إيران أكثر طبيعية؟ كيفَ يُمكِنُ لمسعود بزشكيان أن يُحَقِقَ التغيير

 في 28 تموز (يوليو)، تولّى مسعود بزشكيان الرئاسة في إيران خلال مراسم تنصيبه التي أشرف عليها المرشد الأعلى علي خامنئي. وكان أول عملٍ أقدمَ عليه هو تعيين الإصلاحي وخريج جامعة ستانفورد الأميركية محمد رضا عارف نائبًا للرئيس.

الإصلاحي محمد رضا عارف: عَيَّنه بزشكيان نائبًا للرئيس.

فالي نصر ونرجس باجوغلي*

في العام 2021، انتصرت النُخَبُ المُتَشَدِّدة في إيران. لقد فازَ مُرَشَّحها المختار، إبراهيم رئيسي، في الانتخابات التي نظّمتها البلاد بعناية بأكثر من 70% من الأصوات. كان المحافظون يسيطرون على البرلمان الإيراني، وكانوا يحظون بالاهتمام الكامل من جانب المرشد الأعلى علي خامنئي. كان هدفهم ــالسيطرة على جميع أدوات السلطة في البلاد من أجل جعل الحماسة الثورية الإسلامية دعامتها الأساسية الدائمةــ في متناولِ اليد.

لكن بحلولِ نهاية العام التالي، أصبح من الواضح أن أجندتهم كانت في ورطة. كان الاقتصاد في حالةِ سقوطٍ حر، والمتشدّدون يفشلون في أداء المهام الأساسية للحُكم. وقد أدّى المجالُ الذي بدوا فيه أكثر فعالية ــفرض الحجاب الإلزامي على النساءــ إلى جعلِ الدولة غير شعبية إلى حدٍّ كبير. عندما توفيت الشابة مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق في أيلول (سبتمبر) 2022، بعد اعتقالها لعدم ارتدائها الحجاب بشكلٍ صحيح، اجتاحت الاحتجاجات إيران. وأوضحت النساء الإيرانيات أنهن سئمن من قواعد اللباس التي تفرضها الدولة والسيطرة القانونية على أجسادهن. كما أدّى التضخّمُ المُذهل وتقلُّصُ الفُرَصَ الاقتصادية إلى إثارةِ غضب الإيرانيين، صغارًا وكبارًا. وبدا أنَّ المتشدّدين حوَّلوا المعارضة المُزعِجة إلى ثورةٍ مفتوحة. وهكذا في أيار (مايو)، بعد مقتل رئيسي في حادث تحطُّمِ مروحية، رأى خامنئي فرصةً لتصحيحِ المسار. وعلى عكس العام 2021، سمح خامنئي للإصلاحي، النائب مسعود بزشكيان، بالترشُّحِ للرئاسة. كان خامنئي يعلم أنه إذا تمَّ استبعادُ الإصلاحيين، فإنَّ نسبةَ المشاركة في التصويت ستكون هزيلة، ما يؤدّي إلى موجةٍ أخرى من السيطرة المتشددة الموحَّدة التي من شأنها أن تُقوِّضَ شرعية الجمهورية الإسلامية. ثم تمّكَّنَ بزشكيان من تأمين نصرٍ مريح، إن لم يكن ساحقًا.

على الرُغمِ من إخفاقات سنوات رئيسي، فإنَّ هذا الفوز جاءَ بمثابةِ مُفاجأة. لقد توقّعَ معظم المحلّلين أن يقومَ المرشد الأعلى وحلفاؤه بالمناورة لضمانِ فوز أحد المحافظين بالمنصب. مع ذلك، يرى العديد من المراقبين أنَّ فوزَ بزشكيان ليست له أهمية كبيرة. ويؤكدون أن بزشكيان لن يقطعَ شوطًا طويلًا في دفع قضية الإصلاح إلى الأمام لأنه سيكون ضعيفًا جدًا ومُقَيَّدًا للغاية من قبل المرشد الأعلى. على سبيل المثال، رفضت وزارة الخارجية الأميركية إعتبار فوزه ذي أهمية. وأعلنت الوزارة أنَّ شيئًا لم يتغيَّر، لأنَّ الانتخابات لم تكن حرة ونزيهة ولأنَّ “عددًا كبيرًا من الإيرانيين اختاروا عدم المشاركة”. بمعنى ما، يبدو هذا الاستنتاج صحيحًا. فقد مُنِعَ العديدُ من المرشحين من الترشّح. ويملك خامنئي الكلمة الأخيرة في معظم السياسات المحلية والدولية لإيران، ويبدو مُلتزمًا إلى حدٍّ كبير بالمُثُلِ المحافظة. وعلاوةً على ذلك، لا يزال المتشدّدون يحتفظون بسلطةٍ كبيرة في البرلمان، ووسائل الإعلام، ومؤسّسات الدولة المختلفة ــ السلطة التي سوف يستخدمونها لمقاومة التغيير الجذري. وأخيرًا، يبدو الرئيس الجديد غير مُهتَم بالتحوُّلِ الجذري. على النقيض من الزعماء الإصلاحيين السابقين، فقد تعهّدَ بالولاء لخامنئي وأجندته. وقال بزشكيان: “بدون المرشد الأعلى، لا أتخيَّلُ أن اسمي كان ليخرج بسهولةٍ من صناديق الاقتراع”.

لكنَّ المؤرّخين في المستقبل قد يعتبرون انتخابات 2024 هي اللحظة التي تحوّلت فيها الجمهورية الإسلامية بشكلٍ حاسم – ليس لأن بزشكيان سعى إلى إصلاحات شاملة ولكن لأنه تمكّنَ من تشكيلِ نظامٍ إسلامي أكثر اعتدالًا. من خلال الابتعاد عن الإصلاح الجذري والمثالية الثورية، أظهرَ بزشكيان أنَّ هناكَ مساحةً في إيران لائتلافٍ حاكمٍ يتألّفُ من إصلاحيين معتدلين ومحافظين معتدلين (على عكس المحافظين المتشددين)، وهو ائتلافٌ راسخٌ في الحُكمِ البراغماتي. في حملته، ركّزَ بزشكيان على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الصغيرة المُصمَّمة لتحسين الحياة اليومية للناس – ومعظمها قابلٌ للتحقيق. سيكون من الصعب دفع مساعيه لتجديد الديبلوماسية مع الولايات المتحدة، لكنه يستطيع إقناع خامنئي بدعم المحادثات وربما حتى الموافقة على اتفاقٍ نوويٍّ مُتواضع. بعبارةٍ أخرى، يمكنه نقل إيران إلى ما هو أبعد من المعارك الإيديولوجية التي حدَّدَت تاريخها بعد الثورة.

مُرَشَّح تسوية

تقفُ إيران اليوم في ذروة نفوذها الدولي. وتتمتّعُ البلاد وشبكتها من الميليشيات المتحالفة معها بقدرٍ جديدٍ من الخوف والاحترام في الشرق الأوسط. كما إنَّ مُعارضةَ طهران الشديدة لإسرائيل تُكسبها الدعمَ السياسي في مختلف أنحاء المنطقة. وبلغ البرنامج النووي للحكومة ذروته حتى الآن، وتعمل الدولة على بناء تحالفات مع الصين وروسيا لمواجهة الغرب.

لكن هذه النجاحات تتناقضُ بشكلٍ حاد مع اليأس الذي يشعر به العديد من الإيرانيين. فالاقتصاد الإيراني يُعاني من التدهور، ومن العقوبات الأميركية، وسوء الإدارة الفادح، والفساد المتزايد، وعدم المساواة. وقد سئم السكان بشكلٍ متزايد من الزعامات المحافظة الدينية. ويُفسِّرُ هذا السخط لماذا أثارَ مقتلُ أميني الاحتجاجات الجماهيرية ولماذا أثبتت المظاهرات صعوبة إخضاعها. فقد سارَ الناس في مختلف أنحاء البلاد لشهورٍ متواصلة حتى تمكّنت طهران أخيرًا، من خلال القمع المتواصل، من وقف الانتفاضة. ورُغمَ ذلك، يواصل الناس التمرّد بطرق أصغر. على سبيل المثال، تتباهى أعداد كبيرة من النساء في البلاد برفض ارتداء الحجاب، إلى درجة أن الدولة وجدت أنَّ فرضَ هذه القاعدة أمرُ يكاد يكون مستحيلًا.

بالنسبة إلى خامنئي ــوكثيرين في دائرته الداخليةــ كانت الاحتجاجات بمثابةِ جرسِ إنذار. فقد أوضحت أنَّ المتشدّدين فشلوا وأنَّ زعامتهم غير شعبية ومُزعزِعة للاستقرار إلى حدٍّ كبير. ويبدو أن خامنئي كان يأملُ أن يساعد السماح لبزشكيان بالترشح على منح الجمهورية الإسلامية فرصةً جديدة للحياة من خلال إظهار قدر من الانفتاح بدون أن يُشَكِّلَ ذلك تهديدًا كبيرًا للنظام الحاكم. ففي نهاية المطاف، لم يتوقع سوى قِلة من الناس فوزه. في ذلك الوقت، كان بزشكيان عضوًا هامشيًا نسبيًا في البرلمان، حتى داخل الدائرة الانتخابية الإصلاحية التي أصبحت هامشية إلى حدِّ ما. كانت الكتلة المعتدلة في إيران تضمُّ مرشَّحين آخرين أكثر شعبية أرادوا الترشُّح للرئاسة. لكن مجلس صيانة الدستور، المجموعة التي يعينها المرشد الأعلى والتي تتولّى فحص ودرس ملفات المرشحين، استبعدهم جميعًا.

لكن بمجرّد بدء الحملة، وجد بزشكيان سُبُلًا لعرضِ قضيته على الناس. لديه قصةُ حياة مُقنِعة أصبحت جُزءًا لا يتجزّأ من حملته: فهو جراح قلب لم يتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته في حادث سيارة، وربّى أطفاله بمفرده. كان بزشكيان رئيسًا لجامعة ووزيرًا للصحة قبل أن يُصبحَ عضوًا في البرلمان. مع ذلك، على عكس بعض المسؤولين الآخرين الذين شغلوا مناصبهم لفترة طويلة، يتمتع بسمعةٍ طيِّبة لكونه كفؤًا وتقيًّا وخاليًا من الفساد. كان بزشكيان، وهو من أصلٍ كردي وأذربيجاني، قادرًا على المساعدة في سد الشقوق العرقية التي تُصيب المجتمع الإيراني، ووعد بمعالجة المظالم التي طال أمدها للأقليات. (خلال احتجاجات العام 2022، كانت مقاطعتا بلوشستان وكردستان الإيرانيتان بؤرًا للمعارضة ومسرحًا لبعض أكثر حملات القمع دموية).

من الأهمية بمكان الملاحظة بأنَّ بزشكيان أثبت أنه المرشّح النادر القادر على توحيد الإيرانيين ذوي المعتقدات الإيديولوجية المختلفة. فقد نجحت الرائدة الإصلاحية آذر منصوري ــ وهي مُنشَقّة مخضرمة وأول امرأة تشغل منصب مديرة منظمة سياسية وطنية– في قيادة حملاتٍ لمقاطعة الانتخابات الرئاسية لعام 2021 والانتخابات البرلمانية لعام 2023، وهددت بمقاطعة هذه المنافسة أيضًا. لكنها شجّعت الناس على التصويت لصالح بزشكيان. وفي الوقت نفسه، اكتسب بزشكيان زخمًا بين بعض المحافظين من خلال التعهُّد بالولاء لخامنئي ووعده بعدم محاولة تغيير الهوية الأساسية للجمهورية الإسلامية. وقالَ إنَّ هدفه بدلًا من ذلك كان ببساطة تحسين الحياة اليومية للإيرانيين من خلال الحدّ من التضخُّم وتحسين الحُكم وتسهيل الوصول إلى الإنترنت والتوقُّف عن فرض قيودٍ صارمة على لباس المرأة. كما حرص على تصوير البراغماتية باعتبارها فضيلة دينية وضرورة سياسية.

بطبيعةِ الحال، كان بزيشكيان لا يزال متأخّرًا بين المحافظين في المنافسة. لكن في النهاية، استفاد من الخلاف بين المحافظين البراغماتيين المعتدلين والمتشدّدين المتعصِّبين الذين شكلوا حكومة رئيسي. خلال الجولة الأولى من الانتخابات، دعم المحافظون المعتدلون ترشيح محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان وقائد سابق في الحرس الثوري الإسلامي. كما دعم عددٌ قليل رجل الدين مصطفى بور محمّدي. في الوقت نفسه، حشد المتشدّدون دعمهم لسعيد جليلي، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران. وخلال الجولة الأولى، كانت الاشتباكات بين المحافظين المعتدلين والمتشددين التابعين لجليلي لاذعة وشخصية في كثيرٍ من الأحيان. فقد رفض جليلي قاليباف باعتباره “مقاول بناء” غير جاد (في إشارة إلى فترة تولي قاليباف منصب رئيس بلدية طهران والعديد من المشاركات في مخططات البناء). وشنَّ بور محمدي هجمات لاذعة ومدمرة على جليلي، بحجة أنَّ سياساته كلّفت إيران مليارات الدولارات من الأضرار والعقوبات الجديدة.

من المُرجَّح أن خامنئي وحلفاءه في الحرس الثوري الإيراني أرادوا أن يكون قاليباف رئيسًا. كانت وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني مليئة بالمقالات التي تلعب على قاليباف وتنتقد جليلي. لقد تداولت صورًا لقاليباف إلى جانب كبار قادة الحرس الثوري الإيراني وتحدثت عن صداقته الوثيقة مع الجنرال في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي قُتل في ضربة أميركية في العام 2020 والذي لا يزال بطلًا بين المحافظين. لكن في الجولة الأولى، تمَّ إقصاءُ قاليباف، وكذلك بور محمدي. وبدلًا من ذلك، تقدّمَ جليلي، بالاعتماد على الآلة السياسية المتشددة، إلى مواجهةٍ وجهًا لوجه مع بزشكيان. وردًّا على ذلك، ألقى العديد من كبار المحافظين البارزين وقادة الحرس الثوري الإيراني السابقين بثقلهم علنًا خلف ترشيح بزشكيان. وخلص الإيرانيون إلى أنَّ هذا الانشقاق المحافظ العلني لم يكن ليحدث لولا موافقة المرشد الأعلى الهادئة. ونتيجةً لهذا، تحوَّلَ جُزءٌ كبير من ناخبي قاليباف وبور محمدي ــومن بينهم مدير حملة قاليبافــ نحو بزشكيان. وفي الخامس من تموز (يوليو)، فاز بالرئاسة.

عالَمُ المُمكِن

لم يكن فوز بزشكيان سهلًا. فقد هزم جليلي بفارق عشر نقاط مئوية وبمشاركة منخفضة قياسية. وكان انخفاُضُ نسبة المشاركة في التصويت راجعًا إلى حدٍّ كبير إلى النساء الإيرانيات الساخطات، اللواتي دَعا العديد منهنَّ إلى مقاطعة الانتخابات. فخلال الجولة الأولى من الانتخابات، أدلى بالكاد 40% من الناخبين المؤهّلين بأصواتهم. وفي جولة الإعادة، أدلى أكثر من 50% بقليل بأصواتهم.

لكنَّ الفوزَ هو الفوزُ، وربما لا يحتاج بزشكيان إلى تفويضٍ شعبيٍّ كبير لدفع أجندته إلى الأمام. فمنذ انتخابه، أوضحَ أنَّ أولوياته هي الحُكمُ الرشيد وبناءُ الجسور، ولا يتطلّبُ أيٌّ منهما إصلاحات سياسية تحويلية. وفي محاولةٍ لخلقِ قدرٍ أعظم من الشفافية مُقارنةً بالإدارات السابقة، على سبيل المثال، أنشأ فريق بزشكيان الانتقالي لجانًا مُكَلَّفة باختيار الوزراء على أساسِ الخبرة الإدارية والتجربة وليس الولاء. ويبدو أنَّ فريق بزشكيان أعطى الأولوية أيضًا لزيادة التنوّع في الحكومة. ووفقًا لتقارير إعلامية، حدّدَ الرئيس الجديد معاييرَ اختيارٍ تنصُّ على أنَّ 20% من أعضاء مجلس الوزراء يجب أن يكونوا من النساء، وأن يكون 60% منهم تحت سن الخمسين، وألّا يكون 60% منهم خدموا في مناصب وزراء من قبل. (على الرُغم من أنه، باسم الخبرة، سوف يُعيّنُ مسؤولين حكوميين سابقين دون رتبة وزير). وأخيرًا، يريد بزشكيان أن تضمَّ حكومته إصلاحيين ومحافظين على حدٍّ سواء. وقد يُثبتُ الوفاء بهذا الوعد الأخير صعوبة بالغة. لكنَّ حقيقةَ أنه يبذل الجهد اللازم لتحقيق ذلك تُشكّلُ قطيعةً مع السياسة الإيرانية المُنقسمة. فبمجرد تولّيه منصبه (28 تموز/يوليو)، من المتوقع أن يبدأ بزشكيان بالتعرُّضِ لضغوطٍ فورية لتحسين الاقتصاد. ولتحقيق هذه الغاية، وَعَدَ بتغيير الممارسات التي أدّت إلى عجزٍ في الموازنة، ومخالفات مالية، وندرة اقتصادية، ونقصٍ حاد في المياه والأراضي الصالحة للزراعة، مثل الإعانات التي تتدفق إلى مصالح راسخة معينة. وتحقيقًا لهذه الغاية، تعهّدَ أيضًا بمعالجة شبكات قوية من الفساد المؤسّسي ــ وهو ما من شأنه أن يختبرَ شجاعته كزعيم.

لكنَّ الإصلاحات الداخلية لن تدفع الاقتصاد الإيراني إلى أبعد من ذلك. فالبلاد في احتياجٍ ماسٍ ومُلِحٍّ إلى الاستثمار، وهو أمرٌ غير مُمكن ما لم يخفّف الغرب من عقوباته. وتحقيقًا لهذه الغاية، دعا بزشكيان بقوة إلى التعامل الديبلوماسي الجاد مع الولايات المتحدة، مُعتَبرًا أنَّ التقارُبَ ضروريٌ لتحسين الاقتصاد الإيراني.

وسوفَ يكونُ تغييرُ السياسة الخارجية الإيرانية أكثر صعوبة بالنسبة إلى بزشكيان نظرًا لأنَّ العلاقات الدولية هي إلى حدٍّ كبير من اختصاص المرشد الأعلى والحرس الثوري الإسلامي. ومن المؤكد أنَّ بزشكيان لن يكونَ قادرًا على فكِّ العقدةِ المُستَعصِية المُتمثّلة في السياسات النووية الإيرانية، والأنشطة الإقليمية، والعلاقات مع الصين وروسيا. ولكن هذا لا يعني أنه لا يستطيع أن يُحدِثَ أيَّ تأثيرٍ في السياسة الخارجية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالديبلوماسية النووية. ورُغمَ أنَّ خامنئي أعطى الضوءَ الأخضر لتوسيع البرنامج النووي الإيراني، فإنه لا يُعارِضُ المفاوضات بشأنِ نطاقها، شريطةَ أن تعملَ على تخفيف الضغوط المفروضة على إيران بسبب العقوبات. إنَّ الاتفاقَ الذي من شأنه أن يُنهي البرنامج النووي الإيراني قد لا يكون مطروحًا، ولكنَّ الاتفاقَ العملي الذي من شأنه أن يُبادِلَ القيود القابلة للتحقق على البرنامج في مقابل تخفيف العقوبات بشكلٍ ملموس أمرٌ يُمكنُ تصوُّره إلى حدٍّ كبير. فخامنئي، بعد كل شيء، دَعَمَ محاولة رئيسي الديبلوماسية خلال محادثات فيينا ثم صاغ اتفاقًا سريًا لخفض التصعيد مع المسؤولين الأميركيين في العام 2023. وينبغي للرئيس الإيراني الجديد أن يتمتّعَ بمساحةٍ أكبر للمناورة. فقد سمح له خامنئي بالترشُّح وهو يعلم موقفه من المفاوضات، وأظهر انتخابه للسلطات العليا في البلاد أن طيفًا واسعًا من الإيرانيين، بمن فيهم بعض المحافظين المعتدلين، يريدون من طهران تغيير مسارها. بطبيعة الحال، فإنَ نتيجةَ التحوُّل المحتمل لبزشكيان سوف تعتمد أيضًا على ما إذا كانت الولايات المتحدة ستوافق على التعامل مع الرئيس الجديد. وينبغي لها أن تفعل ذلك، جُزئيًا لاختبار مدى حرية التصرُّف التي يتمتع بها بزشكيان وجُزئيًا لمعرفة إلى أيِّ مدى يمكن أن يصل الاتفاق النووي.

إنَّ المسؤولين الأميركيين قد يجدون أنَّ بزشكيان يتمتّعُ بقدرٍ أعظم من الحرية مما يعتقدون. فبحسب كل الروايات، يحظى الرئيس الإيراني الجديد بدعم خامنئي. بعدَ الانتخابات، التقى الرجلان لفترةٍ طويلة وسارا معًا تحت أنظار الكاميرات إلى تجمُّعٍ ديني محافظ ــ وهو حدثٌ غير معتاد. كما أمرَ خامنئي البرلمان بالموافقة السريعة على حكومة بزيشكيان والتعاون مع الحكومة الجديدة في تخفيف الضغوط التي تفرضها العقوبات على إيران.

بطبيعةِ الحال، يخدُمُ دعم خامنئي أيضًا كتذكيرٍ بأنَّ بزشكيان مخلوقٌ من صُنعِ الجمهورية الإسلامية. فهو لن يُعارِضَ المرشد الأعلى، وهدفه المُعلَن هو صياغة مركز سياسي مستقر. ومن المفهوم إذن لماذا يظلُّ عددٌ كبير من الإيرانيين مُتشَكّكين في بزشكيان وأجندته. لكنَّ التغيير، حتى لو لم يكن جذريًا، لا يزال من الممكن أن تكونَ له نتائج. فقد يجعل البلاد أكثر وظيفية، وأكثر ازدهارًا، وأكثر سلامًا ــ وهي حقيقة يعرفها العديد من الناشطين المخضرمين جيدًا. “بعد حملات القمع المختلفة في السنوات القليلة الماضية في مواجهة الاحتجاجات وقوة إيران المتنامية في المنطقة، لا نتوقع أن تذهب الجمهورية الإسلامية إلى أيِّ مكان”، كما أخبرنا أحد منظمي المجتمع المدني منذ فترة طويلة. “لكننا نريد تغيير الأشياء القليلة التي يمكننا تغييرها والتي ستجعل حياتنا أسهل وتمنحنا مساحة للتنفّس”.

  • فالي نصر هو أستاذ ماجد خضوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.
  • نرجس باجوغلي هي عالمة أنثروبولوجيا وأستاذة مساعدة لدراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى