الجزائر تحتاجُ إلى تحوُّلٍ اقتصادي: مع إصلاحاتٍ صحيحة، يُمكن أن تصبح أكثر من مجرّدِ دولةٍ نفطية

الجزائر عند مُفترق طرق. لدى الرئيس عبد المجيد تبون فرصةٌ لطرحِ وتنفيذِ رؤيةٍ طموحةٍ وموثوقة للتحوّل الاقتصادي. ويتعيّن عليه أن يستغلَّ هذه الفرصة.

شركة سوناطراك: ما زالت الدولة تعتمد عليها للإنفاق.

رابح أرزقي*

في 14 أيلول (سبتمبر)، صدّقت المحكمة الدستورية الجزائرية على إعادة انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون لولايةٍ ثانية وأخيرة في منصبه. في عهد تبون، اتخذت الجزائر خطواتٍ لتحويل اقتصادها، وأحرزت تقدّمًا كبيرًا في مجالات البنية التحتية والإسكان والزراعة. لكن اقتصادَها ما زالَ يفتقرُ إلى التنوُّعِ ومعدّلات البطالة مرتفعة. في العام 2023، بلغ معدل البطالة بين الشباب 31 في المئة، وفقًا لمنظمة العمل الدولية الأميركية.

تاريخيًا، عانى اقتصاد الجزائر لسببين رئيسيين: عقودٌ من الاشتراكية والاعتمادُ على عائداتِ الهيدروكربون. تركَ هذا المزيجُ الجزائر عالقةً بين اقتصادٍ تُديرهُ الدولة واقتصادِ السوق. كما أدّت سلسلةٌ من حملاتِ مكافحة الفساد على مدى عقود إلى جعلِ الكثيرين من روّاد الأعمال حذرين من المخاطرة والابتكار.

لا يمكنُ الإنكار بأنَّ الجزائر دولةٌ نفطية. إنها تمتلكُ عاشر أكبر احتياطيات مؤكّدة من الغاز الطبيعي وثالث أكبر موارد الغاز الصخري غير المُستَغلّة على مستوى العالم، وهي أيضًا رابع أكبر مُصَدّر للغاز في العالم، وفقًا لإدارة التجارة الدولية الأميركية. وقد وجدت شركة سوناطراك، شركة النفط الوطنية الجزائرية، أنَّ ثُلثي المساحة الجزائرية المُحتَمَلة لا تزال غير مُستَكشفة. في العام 2023، شكّلت صادرات الجزائر من النفط والغاز الطبيعي 20 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، و90 في المئة من صادراتها، و60 في المئة من عائداتها المالية.

لكن الجزائر هي أيضًا دولةٌ ذات إمكاناتٍ هائلة غير مُستَغَلّة – ومع إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ صحيحة، يمكن أن تصبحَ أكثر من مجرّد دولة نفطية.

في حين أنَّ قطاعَ الهيدروكربون في الجزائر كان يُغذّي الاقتصاد لعقود، فإنَّ طبيعةَ القطاع كثيفة رأس المال لم تفعل الكثير للمساعدة على خلق فُرَص عمل لائقة. للمضي قدمًا، تحتاج الجزائر إلى إعادةِ إحياءِ ثقافة ريادة الأعمال، وجذب الاستثمار، والحَدّ من اعتمادها على الهيدروكربونات. الزراعة، والتعدين، والطاقة المتجددة، والخدمات اللوجستية، والتصنيع، والسياحة، والخدمات الرقمية كلها قطاعات يُمكِنُ للجزائر أن تتفوّق فيها.

بعد أن حصلت الجزائر على استقلالها عن فرنسا في العام 1962، فشلت سياستها الصناعية التي تهدُفُ إلى تطويرِ الصناعة الثقيلة إلى حدٍّ كبير وأصبحت مؤسّساتها الاقتصادية تعتمدُ على صناعة الهيدروكربون. منذ ذلك الحين، أصبحت سوناطراك حجر الزاوية في اقتصاد البلاد. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، شكّلت عائدات الهيدروكربون حوالي 60 في المئة من عائدات موازنة الحكومة الجزائرية في العام 2023 – مما يجعل الإنفاق الحكومي مُتقلّبًا مثل سوق النفط، وهو أمرٌ شكّلَ تحدّيًا للبلاد. في أعقابِ أزمة ميزان المدفوعات في تسعينيات القرن العشرين، فَرَضَ صندوق النقد الدولي برنامجًا جذريًا لتعديل المالية العامة يهدفُ إلى فتحِ الاقتصاد الجزائري. جاء هذا في بداية “العقد الأسود” للجزائر، عندما كانت البلاد تكافح الإرهاب. أدت التخفيضات الشديدة في الموازنة وانخفاض قيمة الدينار الجزائري بشكلٍ كبير إلى تفاقم التضخم، ما جعل الفترة المُظلمة أصلًا أسوَأ.

كان الخوفُ من الخضوعِ لإملاءاتٍ دولية أخرى بمثابةِ مُحرّكٍ مُهمٍّ للإدارة الاقتصادية الحكيمة للجزائر منذ ذلك الحين. وحتى الآن، بالكاد تتحمّل الجزائر أي ديون خارجية. وهذا نتيجة لسياسة استمرّت لأكثر من عقدين للحد من الاعتماد على أسواق رأس المال الدولية.

أضف إلى ذلك الإرث المُعقّد لأكثر من قرنٍ من الاستعمار الفرنسي، والذي جعل السيادة الاقتصادية مبدأً أساسيًا لكيفية إدارة الجزائر للأعمال التجارية. تلعبُ الدولة دورًا شاملًا في الاقتصاد، حيث تقوم باستمرار بإنقاذ الشركات المتعثّرة المملوكة للدولة. وقد تَشَكَّلَ قطاعٌ غير رسمي كبير ردًّا على الإفراط في التنظيم وغيره من الحواجز أمام إنشاء الشركات والأعمال. وتشيرُ التقديرات إلى أنَّ القطاع غير الرسمي يُشكّلُ حوالي 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي للجزائر و37٪ من قوّتها العاملة. وقد اختارَ عددٌ كبيرٌ جدًا من الجزائريين الموهوبين مغادرة البلاد في ظلِّ هذه الظروف، ما أدّى إلى هجرة الأدمغة. وتُعتبر مهمة عَكسِ ووقف هجرة هذه الأدمغة مهمةً شاقة بالنسبة إلى الجزائر.

إنَّ مسارَ البلاد نحو الرخاء يتطلّبُ إيجادَ توازن بين السيادة الاقتصادية والانفتاح على التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي. إنَّ الجزائر قادرةٌ على تحقيق شكلٍ هجين من الرأسمالية الحكومية في قطاعاتٍ رئيسة مثل الطاقة والزراعة وصناعة الدفاع، مع فتح قطاعاتٍ أخرى مثل التصنيع والنقل والسياحة والتمويل للاستثمار الأجنبي المباشر، تمامًا كما فعلت الصين. إنَّ التحريرَ الاقتصادي الكامل ليس مُرَجَّحًا ولا مرغوبًا فيه بالنسبة إلى الجزائر.

إنَّ التحوّلَ الاقتصادي في الجزائر يعتمدُ على ثلاثِ ركائز أساسية.

أوّلًا، تحتاج الجزائر إلى صياغةِ رؤيةٍ للتحوُّلِ من خلال مؤشّراتِ أداءٍ رئيسة. وسوف تساعد هذه المؤشرات الحكومة على تقييمِ تقدُّمها في ضوء الأهداف المحدَّدة، على غرارِ خطة رؤية المملكة العربية السعودية 2030. وتهدف الخطة إلى تنويع اقتصاد البلاد والحدّ من اعتمادها على النفط. وكجُزءٍ من هذا الجهد، تعهّدت الحكومة السعودية بمجموعةٍ واسعة من الإصلاحاتِ وبَنَت مشاريع بنية تحتية ضخمة. وحتى الآن، تم تمويلها حصريًا من قبل الدولة. ويتعيّنُ على الجزائر أن تُرَكّزَ بشكلٍ أكبر على تعبئة وتشجيع استثمارات القطاع الخاص.

إنَّ أُفقَ خطة الجزائر 2030 ينبغي أن يكونَ في المستقبل غير البعيد، ومن الناحية المثالية في السنوات الخمس المقبلة. ويمكن أن تضع خارطة طريق للإصلاحات الاقتصادية الكلية والبنيوية في القطاعات الرئيسة بما فيها الطاقة والتعدين والزراعة والتكنولوجيا الرقمية والتمويل. ويشير العديد من المنصّات الناشئة في مجال مشاركة الرحلات والتجارة الإلكترونية إلى إمكاناتِ الجزائر لتحديث اقتصادها. مع ذلك، في عالم التمويل، كانت السلطات الجزائرية مُتردّدة في فتح القطاع المصرفي والسماح للتكنولوجيا المالية بالتجذّر.

إنَّ صياغةَ أهداف الجزائر 2030 بوضوح، تُتيحُ للقادة فرصةَ بناءِ رؤيةٍ مُشتَركة للتحوّلِ الاقتصادي بدعمٍ من مواطنيهم. ومن شأنِ القيام بذلك أن يجعلَ البلاد أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب أيضًا. وينبغي للسلطات الجزائرية أن تتبنّى المناقشة حول السياسة الاقتصادية، بما في ذلك من خلال مراكز الفكر المستقلة. ولكنَّ عددَ هذه المراكز قليلٌ للغاية، وذلك بسبب سياسات الحكومة التي تُثبطها أو تُحظّرها. والسماح لمثل هذه المؤسّسات بإنشاءِ ونشر الأفكار من شأنه أن يُوفّرَ للصحافيين وغيرهم المعلومات التي يحتاجون إليها لمحاسبة الحكومات. ولا بدَّ أن يكونَ توفيرُ الفرصة لحشد السكان وراء رؤيةٍ جديدة جُزءًا لا يتجزّأ من أجندة الجزائر التحويلية.

ثانيًا، ينبغي للجزائر أن تُفكّرَ في إنشاءِ صندوقِ ثروةٍ سيادي من عائدات الهيدروكربون والمعادن الأخرى. ومع سعي الجزائر إلى مزيدٍ من الانضباط المالي والشفافية، يُمكنُ للبلاد تجميع المدّخرات في صندوق الثروة السيادي الخاص بها. وفي المقابل، يمكنها استثمار هذه المدّخرات في أصولٍ أجنبية ذات أهمية استراتيجية للبلاد، مثل قطاعات الطاقة أو الأعمال الزراعية أو التكنولوجيا. ولن يساعدَ صندوقُ الثروة السيادي الجزائر على تحقيقِ عوائد مرتفعة نسبيًا وتعريفها بالأسواق الدولية فحسب، بل سيساعد أيضًا على نقل التكنولوجيا وتوطين الإنتاج من خلال الاستحواذ على حصصٍ في الشركات التي تستثمر في البلاد، تمامًا كما استحوذت بوتسوانا على حصة 15٪ في منجم “دي بيرز” (De Beers).

لقد أضاعت الجزائر فُرصةَ بناءِ صندوقِ ثروةٍ سيادي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما وصلت أسعار الطاقة إلى مستوياتٍ قياسية مُرتفعة بسبب الطلب المتزايد من الصين. وعلى الرُغم من حالة عدم اليقين المُحيطة باتجاه أسعار النفط، فقد تمكّنت الجزائر من تجميع احتياطيات دولية صحّية بلغت 69 مليار دولار أميركي في العام 2023. والواقع أن التكلفة البديلة المترتّبة على الاحتفاظ بمستوياتٍ كبيرة من الاحتياطيات مرتفعة ليس فقط في العائدات ــإذ تُستثمَرُ الاحتياطيات في أوراقٍ مالية مُنخفضة المخاطر ومنخفضة العائد ــ بل وأيضًا في ما قد تكسبه الجزائر من التعامل مع الاقتصاد العالمي. وفي خطوةٍ واعدة، أعلنت الحكومة الجزائرية هذا الشهر أنها ستستأنفُ الاقتراضَ الخارجي، بما في ذلك من المؤسّسات المتعددة الأطراف والثنائية، بعد عقود من الحظر شبه الكامل.

ثالثًا، ينبغي للجزائر أن تُنشئ مناطق اقتصادية خاصة لجذب المستثمرين الذين تشتدُّ الحاجة إليهم وخلق فُرص العمل. ويمكن للمناطق الاقتصادية الخاصة أن تساعد على تجاوز البيروقراطية المعقّدة ــ وهو ما تشتهر به الجزائر. ومدينة شنتشن في الصين مثالٌ على نجاح إنشاء منطقة اقتصادية خاصة: فقد ازدهرت بيئة الأعمال التي كانت تعاني من نقص في الماضي بمجرد تعزيز الحوافز الضريبية وحرية السوق.

إنَّ خطة الجزائر 2030 من شأنها أن تُوَضِّح الإصلاحات اللازمة لتبسيط الاستثمار في البلاد. ولكن تغيير هذه المعايير سوف يستغرق وقتًا طويلًا. ومن شأن إنشاء مناطق اقتصادية خاصة أن يُبرِزَ الانفتاحَ على المستثمرين الأجانب وقد يُحفّزُ القطاعات الرئيسة مثل السياحة والخدمات اللوجستية، وهو ما من شأنه أن يخلقَ العديد من فرص العمل.

الجزائر عند مفترق طرق. ولدى تبون فرصةٌ لطرحِ وتنفيذِ رؤيةٍ طموحة وموثوقة للتحوّل الاقتصادي. ويتعيّن عليه أن يستغلَّ هذه الفرصة.

  • رابح أرزقي هو أستاذ ومدير أبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وزميل بارز في كلية هارفارد كينيدي. شغل سابقًا مناصب قيادية عليا في البنك الأفريقي للتنمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @rabah_arezki

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى