حُضُور الوفاء في غياب شوقي
هنري زغيب*
كان ذلك سنة 1973، وكنتُ أُصدِرُ مجلةً على “السْـتِـنْـسِل” ضمن نشاطي صَيْفَئِذٍ عضْوَ نادٍ ثقافيٍّ في بلدة عشقوت الكسروانية.. وجاء يومًا مَن نصحني آخُذُ عددًا إِلى ابن عشقوت المؤَرِّخ الشيخ نسيب وهيبة الخازن ففعلْتُ.. وفي زيارتي تلك، قرأَ الشيخ نسيب بعض كتاباتي في “المجلة” وافتتاحيَّتي كـ”رئيس تحرير” فبادرني: “وينَك؟ ليش ما بتنْشُر عند شوقي”.. لم أَفهم مَن هو شوقي فأَجابني مستغربًا: “ولو؟ شوقي أَبي شقرا”. وإِذ اعترفتُ بخجَلٍ أَنني لا أَعرفُه شخصيًّا، اصطحبَني صباحَ اليوم التالي إِلى “النهار” وقدَّمَني إِلى شوقي أَبي شقرا بأَنني “كاتبٌ واعد”.. صدَّقَهُ شوقي ورحَّب بما أُرسله إِليه “صالحًا للنشْر”.. وكان أَولَ ما “صلَحَ للنشر” مقالٌ وجدانيٌّ عن حريقٍ كبيرٍ شبَّ في أَحراج حريصا قُبالة بيتي، نَشَرَه شوقي وعَنْوَنَهُ: “على خَدِّنا شامةٌ سوداء”.. اتصلْتُ به شاكرًا فشجَّعني على النشْر بصوتٍ وَدود.. بعد أَيامٍ زرتُ “غلواء” زوجة الياس أَبو شبكة لحوارٍ معها موجِعٍ أَن تكون مُهمَلةً وحيدةً، أَرسلْتُه إِلى شوقي فَعَنْوَنَه: “الياس أَبو شبكة: إِنهم لا يحترمونَك”..
ذاك المقال سنة 1974 (قبل 50 سنة) سجَّلَ بدايتي المهنية في “النهار” وصداقتي مع شوقي.. أَخذ يُكَلِّفني تغطيةَ بعض الأَنشطة الثقافية، ويصحِّح هفواتٍ لي تحريرية (منها دعوةٌ بالفرنسية إِلى مؤْتمرٍ ترجمتُ مكان انعقاده بــ”شارع دمشق” عوض “طريق الشام”)، ويصوِّبُ لي تراكيبَ لأَجلها كنتُ أَحتفظُ بنسخة من مقالي حتى إِذا صدر أُراقب ما عدَّلَه شوقي بقلمه الأَحمر..
لم يكتفِ شوقي بالنشْر فَحَوَّل الغرفةَ المحاذيةَ مكتبَه في “النهار” قاعةَ محاضراتٍ وعزْفٍ موسيقيٍّ ولقاءِ نخبةِ كُتَّابٍ لبنانيين وضُيُوفٍ عربٍ في لبنان، فجعَلَ القسْمَ الثقافي في “النهار” ورشةً فكرية ثقافية فريدة. وفي تلك الجلسات تَسنَّى لي أَن أَلتقي كبارًا كنتُ أَقرأُ لهم أَو عنهم وأُتابعُهم عن بُعد..
ويكون أَن يخطفني سليم اللوزي إِلى “الحوادث” ثلاث سنوات (1976-1979) بتسهيل الصديق كابي طبراني.. ولم أَشَأْ أَن أَنخطف من “النهار” فبقيتُ أُرسل إِلى شوقي مقالاتٍ أُوَقِّعها “هاني وردية” جامعًا حروف اسمي إِلى اسم التي كانت فترتئذٍ رفيقةَ العمر..
اشتدَّ الوضعُ الأَمني خطَرًا بين رئَتَي بيروت فَفَتَحَ شوقي بيتَه في الأَشرفية (حيّ فَسُّوح) لاستقبال المقالات والزوَّار، وتحوَّلَ بيتُه خليةً ثقافية نابضة كما كان مكتبُه والغرفةُ حدَّ مكتبه في الحمراء..
حين غادرتُ لبنان إِلى أَميركا (1988) لم أَتوقَّفْ عن إِرسال مقالاتي بتوقيع اسمي تُرادفُه عبارةُ “المنْأَى الموَقَّت – بحيرة الليمون – فلوريدا”، فكان شوقي يَنشرُها في صدر الصفحة بمحبةٍ كثيرة.. ولدى عودتي من أَميركا بعد ست سنواتٍ، واظبتُ على كتابتي في “النهار” حتى خطَرَ لي أَن تكون لي في “النهار” زاويةٌ أُسبوعية استشَرتُ بشأْنها شوقي فوافق. هكذا وُلِدَت، على يد شوقي، زاويتي الأُسبوعية “أَزرار” وصدر مقالُها الأَول صباح الثلثاء 1 تشرين الأَول/أُكتوبر 1996 عَنْوَنهُ شوقي: “لَوَّحَ لهم سعيد عقل”. وما زالَت “النهار” تحتضنُ زاويتي “أَزرار” بدون تَوقُّفٍ منذ 28 سنة، وها بلَغَت صباح اليوم 1334 مقالًا..
بلى: كلُّ تاريخي أَعلاه في “النهار” أَدين به لشوقي أَبي شقرا..
في غيابه اليوم: أَقفُ بانحناءةِ وفاءٍ أَمام حضوره الدائم في مسيرتي الأَدبية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).