أَيُّها العربي الأخير!

عبد الرازق أحمد الشاعر*

ألوانُ البيارق مُخادِعة، فلا يَغُرَّنَك عزيزي القارئ المُتشابِه منها، ولا تظنَّنَ أنَّ ثمّةَ وشيجة بين عَلَمٍ وآخر لمجرّد أنَّ الأيدي التي تقبضُ على السواري تتشابه في اللون أو العِرق أو تحمُلُ فصيلةَ الدمِ نفسها… ولا تُصَدِّق التاريخ، أو تقف عند حدود المروءة القديمة وأنتَ تشدُّ أستارَ الأخوّة مُستَجديًا يدًا حانية أو كتفًا تميلُ عليه وتبكي… فالتاريخُ يَكذِب، والجغرافيا تُجامِل، حتى البلاد التي امتلأت أظافرك اللبنية بترابها وأنتَ تخطُّ حروف وطنيتك الأولى يُمكِنها أن تتنكَّرَ لكَ وتُبطِلَ النسب. فلا تَمشِ فوق تربتها مرحًا، ولا ترفع رأسك عاليًا لأنك لست أكثر من عنقٍ ينتظرُ الحصاد.

لا يُمكنك أن تُغطّي عريَك اليوم بأوراقِ الانتصاراتِ القديمة، ولا أن تواري سوأتك بانتماءٍ غير مؤكّد إلى سلالةٍ لم تَعُد تُشبِهها في شيء. عليكَ أن تقفَ مُنتَصِبًا بأصابع مَشدودة فوقَ حاجبك الأيمن بحيث لا تتجاوزُ كفّك اليسرى خيط سروالك المُهترئ وأن تملأ الفراغ بصيحتك الحماسية القديمة “أمة عربية واحدة” من دونِ أن تشعُرَ بالملل كالعادة، ومن دون أن تُفكِّرَ في ما تعنيه تلك الكلمات – إن كانت تعني شيئًا أبدًا.

ويُمكنكَ أن تُمارِسَ حياتك بشكلٍ روتيني مقيت من دون أن تسألَ نفسك إن كان ثمّةُ طريق في آخر نفق البؤس الذي تقودك إليه خطاك… لكن، إياكَ أن تلتفتَ لترى أثر قدميك فوق الرمال، لأنكَ ستَكتَشِفُ أنكَ مجرّد ظلٍ أسود فوق بقعةٍ غير مُبارَكة، وأنه لن ينبت في أثرك إلّا الحنظل. لكن، لا تَبتَئس يا عزيزي، فكلُّنا نُمارسُ هذا اليأس باقتدار، ونطأ جميعًا أحلامنا ونحنُ في طريقنا إلى المقبرة العربية الكبرى التي تتسع لكلِّ المواطنين الشرفاء.

الوعي لعنةٌ كُبرى، فلا تقف في منتصف الطريق إلى الهاوية لتُراجِع خيباتك أو تحصي انكساراتك، ولا تَمُدَّنَ عينيك إلى أُناسٍ يغرسون عظامَ نخوتهم في حقولِ الألغام لينبت غدٌ يليق بأطفالهم ذات صباح. زاحِم بمَنكِبَيك وانخَس بمَرفِقَيك مَن يُحاولُ اجتياز دورك في طابور الخبز والدواء والمواصلات، ولا تَسمَحَنَّ لأحدٍ أن يسبقكَ إلى الخيبة، فرُبَّ خيبةٍ أنبتت سَبعَ قنابل، وعليك أن تنهضَ مُبكِرًا، فالفأرُ الذي يصلُ إلى الجبن أوّلًا يكتنزُ ويسمن، وأنتَ جديرٌ بكلِّ دهنٍ وشحم.

“بلادُ العربِ أوطاني” شعارٌ أجوف أثبتت الوقائع بطلانه، فبينكَ وبين الجارِ العربي أسلاكٌ وتأشيراتٌ وقاعاتُ تفتيش. بينك وبين العربي حدودٌ مُتنازَعٌ عليها، وثارات لا تهدأ، ودسائس حَفَظَ التاريخ بعضها وأعرَضَ عن بعض. بلادُ العرب يا صديقي لحاملي تأشيراتِ “شينغِن” وجوازات السفر الحمراء، وليست لحاملي البشرة البرونزية أو السمراء، فلا تظنَّنَ اللغة وحدها كلمة مرور تفتح أمامك صالات المسافرين وقلوب أهل الجوار الطيِّبين. ولا تصدِّقنَ أنَّ كلَّ العرب أخوة كما لقنتك كتبك العتيقة غير النزيهة وغير المحايدة، وإلّا كيفَ تُفسّرُ أنك وحدك رُغمَ كلِّ هذه الحشود؟

كُن صريحًا أمامَ نفسكَ وأنتَ تُشاهد نشرات محطة “الجزيرة” المُخَضَّبة بدماءِ الأشقّاء، وكُن صادقًا وأنتَ ترى الأحمر مُوزَّعًا فوق كلِّ الشاشات وعلى كلِّ المنصّات، لكن إيّاكَ أن تسألَ عن الأيدي التي موَّلت والأقلام التي وَقَّعت والأموال التي أُنفِقَت وراء الستار. تَغافَل كثيرًا وتَظاهَر بأنكَ تُصدِّقُ جوقةَ المُنتَفِعين الذين لم يعودوا يكترثون بتوثيقِ أكاذيبهم أو تبريرِ الأخطاءِ التي يقعون فيها؛ مَن يهتمّ على أيِّ حال؟ ومَن يهتَمّ بمَن يهتم في النهاية؟ ألم أقُل لكَ أنَّ الوَعيَ لعنة؟

فاصلٌ، ولن تستطيعَ بعده أن تُواصِل. فالتنّين الذي كان يُطلقُ ألسنةَ اللهب في البلاد البعيدة قد صارَ أقرب إليك من شراك نعلك، وها هو يُحاصِرك بأعلامك ولغة قبيلتك، ويطعنك من الخلف والأمام بسيفٍ عربيٍّ مصقول. تحتاجُ إلى مُفرَداتٍ جديدة تتناسب مع واقعك المتأزّم، ولغةٍ لم تَرِد في كُتُبِ التاريخ القديمة، وخرائط أكثر تفصيلًا، وأعلامٍ ذات ألوان أصدق. وتحتاج أن تعرفَ قبل أن تموت ملامح العدو الذي سيطعنك ويُرديك ويمثل بجثّتك بعد موتك، وأن تسأله بأيِّ ذنبٍ ستُقتَل. تحتاج أن تعرفَ مَن يُحاربكَ ومَن يَطعنكَ في ظهرك المُحدَودب، فتلكَ أبسطُ حقوقِ القتيل.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى