لبنان: “الجماعة الإسلامية” تَرسُمُ مَسارَها الخاص وتُقَسِّمُ أهلَ السُنّة
مع استمرار الجماعات المسلحة اللبنانية في قتال إسرائيل، تظهر الانقسامات بين أهلِ السُنّة حولَ هَويَّتهم السياسية.
محمّد فوّاز*
هزَّ الهجومُ الإسرائيلي على غزة، الذي شنّته إسرائيل ردًّا على عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، إلى جانبِ فَتحِ “حزب الله” لاحقًا لجبهةٍ عسكريةٍ محدودة مع شمال إسرائيل دعمًا للفلسطينيين، المَشهَدَ السياسي السُنّي في لبنان.
ولعلَّ المثال الأكثر وضوحًا على هذا هو القرار الذي اتّخذته “الجماعة الإسلامية”، وهي حزبٌ سياسي إسلامي سنّي في لبنان، بتبنّي خطٍّ سياسيٍّ يتعارَضُ مع خطِّ المؤسّسة السُنّية وتوجُّهاتها. لم تُعلِن الجماعة، التي تربطها علاقات وثيقة بشكلٍ خاص ب”حماس”، عن مشاركتها في الجبهة الجنوبية التي تمَّ تنشيطها أخيرًا ضدّ إسرائيل وإطلاق الصواريخ على جارة لبنان الجنوبية فحسب، بل بدأت أيضًا الحديثَ عن التوفيقِ بين مشروعَين سياسيَين مُتناقِضَين: المقاومة التي يُمثّلها “حزب الله” وتمكين الدولة اللبنانية. من المحتمل أن تؤدّي هذه الخطوة إلى مزيدٍ من الانقسامِ بين عامةِ الناس من أهل السنّة، بين أولئك الذين يدعمون أهداف “الجماعة الإسلامية” وأولئك الذين يواصلون مُعارَضةَ استراتيجية المقاومة التي ينتهجها “حزب الله” باعتبارها تضرُّ بجهودِ “بناء الدولة” في لبنان.
عارضَ زعماءُ السُنّة وممثلوهم، بما في ذلك “تيار المستقبل”، والعديد من الساسة، ودار الفتوى (الهيئة الرسمية التي تُشرِفُ على الشؤون الدينية للسُنّة في لبنان)، “حزب الله” وحلفاءه على مدى عقدين من الزمان. وقد بدأ هذا في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والذي اتّهَمَ العديد من السُنّة النظام السوري و”حزب الله” بارتكابه. وتَعَمَّقَ هذا العداء مع انقسامِ البلاد إلى قوى 8 آذار و14 آذار؛ وأحداث 7 أيار (مايو) 2008، عندما اجتاح “حزب الله” لفترةٍ وجيزة أحياءً سُنّيةً عدّة في بيروت؛ وتَدَخُّلِ “حزب الله” في سوريا ضد انتفاضةٍ شعبية دعمتها غالبية أهل السنّة اللبنانيين. لهذا السبب فإنَّ التحرُّكَ الأخير من جانب “الجماعة الإسلامية” السنّية نحو التحالف مع “حزب الله” يُشكِّلُ قطيعةً مع حجرِ الزاوية في الهَوِيّةِ السياسية السُنّية المعاصرة. ونتيجةً لتوجّهها الجديد، اضطرّت “الجماعة الإسلامية” إلى التعامُلِ مع الانتقادات من مختلفِ الجهات. فقد نظرَ معارضو “حزب الله” إليها باعتبارها كيانًا شاذًا في الساحة السُنّية العامة، وسعوا إلى ضمانِ عدمِ تأثيرها بشكلٍ كبير في المشاعر السُنّية الشعبية أو الرسمية.
على سبيل المثال، عارضَ فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء الأسبق والذراع اليُمنى للرئيس الراحل رفيق الحريري، إقحامَ لبنان، وخصوصًا أهل السُنّة، في الصراعِ الدائرِ في غزة. وعلى نحوٍ مُماثل، دعا رضوان السيّد، وهو شخصية سُنّية تحظى بالاحترام، مفتي الجمهورية ودار الفتوى، إلى التدخُّلِ وكَبحِ جماحِ رجال الدين الذين يدافعون عن المقاومة. ولهذه الأسباب، كانت “الجماعة الإسلامية” ذاتها حذرة في البداية من إثارةِ العداء بين قطاعاتٍ من المُجتمع السُنّي. والواقع أنَّ الجماعة عندما أعلنت مشاركتها في الجبهة الجنوبية ضد إسرائيل، أضافت بوضوح أنها لا تُنَسِّقُ مع أيِّ جماعةٍ أُخرى ـ في إشارةٍ واضحة إلى “حزب الله”.
لكن سرعان ما اتّضحَ أنَّ الجماعةَ نجحت في استقطابِ عددٍ من السُنّة العاديين، فضلًا عن بعض كبار الشخصيات في دار الفتوى. وكانَ دَعمُ القضية الفلسطينية يُشكّلُ منذ فترةٍ طويلة ركيزةً أساسية للسياستَين القومية العربية والإسلامية، وهما توجُّهان حظيا بشعبيةٍ تاريخية بين السُنّة اللبنانيين. وإلى حدٍّ ما، فاجأ ذلك مُعارضي “حزب الله” من السُنّة في لبنان، كما يتَّضِحُ من محاولاتهم المُحرِجة للردِّ على التوغّلات التي كان محور “حزب الله” يُحقّقها بين السُنّة. وسرعان ما شعرت الجماعة بالثقة الكافية للاعترافِ بالتنسيقِ الميداني مع “حزب الله” ــ وهو الشيء نفسه الذي كانت تُنكِرهُ في السابق. وعلى نحوٍ مُنفَصِل، أفادت وسائل الإعلام عن لقاءٍ بين الأمين العام ل”حزب الله” السيّد حسن نصر الله والأمين العام للجماعة الشيخ محمد طقوش. وأشارَ الاجتماع إلى أنَّ خوفَ الجماعة من الإعلان عن علاقاتها مع “حزب الله” قد تراجَعَ إلى حدٍّ كبير. فقد انتقلت المنظمة من التردُّدِ في ذكرِ التنسيق الميداني مع “حزب الله” إلى الإعلان عن مشاوراتٍ بين المجموعتين على أعلى المستويات. وسرعان ما بدأت الأمور تتجاوز المواقف السياسية وتَتَّخِذُ بُعدًا دينيًا. في الحادي عشر من تموز (يوليو)، ألقى طقوش خطابًا في احتفالية عاشوراء التي أقامها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بعد أن قبل في وقتٍ سابقٍ دعوةً للقيام بذلك من نائب رئيس المجلس، علي الخطيب. وكان هذا الأمر جديرًا بالملاحظة لثلاثة أسباب:
أوّلًا، على الرُغم من أنَّ السنّة يجلّون ويحترمون الحسين بن علي، فإنهم لا يشاركون عمومًا في الفعاليات التي تُقام لإحياء ذكرى وفاته في المعركة.
ثانيًا، أضاف التحالف الوثيق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مع “حزب الله” وحركة “أمل”، ثاني أكبر حزب شيعي في لبنان، عنصرًا سياسيًا إلى مشاركته.
ثالثًا، واجه طقوش مخاطر أمنية بسبب مشاركة الجماعة في العمليات العسكرية ضد إسرائيل واغتيال الأخيرة لبعض كبار أعضائها. وكان اختياره لحضور مثل هذا الحدث العام والبارز والتحدُّث في مثل هذا الحدث بمثابة تسليط الضوء على أهمية وشجاعة لفتته.
وأحدُ أسبابِ الجرأة الجديدة من جانب الجماعة هو أنها حظيت بدعمِ شيوخٍ رئيسيين من دار الفتوى. في مرحلةٍ ما، ظهر الشيخ علي الغزاوي، مفتي زحلة والبقاع المُعَيَّن من قبل دار الفتوى، في جنازةِ أحد أعضاء قوات “الفجر”، الجناح العسكري للجماعة، وهو يحملُ بُندقية ويُعلِنُ دعمهُ للمقاومة المسلّحة ضد إسرائيل. وبعدَ انتقاداتٍ من السُنّة المُناهضين ل”حزب الله” لتصرّفاته، دافع الشيخ أمين الكردي، ثاني أعلى سلطة في دار الفتوى، عن الغزاوي. وفي إشارةٍ واضحة إلى مشهد البندقية المرفوعة، قال: “بورِكَت يداك. لا يطالك احد ممن يكتب او يتكلم عنك. انتَ تُمثّل كلّ العلماء. وتُمثّل كل الشرفاء”. فضلًا عن ذلك، تشير لقطات الفيديو لجنازات قادة “الفجر” الذين قتلوا في الغارات الجوية الإسرائيلية إلى الدعمِ الشعبي لهم.
من المعقول أن نستنتجَ أنَّ خطابَ الجماعة وأفعالها تَتّفِقُ مع مشاعر العديد من السُنّة، فضلًا عن موقفِ جناحٍ رئيس في دار الفتوى. فالطائفة السُنّية تتعاطَفُ مع غزة ومقاومتها، وقد بدأ العديد من أعضائها أيضًا التصالُحَ مع فكرةِ التنسيقِ مع “حزب الله” لخدمة المقاومة. مع ذلك، فإنَّ هذا لا يعني تحالُفًا سُنّيًا-شيعيًا. في الأوساط السُنّية، قد يكون من الصعب أن يتعايشَ دعم المشاركة العسكرية ل”حزب الله” ضد إسرائيل، سواء من أجل فلسطين أو من أجلِ الأراضي اللبنانية المحتلة، مع المعارضة لسياسات “حزب الله” الأخرى، سواء في لبنان أو سوريا.
في نهاية المطاف، كان ما عبّرت عنه الجماعة أخيرًا على لسان عضوها الوحيد في البرلمان عماد الحوت مُفيدًا للغاية. ففي إشارةٍ إلى الموقف السُنّي التقليدي، صرّحَ الحوت بأنَّ الجماعةَ تسعى إلى إقامةِ دولةٍ تقومُ على “المُواطَنة” فضلًا عن “الانتظام المؤسّسي”. ولكن في بيانٍ يتَّفقُ إلى حدٍّ كبير مع موقف “حزب الله”، قال الحوت أيضًا إنَّ الجماعة عازمةٌ على ” التصدّي للعدو الصهيوني، والأصل فيه أن يكون من خلال استراتيجيةٍ دفاعية للدولة”. ويدافع الحوت في الأساس عن مشروعٍ يدمُجُ بناء الدولة مع المقاومة. وهذا النهجُ يضع الجماعة، بل وحتى الطائفة السنّية ككل، في موقعِ الجسرِ بين اتجاهَين مُتعارضَين.
مع ذلك فإنَّ إيجادَ التوازُن بين المقاومة وبناء الدولة أمرٌ بالغ الصعوبة. من ناحية، تحثُّ القوى المسيحية والسياسيون السُنّة التقليديون في لبنان دول الخليج ومصر على توجيه السُنّة بعيدًا من الصراع مع إسرائيل ونفوذ “حزب الله” والأحزاب السُنّية ذات التوجُّهات المُشابِهة. ومن ناحيةٍ أخرى، يبذلُ “حزب الله” جهودًا كبيرة لتحويل تنسيقه المؤقت مع “الجماعة الإسلامية” إلى تَحالُفٍ طويل الأمد، وهو التحالف الذي من شأنه أن يجتذبَ المزيد من الجماعات السُنّية. ونتيجةً لهذا فإنَّ المستقبلَ القريب بالنسبة إلى السُنّة في لبنان حسّاسٌ وغير قابلٍ للتنبّؤ، مع احتمالاتٍ واضحة لانقساماتٍ صارخة.
الواقع أنَّه على الرُغم من أنَّ “الجماعة الإسلامية” ومُعارضيها يعملون على تعزيز وَضعِ السُنّة ومكانتهم داخل المشهد السياسي اللبناني الداخلي، يُشكّلُ الصراعُ الدائر مع إسرائيل وتصعيده المُحتَمل مخاطرَ تُهدّدُ كلَّ الأطراف المعنية. فقد تُكافِحُ “الجماعة الإسلامية” وحلفاؤها من أجل تنفيذ رؤيتهم وتأمين الموارد اللازمة، وهو ما قد يضعف نفوذهم ونفوذ أنصارهم. وإذا فشلت “الجماعة الإسلامية” في تأمين الموارد اللازمة، فقد تسعى إلى الحماية والدعم من “حزب الله”. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ معارضي “الجماعة الإسلامية” الذين يُقاوِمون نموَّ الرأي العام المؤيِّد للمقاومة بين السُنّة سوف ينفصلون عن قاعدتهم، وهو ما من شأنه أن يُقلّلَ من دورهم التمثيلي داخل الطائفة. وقد تؤدّي مثل هذه الديناميكيات إلى زيادةِ تهميشِ السُنّة وتعميقِ الإحباط في مجتمعهم.
في كلتا الحالتين، فإنَّ مَنعَ الانقسام الكبير بين أهل السُنّة، وربما نشوء موقف يشعر فيه جُزءٌ من الطائفة بأنه قد تمَّ تهميشه، سوفَ يتطلّبُ جهودًا جادة من جانب جميع الأطراف المعنية.
- محمّد فوّاز هو كاتب، باحث ومُحلّل سياسي لبناني.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.