى العمل باكرًا ليتعلَّم إِخوتي.. اشتغلتُ بالزراعة والسكافة وتنقَّلتُ إِلى قرى مجاورة وبعيدة في تحوم وفغال وغيرهما.. رزَقني الله نعمةً في “ميلانة” فاهتمَّت بأَولادنا كي يدرسوا في أَحسن مدارس وجامعات.. هي امرأَة “دَبِّيرة” (“مُدَبِّرة”، “ذات دُربة”) في شؤُون البيت والأُسرة.. كلَّما وَفَّرَتْ مبلغًا كانت تشتري به، ولو بالتقسيط، قطعَ أَرضٍ هنا حولنا في راشانا.. صارت اليوم لأَولادنا، عمَّروا عليها بيوتهم”..
كنتُ، وهو حدِّي، أَتنقَّل بعينَيَّ بين عينيه العائدَتين من الماضي، ويدَيه السنديانيَّتَين الشاهدتَين على 95 سنة ملأَى أَيامًا مضْنيةً أَمضاها يُقَصِّب الحجارةَ ويبني البُيوتَ فيما يُقَصِّبُ بناءَ التعليم لثمانية أَولادٍ همُ اليوم، كلٌّ في حقله وحقلها، أَعلامٌ في صدارة المجتمع اللبناني.. وأَفهم كيف جامعةٌ كبرى في أَميركا كافأَتْ هذا “المعمرجي” من لبنان..
في ختام حوارنا يرشُقُني ببَسْمةٍ حنون: “منذ سنواتٍ أَرادني الأَولاد، غصبًا عني، أَن أَتوقَّف عن الشغل”.. قالها كما بحسرة، ناسيًا أَنه قليلًا بعدُ سيُخاصر المئة..
حين غادَرْتُهُ مُوَدِّعًا، كان ليلُ راشانا يَغمُر بيتًا هانئًا فيه جذعُ سنديانة مباركة أَفرَعَت أَغصانُها ثمانيةَ أَولادٍ يُسْهمون، بتفَوُّقهم العلْمي، في العمل المبارك على نهضة لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).