السياسةُ الجديدة للتنميةِ الرقمية في الولايات المتحدة تَفتَقِرُ إلى شيءٍ ما
تُشَكِّلُ التنمية الرقمية خطَّ مواجهةٍ عالمي بالغ الأهمية وغير مُقَدَّر. وعلى الرُغم من المكاسب في الاتصال في جميع أنحاء العالم، لا يزال نحو 2.7 ملياري شخص يفتقرون إلى الوصول إلى الإنترنت.
غوردون لافورج*
إذا كانَ من المُفترَض أن تُعزّزَ المساعداتُ الدولية المصالحَ الوطنية للولايات المتحدة، فمنَ المُشَجّع أنَّ السياسة الرقمية الجديدة التي أصدرتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) الأسبوع الماضي تؤطِّرُ التنمية الرقمية صراحةً باعتبارها أداةً لمواجهة الصين. في نهاية المطاف، تُشكّلُ البنية التحتية الأساسية الرقمية أهميةً بالغة لتعزيز رؤية واشنطن للنظام العالمي، وبالتالي فإنَّ دَعمَ التحوُّلات الرقمية وتطوير الأسواق الرقمية ينبغي أن يكونَ أولوية للسياسة الخارجية الأميركية.
ولكن في حين تضرب السياسة الجديدة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية على الوتَرِ الصحيح وتَعكُسُ فهمًا قويًّا لسياق ومخاطر التكنولوجيا العالمية، فإنها تظلُّ محدودةً إلى حدٍّ ما في نطاقها، والأهم من ذلك في تمويلها. وعلى الرُغم من التزامها المُعلَن بتشكيل سياسة تكنولوجيا عالمية بشكلٍ أكثر استباقية، تُواصِلُ واشنطن التقليلَ من أهمّية الاستثمار في التنمية الرقمية كأداةٍ للسياسة الخارجية.
إنَّ التنميةَ الرقمية تُشَكّلُ خطَّ مواجهةٍ عالميًا بالغ الأهمية وغير مُقَدَّر. وعلى الرُغم من المكاسب في الاتصال في جميع أنحاء العالم، لا يزال نحو 2.7 ملياري شخص يفتقرون إلى الوصول إلى الإنترنت. ومن المرجح أن تتفاقم هذه الفجوات، التي كانت تُسَمّى في السابق “الفجوة الرقمية”، مع صعودِ الذكاء الاصطناعي، والتركيزات الجغرافية المتزايدة الصارخة للقوة الحسابية وقوة البيانات.
إن البلدان في ما يُدعى “الجنوب العالمي” تُدرِكُ هذه التفاوتات وتتوقُ إلى معالجتها، وترى إمكانية تحقيق “قفزة” في التنمية من خلال تخطّي المراحل الوسيطة لتبني تقنيات الجيل التالي الآن. ومع ذلك، ظلّت واشنطن لسنواتٍ على الهامش إلى حدٍّ كبير بينما قامت بكين باستثماراتٍ مُستَهدِفة في البنية التحتية الرقمية من خلال مبادرة طريق الحرير الرقمي، وهي محور استراتيجية التنمية الدولية الصينية. لقد بنت الشركات الصينية أنظمة بيئية رقمية في جميع أنحاء “الجنوب العالمي”، بكاميرات مراقبة، وبرامج مدن ذكية، وشبكات الجيل الرابع (4G) والجيل الخامس (5G)، والبنية التحتية الأخرى. غالبًا ما تكون هذه الأنظمة البيئية عرضةً للتجسّس، واستخراج البيانات، والمراقبة الحكومية، والرقابة، والحوادث السيبرانية الخبيثة. إنها تُعزِّزُ رؤيةً استبدادية للمجال الرقمي لا تضرُّ بحياة الناس في بلدان “الجنوب العالمي” فحسب، بل تتعارَض أيضًا مع مصالح الولايات المتحدة.
إنَّ السياسة الرقمية الجديدة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية هي جُزءٌ من جُهدٍ أوسع لمواجهةِ هذا الاتجاه من خلال الترويج بشكلٍ أكثر مباشرة لرؤية الولايات المتحدة للإنترنت. إنَّ هذه السياسة تتبعُ إلى حدٍّ كبيرٍ المسارَ المرسوم في استراتيجية وزارة الخارجية الأميركية السيبرانية “التضامن الرقمي”، والتي تعتمد على تعزيز التحالفات، ودعم الشراكات، وبناء القدرات المحلية لتطويرِ أنظمةٍ بيئيةٍ رقميةٍ آمنةٍ ومفتوحةٍ تحترمُ حقوقَ الإنسان أيضًا. وتدعو إلى التحوّلات الرقمية التي “تضع الناس في المقام الأول”، والتي تنطوي على “تحسين قدرة الناس في كلِّ مكان على استخدام التكنولوجيا لتلبية احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية”. ومن خلال التأكيد على أنَّ الخدمات الرقمية وحَوكمة البيانات يجب أن تُعطي الأولوية لتنمية الشعوب ورفاهيتهم، تُقدّمُ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بديلًا واضحًا من النموذج التكنولوجي السلطوي الذي يضع الحكومات الوطنية في أساسه.
في سعيها إلى تحقيق هذه الأهداف، تُخطّط الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لتعزيز الشراكات مع مجموعةٍ واسعةٍ من أصحاب المصلحة في البلاد، بما في ذلك الوكالات الحكومية وجماعات المجتمع المدني والناشطين والشركات الناشئة المحلية والشركات الصغيرة. وتنصُّ السياسة على أنَّ الشركاء المحليين يجب أن يُعامَلوا باعتبارهم “أقرانًا وليسوا مُستفيدين” وأن المبدأ الأوَّل للتنفيذ يجب أن يكون فَهمَ السياق الرقمي المحلي بشكلٍ كامل. وهذا التأكيد مُنعِشٌ وجيد، نظرًا لأن سياسة التنمية الأميركية كانت معروفة تاريخيًا بمعاملة الشركاء المحليين باستخفافٍ وفَرضِ حلولٍ غير مُناسِبة أو حلول واحدة تُناسبُ الجميع والتي لها تأثيرٌ ضئيلٌ أو سلبي.
إنَّ النهجَ الذي تتقدَّمُ به الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لبناءِ النُظُمِ البيئية الرقميّة مَدروسٌ على نحوٍ مُماثِل، ويهدفُ إلى تركيز الجهود على البنية االتحتية الأساسية – والتي يتم تعريفها على نطاقٍ واسعٍ لتشمل الحوكمة ورأس المال البشري – بدلًا من التطبيقات الفردية أو قِطَعِ البرمجيات. كما يُحدّدُ على وجه التحديد دعم تطوير البنية التحتية الأساسية العامة الرقمية –مثل أنظمة الهوية والمدفوعات والسجلات الرقمية– كمجالٍ مُستهدَف، وهي طريقةٌ ذكية لتعظيم التأثير، نظرًا للانتشار المتزايد لهذه الأنظمة في جميع أنحاء “الجنوب العالمي”.
من الواضح أنَّ هناكَ الكثير مما يثير الإعجاب في السياسة الرقمية الجديدة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ولكن في حين أنَّ طموحاتها وبعض وصفاتها السياسية المحددة دقيقة، فإنَّ وسائل التنفيذ لا تزالُ قاصرة.
من ناحيةٍ أخرى، يبدو أن التخصيص المالي الذي يدعمُ الطموح غير كافٍ إلى حدٍّ كبير. فقد قالت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إنها ستستثمر 14.5 مليون دولار لتنفيذ السياسة، وهو ما يمثل قطرة في دلوٍ من إجمالي مواردها الميزانية البالغة 51.7 مليار دولار. وبالمقارنة، أنفقت الوكالة المبلغ نفسه تقريبًا على برنامجٍ لتحسين إعادة التدوير في أربع دول آسيوية. وهذا المستوى الضئيل من الاستثمار يعني أنَّ السياسة الرقمية للوكالة الأميركية للتنمية الدولية من المرجح أن تنتهي إلى أن تكون لفتةً رمزيةً ذات تأثير عمليٍّ ضئيل.
لتنفيذ رؤيتها، ستعتمد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى حدٍّ كبير على زيادة خبرتها وقدراتها الرقمية الداخلية. وتقول الوكالة إنها ستوظِّف ستة مسؤولين آخرين عن التنمية الرقمية ومتخصّصين رقميين لكلِّ مكتبٍ إقليمي مُتخصِّص في مواضيع محددة تابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بالإضافة إلى 15 موظفًا لديها حاليًا. لكن هذا لا يزال جُزءًا ضئيلًا من المبلغ المطلوب لمنظمة مُكَلَّفة بتعزيز التنمية في 100 دولة شريكة، حتى لو قامت الوكالة بدمج الذكاء الاصطناعي وغيره من الأدوات الرقمية المتقدمة في عملياتها، كما هو مخطط له.
تُمثّلُ هذه العيوب المادية فرصةً ضائعة. إن المجال الرقمي يُشكّلُ ناقلًا حاسمًا لتعزيزِ نظامٍ عالمي مفتوح ومترابط، والتنمية الرقمية تشكّل أداةً فعّالة نسبيًا من حيث التكلفة في السياسة الخارجية لتعزيز العلاقات مع بلدان “الجنوب العالمي” التي تزن علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين بشكلٍ عملي. بعبارةٍ أخرى، فإن سياسة التنمية الرقمية المكتملة من شأنها أن تُعزّزَ هدفَ تعزيز التضامن الرقمي.
وكما توضح وثيقة الاستراتيجية السيبرانية الأخيرة لوزارة الخارجية الأميركية، فإنَّ هذا الهدف أصبح أكثر أهمية في ضوءِ المركزية المتزايدة للذكاء الاصطناعي والتهديدات المتزايدة التي تُشكّلها الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على النظام البيئي الرقمي. وقد اتُّهِمَت بكين بالفعل بتعطيل الاتصال بتايوان، وكما أبرزت مقالة حديثة في مجلة الإيكونوميست، فإنَّ التجسّسَ والتخريب عبر الكابلات البحرية آخذان في الارتفاع.
الحقيقة الصارخة هي أنَّ الولايات المتحدة لا تزال مُتخَلِّفة في لعبة التنمية الدولية. ففي السنوات الأخيرة، فشلت واشنطن في الظهور في أفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، في حين تقدّمت الصين بقوة بمبادرات التنمية التي تُعزّزُ مصالحها الاقتصادية والسياسية في جميع المناطق الثلاث. والآن تنظر اقتصادات نامية عدة إلى بكين باعتبارها زعيمةً عالمية أكثر قدرة على تقديم المساعدات الإنمائية من واشنطن.
ويُظهِرُ إطارُ ومحتوى السياسة الرقمية للوكالة الأميركية للتنمية الدولية أنَّ صنّاعَ السياسات في الوكالة يفهمون هذه الحقائق ويُدرِكون الحاجة إلى التعامل مع “الجنوب العالمي” بشكلٍ أكثر تفكيرًا وجدية. ولكن التمويل المحدود لهذه السياسة ونطاق تنفيذها أمران مُحبِطان. لقد أحرزت الولايات المتحدة تقدُّمًا، ولكن إذا حكمنا من خلال هذه السياسة، فإنَّ فهمها لكيفية أن تكون التنمية الدولية أداةً للتنافس مع الصين وتعزيز النظام الدولي المفتوح والشامل لا يزال محدودًا للغاية.
- غوردون لافورج هو محلّل سياسي كبير في برنامج السياسة الكوكبية في مؤسسة نيو أميركا. وهو أيضًا عضو هيئة تدريس زائر في كلية ثندربيرد للإدارة العالميةفي بجامعة ولاية أريزونا وعضو هيئة تدريس خارجي في أكاديمية قيادة التنمية في جامعة ستانفورد.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.