خَريفُ الغَضَب في لبنان
إن لبنان مجرّد بيدق إقليمي، ولا يستطيع إلّا الحمقى أن يروا نصرًا في ظل هذا الوضع البائس.
مايكل يونغ*
عندما غادرت القوات الفلسطينية بيروت في العام 1982، بعد أن أجبرها الإسرائيليون على الخروج، رفعوا علامات النصر على الشاحنات التي كانت تقلّهم إلى مرفإِ العاصمة. وقد دفع هذا في ما بعد المسؤول الفلسطيني عصام السرطاوي إلى التصريح بأنَّ منظّمة التحرير الفلسطينية سوف تجدُ نفسها قريبًا في جزر فيجي إذا حقّقت المزيد من الانتصارات مثل الانتصار الذي حقّقته في لبنان.
تبادرت هذه الذكرى إلى ذهني وأنا أُطالِعُ الصفحةَ الأولى من صحيفة “الأخبار” المُؤيدة ل”حزب الله” في اليوم الذي دخل فيه وقف إطلاق النار في لبنان حَيّز التنفيذ. كان عنوان الصحيفة “صامدون، مُنتصرون”. حتى لو افترضنا أننا مُلتزمون بدونِ تفكيرٍ برؤية “حزب الله” للعالم، فإنَّ الاعتقادَ بأنَّ الحرب التي خاضها الحزب على مدى ثلاثة عشر شهرًا مع إسرائيل تُشَكّلُ بأيِّ حالٍ من الأحوال انتصارًا هو اعتقادٌ وهمي إلى الحدّ الذي قد يطمئن في الواقع أعداء وخصوم “حزب الله”. إنَّ الحزب الذي يشعر بقلقٍ عميقٍ إزاء رَدِّ الفعلِ الداخلي المُحتمَل ضد الصراع العبثي الذي أثارته تلك الحرب هو وحده القادر على تمرير كارثةٍ تاريخية على أنها نجاحٌ ونصر.
مع دخولِ وقف إطلاق النار في لبنان حَيِّز التنفيذ، توقّفَ كثيرون لفحصِ أوجه القصور المُحتملة فيه. لا شكّ أنَّ هناكَ العديدَ من حقول الألغام، ولكن هناك أيضًا حقيقةً لا يُمكن تجاهلها. لقد حدّدت شروط اتفاق وقف إطلاق النار فعليًا ما لم يَكُن بعيدًا من استسلام “حزب الله”، لكن الحزب وإيران قبلا ذلك، مما أظهر إلى حدٍّ ما أنهما على استعدادٍ للتعايش مع تداعياته. وهذا يُخبرنا بشيء.
كانت القضية الرئيسة المُثيرة للجدل هي مطالبة إسرائيل بالسماح لها بالتدخل عسكريًا داخل لبنان إذا انتهك “حزب الله” اتفاق وقف إطلاق النار. لقد فوجئ اللبنانيون برسالةٍ جانبية أميركية-إسرائيلية منحت إسرائيل الحرية في الانخراط في مثل هذا العمل العسكري، بغض النظر عما يُفضّله لبنان أو “حزب الله” أو إيران. الواقع أنه عندما أوصى الفرنسيون اللبنانيين برَفضِ هذا التقويض الوقح لسيادتهم، أوضح وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنَّ الموقف الفرنسي يُعرّضُ اتفاق وقف إطلاق النار للخطر.
الشخصُ الذي فَهِمَ ما كان يحدُث هو رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري. إنَّ المرءَ يستطيع أن يقول الكثير عن بري، ولكن ليس من المُمكن أن نقول عنه إنه أحمق. لا بُدَّ أنَّ رئيس مجلس النواب اللبناني أدركَ بسرعة أنَّ التدميرَ المنهجي للمجتمع الشيعي يُشكّلُ تهديدًا لبقائه السياسي. ولهذا السبب قرّر في أوائل تشرين الأول (أكتوبر)، إلى جانب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، دَعمَ اتفاق وقف إطلاق النار والالتزام ب”تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 ونشر الجيش جنوب نهر الليطاني”. وقد أدى هذا القرار إلى زيارة مفاجئة غير راضية من وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للرئيس بري، الذي أفادت المعلومات أنه لم يكن سعيدًا بقبول بري للقرار رقم 1701. وقد دفع هذا جنبلاط إلى التصريح بعد بضعة أيام: “إن أحد زوار لبنان يريد أن يُعطينا دروسًا في المقاومة. ونحن الذين نستطيع أن نعطيه هذه الدروس، وليس العكس. ولدينا تاريخ غني في هذا المجال”.
إنَّ ما يُشيرُ إليه هذا هو أنَّ بري سعى منذ البداية إلى التوصُّل إلى اتفاقٍ مع المبعوث الأميركي آموس هوكستين، مهما كان الثمن. وعندما رأى أنَّ الأميركيين والإسرائيليين قد توصلوا إلى اتفاقٍ جانبي، أضاف إلى اتفاق وقف إطلاق النار صيغةً تقبل في الأساس ما سعى هذا الاتفاق الجانبي إلى فرضه. واقترح بري أنَّ خطة وقف إطلاق النار تمنح كلا الجانبين الحق في الدفاع عن النفس، وهو ما ينظر إليه الإسرائيليون على أنه حرية عمل لهم في لبنان. ولكن ماذا استفاد اللبنانيون من هذا؟ أولًا، حفظوا ماء وجوههم، الأمر الذي سمح لبري تقليص الاتهامات بأنَّ اقتراحَ وقف إطلاق النار ينتهك السيادة اللبنانية. وثانيًا، اشترى ل”حزب الله” الحق المُحتَمل في الرد على الإجراءات الإسرائيلية، أيضاً تحت بند الدفاع عن النفس.
وبصرفِ النظر عن هذه التفاصيل، لماذا وافق “حزب الله” وإيران على اقتراح هوكستين الذي كان في غير صالحهما؟ حتى عشية وقف إطلاق النار، كان “حزب الله” يواجه وضعًا صعبًا على نحوٍ متزايد، وهو ما سعى الحزب إلى إخفائه بإطلاق أكثر من مئتي صاروخ على إسرائيل في الرابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر). كان “حزب الله” على وشك خسارة بلدة الخيام في القطاع الشرقي من منطقة الحدود، حيث أفاد بعضُ المعلومات إن القوات الإسرائيلية قد تصل إلى نهر الليطاني، وكان يواجه هجومًا إسرائيليًا في البياضة في القطاع الغربي، والذي كان من الممكن أن يفتح الطريق إلى صور. وبينما كان “حزب الله” يقاوم، لم تكن هناك معارضة مُنسّقة من جانبه، لذا كان الأمر مجرّد مسألة وقت قبل أن يُحاصِرَ الإسرائيليون مقاتليه جنوب الليطاني. وفي الوقت نفسه، في أماكن أخرى من البلاد، كان المجتمع الشيعي قد تشرّد بشكل كامل مع توسّع الإسرائيليين في قصف المدن والمراكز السكانية الكبرى.
إنَّ المستقبل يحمل في طيّاته الكثير من الشكوك. من المرجح أن يرفُضَ “حزب الله” نَزعَ سلاحه، ولا توجد أي دلائل تشير إلى أنَّ إيران ستُجبِرُ الحزب على ذلك. وحتى خطاب الشيخ نعيم قاسم في الأسبوع الفائت الذي قال فيه إن “حزب الله” سوف يضع نفسه “تحت سقف اتفاق الطائف” لم يُبشّر بأيِّ شيءٍ مُحدَّد. ولا يستطيع الحزب أن يفعلَ الكثير ضد إسرائيل في المستقبل المنظور، على الأقل لا يستطيع أن يفعل شيئًا قد يؤدي إلى انتقامٍ إسرائيلي ضخم، ولكن هذا ليس المجال الذي سيبذل فيه جهوده في السنوات المقبلة على أيِّ حال. وسوف تكون أولويته إحياء مجتمعه، وإعادة بناء المناطق الشيعية المدمَّرة، وإيجاد علاقة مقبولة مع الدولة اللبنانية والطوائف الدينية الأخرى، مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من قوته.
والأمرُ الأكثر أهمية هو أنَّ “حزب الله” يواجه الآن مجتمعًا لبنانيًا أقل استعدادًا لقبول هيمنته من أيِّ وقتٍ مضى. لقد تدهورت العلاقات بين طوائف البلاد والحزب في السنوات الخمس الماضية، وبالتالي فإنَّ هذا الصراع الداخلي قد يؤدي إلى مزيدٍ من الجمود والتوتّر، أو قد يؤدّي إلى نوعٍ من الحوار مع الحزب حول كل شيء وخصوصًا تسليم سلاحه مقابل الحصول على حصة أكبر من السلطة السياسية في الدولة. ولكن يبدو أننا وصلنا إلى حدود الصيغة التي فرضها “حزب الله” على الحكومات المتعاقبة، وهي ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة. ومن الآن فصاعدًا، سيرفُضُ العديد من الممثلين السياسيين غير الشيعة إدراج المقاومة في هذه المعادلة.
إنَّ جهودَ “حزب الله” لتصوير مصيبته الطائفية الأخيرة على أنها انتصارٌ هي علامةٌ على ما هو آتٍ. لن يتنازلَ الحزب عن أيِّ شيء إذا كان بوسعه مساعدته، لكن هذا يعني تجاهل السياق الذي يجد نفسه فيه. ومن المتوقع أن يُنفّذَ الجيش اللبناني تفويضه على نطاق واسع الآن بعد أن أصبح يتمتّع بغطاءٍ شعبي وسياسي. إنَّ محاولة “حزب الله” العودة إلى ما كان عليه قبل تشرين الأول (أكتوبر) 2023 تتطلّب منه الدخول في مواجهةٍ مع الدولة اللبنانية والجيش ومعظم الأحزاب السياسية في البلاد، مما يزيد من عزلته. ومع انتظار إسرائيل التدخّل عسكريًا ضد أيِّ جهدٍ من جانب “حزب الله” لإعادة أسلحته الثقيلة إلى الجنوب، فقد يجد “حزب الله” نفسه محاصَرًا مرة أخرى في حربٍ جديدة يقف فيها وحيدًا ضد الجميع. قد يكون هذا من قبيل السرديات البطولية، لكنه أيضًا طريق نحو الضعف الطائفي.
النقطة الأساسية هي ما ستقرره إيران. في حين يشيرُ أحد التفسيرات إلى أنَّ طهران ستسعى إلى إعادة “حزب الله” إلى مكانته السابقة، فإنَّ السؤال الأكثر واقعية هو ما الغرض الذي قد يخدمه هذا؟ لقد أدت استراتيجية “وحدة الساحات” المزعومة إلى كارثةٍ ضخمة شهدت فيها طهران تحييد أقوى حليفين لها في قتال إسرائيل، ربما لعقود. إنَّ أيَّ إعادة استثمار في “حزب الله” تتطلّب أولًا إعادة بناء واستعادة ما فقده المجتمع الشيعي، وهو ما قد يكلف مليارات الدولارات التي لا يستطيع الاقتصاد الإيراني المريض توفيرها، وخصوصًا إذا فرضت إدارة ترامب عقوبات جديدة.
بعبارةٍ أخرى، ستحتاجُ طهران إلى إنفاق وتضحية الكثير من أجل إحياءِ استراتيجيةٍ فاشلة. يأتي هذا في وقت تستعدُّ بنية القيادة الإيرانية للانتقال بعيدًا من آية الله علي خامنئي المُسِن، وهو ما من شأنه أن يُولّدَ توقّعات أعلى في إيران، وبالتالي قد يُتَرجَم إلى عدم الاستقرار إذا وعد خليفته بمزيدٍ من الشيء نفسه. في مواجهةِ الخيارات بشأن “حزب الله” التي قد تسبّب استياءً محليًا وتُعرِّضُ هذا الانتقال للخطر، وبالتالي بقاء النظام، فليس من الواضح على الإطلاق أن القيادة الإيرانية ستكون في وضعٍ يسمح لها بإحياء ما كان لديها في لبنان.
إنَّ مزاعمَ النصر التي نسمعها من بعض اللبنانيين هي في جوهرها مُحزنة. ففي نهاية المطاف، كان لبنان وسيظل للأسف دولة من البيادق وأوراق المقامرة في لعبة قوة إقليمية ودولية أوسع نطاقًا. واليوم، خسر العديد من سكان جنوب البلاد والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت كل شيء، ولكن لأيِّ غرض؟ هل كانوا ليعملوا كأكياس رمل إيرانية ضد إسرائيل حتى تتمكّن إيران من حماية نفسها؟ أم أن الأميركيين والإسرائيليين يعقدون ترتيبات خلفية على حسابهم؟ أين يمكننا أن نرى نصرًا هنا؟
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.