نجاح الولايات المتحدة في العراق يعني أن تُصبحَ شريكًا أكثر موثوقية من إيران
روبرت فورد*
لا يُوجَدُ طريقٌ سريعٌ للحَدِّ من النفوذ الإيراني في العراق أو تقليصه. سوف تردُّ طهران بشراسة على الجهود الأميركية الرامية إلى تدمير الميليشيات وتقليص نفوذها، وسوف يكون لديها العديد من السُبُلِ للتصعيدِ عبر الحدود التي يبلغ طولها 900 ميل بين البلدين. فضلًا عن ذلك فإنَّ رَدَّ الفعلِ العراقي المحلّي، وخصوصًا بين عناصر من السكان الشيعة، سوف يكون مُتَرَدِّدًا في أفضل الأحوال ومُعاديًا في أسوَإِ الأحوال للعمليات العسكرية الأميركية المُكَثَّفة. لا ينبغي أن يكونَ من الأهداف الأميركية تأجيجُ حربٍ أهلية بين الشيعة في العراق من شأنها أن تمنح إيران نقاط وصولٍ جديدة.
إنَّ واشنطن بحاجة إلى الاعتراف بأنَّ بعضَ عناصر العلاقة بين العراق وإيران يعملُ في الواقع على استقرارِ الوَضعِ. وإلى أن تتوفّر البدائل بسهولة، فإنَّ الواردات العراقية من الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران تُشكّلُ أهمّيةً بالغة للصالح العام والاستقرار، وهو ما ينبغي لأيِّ شخصٍ عانى من حرارة الصيف في العراق أن يُدرِكه. كما تُشكّلُ حركةُ المرور والزيارات الكثيفة من الحجاج الدينيين الإيرانيين أهمّيةً بالغة لاقتصادات المدن الرئيسة مثل النجف وكربلاء وبغداد. ولا ينبغي أن يكونَ الهدفُ الأميركي القضاء على النفوذ الإيراني في العراق، بل مساعدة العراقيين على ضمان عدم قيام وكلاء إيران بترسيخِ دولةٍ دائمة داخل الدولة. ومن حسن الحظ أنَّ العرب السنّة والشيعة والأكراد العراقيين مُتردّدون في قبول الهيمنة الإيرانية. وحتى الإسلاميين الشيعة العراقيين يُفضّلون اللعب مع الولايات المتحدة ضد إيران لتعزيز مصالحهم المباشرة. والواقع أن الغالبية العظمى من العراقيين، بما في ذلك القيادة، لا تريدُ أن تجدَ نفسها في خضمِّ صراعٍ بين الولايات المتحدة وإيران. إنَّ الضغوطَ التي يُمارسها مختلف الطوائف العراقية، بما فيها الزعامات الدينية الشيعية والمسؤولون الحكوميون، على الميليشيات للتوقّف عن مواجهة إسرائيل تُظهِرُ أنَّ هناكَ عناصرَ يُمكن للأميركيين العمل معها.
دعمُ عراقٍ أقوى
إن الهدف الأميركي لا بُدَّ وأن يكونَ عراقًا أقوى يتمتّعُ بدعمٍ من مجتمعاته المُتنوِّعة، واحتكارًا للقوة، وعلاقات طيبة مع جيرانه الإقليميين والغرب. وتستطيع الولايات المتحدة أن تساعدَ على تحقيق هذه الغاية من خلال إظهارها للزعماء العراقيين، سواءَ داخل الحكومة أو خارجها، أن َّالعلاقات مع واشنطن والغرب والشركاء الإقليميين تُقدّمُ فوائد تتجاوز ما تستطيع إيران وجهودها الضيّقة لتقسيم السياسة العراقية والسيطرة عليها أن تُوَفِّره.
وهذا يتطلّبُ أوّلًا إشراكَ كافة الأحزاب السياسية العراقية، بما في ذلك الإسلاميون الشيعة وحتى الميليشيات الشيعية نفسها، بدون أن يُنظَرَ إليها باعتبارها تعمل على تقويض الحكومة العراقية الشرعية. ويتعيّنُ على الأحزاب والميليشيات العراقية أن تضمنَ لمجتمعاتها أمنًا أفضل، وازدهارًا اقتصاديًا، وخدمات عامة مُحسَّنة، وتقدُّمًا في مكافحة الفساد (حتى وإن كان العديد منها فاسدًا). ومن جهتها، تحتاج واشنطن إلى الاستماع مباشرةً إلى الزعماء العراقيين بشأن مخاوفهم وتوقّعاتهم من الولايات المتحدة. فضلًا عن ذلك، يتعيّن على صنّاع القرار السياسي الأميركيين أن يلتقوا بالعراقيين الذين هم خارج الدوائر السياسية، ويستمعوا إليهم، بدءًا من المعلّمين إلى وسائل الإعلام إلى الطلاب إلى الناس في مجتمعات الأعمال والفنون. ومن الواضح أنَّ الولايات المتحدة لا تستطيع تلبية جميع المطالب، ولكن واشنطن تحتاجُ إلى فهم المخاوف والأولويات العراقية عند تحديد أين يجب أن تُركّز جهودها، كما ينبغي لها أن تشرحَ وجهات النظر والحساسيات الأميركية، مثل الفوائد الوطنية والإقليمية المترتبة على دمج قطاع الكهرباء العراقي مع قطاعات جيرانه العرب أو المخاطر التي يتعرّض لها العراق من تجاهل قوانين العقوبات الأميركية.
إنَّ هذا الجهدَ لتعزيز التفاهُمِ المتبادَل سوف يتطلّب العمل في ظل تدابير أمنية مُتحفّظة للغاية في المواقع الديبلوماسية الأميركية في بغداد وأربيل. ومن المؤكد أن زيادة الاتصال بين العراقيين وموظفي السفارة الأميركية والزيارات التي يقوم بها كبار المسؤولين من الإدارة الجديدة، من المدنيين والعسكريين، من شأنها أن تؤكّدَ على جدّيةِ الولايات المتحدة. وقد أدّى الافتقارُ إلى الزيارات رفيعة المستوى إلى تعزيز النفوذ الإيراني. إضافةً إلى ذلك، إنَّ وجودَ موظفين كبار في السفارة الأميركية يتحدثون العربية (والكردية إذا أمكن) ويخرجون للقاء العراقيين سوف يكتسبُ موافقة قطاعات كبيرة من الحكومة العراقية والمجتمع العراقي في حين يُسبّب عدم الارتياح لطهران وعملائها في العراق. وقد حقق السفير الأميركي الحالي قدرًا من النجاح في هذا الصدد، وهناك حاجة إلى المزيد من هذا النوع من المشاركة.
التعاوُن الهادِفُ مُمكن
مع إعادةِ الولايات المتحدة تَصوُّر التعاون مع العراقيين، يتعيّنُ على صنّاع السياسات في واشنطن أن يُفكّروا في سُبُل تقديم المساعدة الهادفة للمؤسّسات العراقية الأساسية المُكَلَّفة بتزويد الناخبين بحلولٍ تتعلّقُ بالأمن والرخاء الاقتصادي والتعليم. وبموافقة بغداد، قد يشمل هذا الدعم المباشر:
– وحدات من قوات الأمن العراقية والبشمركة ذات السجل النظيف في مجال حقوق الإنسان والتي تقاتل ضد إرهابيي تنظيم “الدولة الإسلامية”. وينبغي أن تندرج هذه المساعدة تحت مظلة مهمة المساعدة العسكرية الثنائية التي يتم تنسيقها مع الحكومات الغربية الأخرى. إنَّ وحدات قوات الأمن العراقية القوية والموالية تُشكّلُ أهمّيةً حيوية لنجاح الدولة العراقية.
– القطاع المالي، وخصوصًا الهيئات التنظيمية المصرفية، لتعزيز القدرات العراقية على وَقفِ غسيل الأموال والتدفّقات غير المُصرَّح بها للعملة خارج حدود العراق. ومرةً أخرى، يمكن تنسيق هذه المساعدة مع الحكومات الغربية الأخرى والخبراء الخارجيين. إنَّ النظام المصرفي الأقوى من شأنه أن يُقلّلَ من التدفّقات النقدية إلى إيران ويُركّز انتباه العراق على الاستثمار المحلّي والتجارة مع النظام الدولي.
– الجامعات، بالاستفادة من المنح الصغيرة الحالية من وزارة الخارجية الأميركية لتعزيز نظام التعليم العالي العراقي وإنتاج الجيل المقبل من القادة الذين سيدعمون المصالح الأوسع للعراق.
لا بُدَّ للولايات المتحدة من أن تتقاسم خبراتها وتبني علاقاتٍ مهنية مع العراقيين في الحكومة وخارجها. في العقود التي قضيتها في العمل الديبلوماسي، كان الجهد الذي ساعد على بناء الجسور وإظهار القدرات الأميركية في فترةٍ قصيرة نسبيًا من الزمن هو برامج تبادُل الزوّار. ولكي تُطَوِّرَ إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب الثانية لنهجها في التعامل مع العراق، يتعيّن عليها أن تُفكّرَ في الإثبات للعراقيين أنَّ العلاقات العميقة مع الولايات المتحدة تُقدّمُ فوائد لا تستطيع إيران أن تُقدّمها أو تتفوّق عليها، ويمكنها أن تفعل ذلك من خلال تعزيز التمويل لبرامج التبادُل التي هي في النهاية أرخص كثيرًا من المساعدات العسكرية أو العمليات العسكرية. وقد تشمل المجالات التي ينبغي لها أن تنظر فيها في البداية ما يلي:
- العمليات الحكومية والإشراف: ترتيب زيارات نواب من مختلف الأحزاب السياسية العراقية إلى الهيئات التشريعية والوزارات والوكالات الفيدرالية وحكومات الولايات في أميركا لتبادل الخبرات في إجراء الرقابة والإدارة والخدمات التأسيسية.
- إدارة المياه والتخطيط الحضري: إحضار مخطّطي المدن العراقيين والقادة السياسيين المحليين والوطنيين إلى المدن التي تواجه تحديات مماثلة، مثل لاس فيغاس وفينيكس وسان دييغو، لعقد اجتماعات مع الخبراء والمسؤولين المحلّيين.
- الإدارة الزراعية: ترتيب زيارات المسؤولين السياسيين العراقيين، ونقابات المزارعين، والعلماء إلى مراكز التميّز في مجالات الزراعة، وإدارة الموارد الوطنية، والحفاظ عليها.
- الحد من الفساد: دعم جهود مكافحة الفساد العراقية من خلال دعوة المسؤولين والناشطين على المستويين الوطني والمحلي المشاركين في مكافحة الفساد لزيارة المؤسّسات الأميركية المقابلة لتبادل المعلومات حول النظام القضائي، والقوانين والإجراءات القانونية، وعمليات التحقيق.
- المبادرات التعليمية: زيادة تبادل فولبرايت حتى يتمكن المزيد من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس العراقيين من قضاء فترة ممتدة في مؤسسات التعليم العالي الأميركية، وعندما تسمح الظروف الأمنية، إحضار أعضاء هيئة تدريس أميركيين للتدريس في الجامعات الأميركية في السليمانية ودهوك وبغداد.
لا تستطيع إيران أن تُنافسَ أميركا في أيٍّ من هذه المجالات، وسوف يُقدّرُ العراقيون المساعدة الأميركية من هذا النوع. إنَّ التعاونَ الملموس في هذه المجالات هو على وجه التحديد ما تسعى إليه الحكومة العراقية من خلال اتفاق الإطار الاستراتيجي الثنائي الذي وقّعناه في العام 2007. ويمكن للإدارة أن تحقق المزيد من التقدم من خلال دعوة أعضاء البرلمان، وخصوصًا من لجان الشؤون الخارجية والأمن والدفاع، والمسؤولين المحليين لزيارة الولايات المتحدة للحصول على رؤيةٍ عن كثب لسلوك السياسة الخارجية والأمنية الأميركية من قبل المسؤولين والخبراء، سواء في واشنطن أو خارجها. ولا ينبغي الاستهانة بقوة العلاقات الشخصية.
- روبرت فورد هو زميل بارز في معهد الشرق الأوسط في واشنطن حيث يكتب عن التطوّرات في المشرق العربي وشمال أفريقيا. تقاعد من الخدمة الديبلوماسية الأميركية في العام 2014 بعد أن عمل سفيرًا في سوريا والجزائر ونائبًا لرئيس البعثة الديبلوماسية الأميركية في العراق والبحرين.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.