يَنْحتُ بالمِطرَقَةِ على الزُجاجِ المَكسُور
هنري زغيب*
السائدُ منذ فجر تاريخ النحت أَن يتناول النحات إِزميله ويروح يَغرزه في الصخر أَو الخشب أَو الرخام، بضربات ذكية يُطْلِعُ منها شكلًا، نصُبًا، رأْسًا، وَجهًا، حفْرًا نافرًا، فيُبْدعُ في الانحناءات والتداوير والملامح، حتى ليكاد التمثال ينطقُ حين يَخرج أَقربَ ما يكون إِلى الحياة، ولنا نموذج ساطع على ذلك في صرخة ميكالانجلو “أُنطُق” أَمام تمثاله “داود” حين انتهى من نحته في الرخام الأبيض.
كلُّ هذا سائد معروف. لكنَّ ما يفاجئ في غير المعروف، أَن يبادرَ نحات لا إِلى إِزميل كالعادة بل إِلى مطرقة ينهال بها على لوح الزجاج فيُطْلع من الزجاج المكسور وجهًا يظهر واضحًا من بين نثار الزجاج.
وُجُوه الزجاج المكسور
فيما نتنبَّه جميعنا إِلى تجنُّب فتات الزجاج المكسور كي لا نجرح أَصابعنا أَو أَيَّ ما يمسه من جسمنا، هوذا الرسام السويسري سيمون بيرجيه Berger يجعل من كسْر الزجاج مهنتَه بل… عبقريته في”النحت”، فإِذا به من تحت المطرقة “يَرسم” وجهًا متكسِّر الملامح واضحًا كما لو انه رسام ويرسمه على قماشة يتحكَّم بها وتُطيعه تحت فرشاته.
بدأَت مغامرته الصعبة سنة 2016. وعامًا بعد عام أَخذت تنضج تجربته من إِبداع إِلى إِبداع، وأَخذ يتحكَّم أَكثر بالملامح التي يريد “إِخراجها” بالزجاج المكسور. وهكذا، من لوح زجاج صافٍ سليم أَمامه، يُعمِل فيه مطرقته طَرقة بعد طَرقة فيُطيعه الزجاج كما القماشةُ البيضاء تطيع ريشة رسامها. ومن يومها أَخذَت أَعماله تجوب المعارض في معظم العالَم.
من مطرقة النجَّار إِلى مطرقة النحات
وُلد سيمون بيرجيه صباح 9 نيسان/أبريل 1976 في بلدة نيديرُونز، من مقاطعة بيرن (عاصمة سويسرا). نشأَ يتقن مهنة النجارة، وتحوّل منها إِلى فنه الخاص المذهل الطليعي، فأَنشأَ محترفه في بلدته الأُم (حيث لا يزال يعيش ويعمل). وحين عرض أَعماله لأَول مرة سنة 2017 في محترفه السويسري لفَتَ إِليه النقاد ومؤَرخي الفن وجمهورًا واسعًا ما زال يتنامى مندهشًا من سره الخفيّ وراء تَمَكُّنه المدهش من التحكُّم بمطرقته على الزجاج. بعدذاك، تنَبَّه إِليه الإِعلام، فذاع صيته حتى بات يُدعى إِلى عدد من المدُن والعواصم كي يعرض فنّه الفريد وبراعته الحاذقة. وراحت مؤَسسات كبرى تدعوه إِليها، كما حدث في أَهم مهرجان للفن الشارعي في أُوروبا (غرونوبل-منطقة الأَلب).
… وجاءَ إِلى بيروت بعد انفجارِ المَرفَإِ
في آذار (مارس) 2021، بدعم من “المتحف الأَميركي الوطني لتاريخ النساء” أَطْلَع من كسْر الزجاج وجه كامالا هاريس نائبة الرئيس الأَميركي جو بايدن. وفي آب (أغسطس) 2021، بدعمٍ من تلفزيون MTV، دعي إِلى بيروت كي ينضمَّ إِلى مجموعة “نحن لا ننكسر”، تكريمًا ذكرى ضحايا انفجار مرفـَإِ بيروت سنة 2020.
يتميَّز عملُه بالدقة في التوازن بين صلابة الزجاج وسهولة كسْره. من هنا عملُه أَحيانًا على وجه يظهر في واجهة أَو هو ناظر إِلى مكان آخر غير عين المتفرج، حتى إِذا اقترب المتفرج من المنحوتة يَجد كسور الزجاج في خطوط متلاصقة هي التي شكَّلت كامل الوجه عن بُعد.
من الكُسُور يخرج الجمال الكامل
وعكس الشائع بالتنبُّه إِلى كيفية حمْل الزجاج أَو مقاربته كي لا ينكسر، تتشكَّل “لغة” العمل بالمطرقة في يد سيمون من تكسير هذا الزجاج وتهشيمه كي يُطلع منه الوجهَ المطلوب. واللافت في ذلك أَن لوح الزجاج يكون صافيًا شفَّافًا أَمام سيمون، يُرى بسهولة ما وراءه، حتى إِذا خرج العمل من بين يديه يبدو الزجاج مقْفَلَ الرؤْية لا يُمكن أَن يُرى من خلاله ما وراءَه. ويلفت أَيضًا أَنه يتحكَّم يضربات مطرقته، بين لين وقسوة، حتى لا ينكسر لوح الزجاج بما لا يريده سيمون بل يبقى مطواعًا له ولمطرقته، فلا يتكسَّر منه إِلَّا ما هو يشاء منه أَن يتكسَّر أَو يَتَشَوَّه أَو يتخطَّط، من أَجل أَن تبقى منه المساحةُ المطلوبة لإِظهار الوجه المقصود. والسرُّ في ذلك: ضربةُ المطرقة بين خفيفة ومتوسطة وقوية، حتى كأَن لوح الزجاج بين يديه لا يعود إِلَّا كورقة بيضاء يرسم عليها سيمون بقلمه ملامح الوجه الذي يريد نقْله إِلى القماشة البيضاء. ومن خطوط الزجاج المكسور يخرج الوجه بكامل تفاصيله وملامحه.
من الضبابية إِلى الصفاء
هذا الفن في عمل سيمون حدَّده النُقَّاد متأَثِّرًا بموجة الفن الشعبي أَو الفن الواقعي الـمُحْدَث (النِيو-واقعي). وفي مطالع سيرته أَنه بدأَ مسيرته الفنية برسم الوجوه عبر البخاخات (spray) على قطع من الخشب، كونه أَصلًا بدأَ مهنته نجارًا. ولأَنه هاوٍ القطع الميكانيكية، حدثَ له ذات يومٍ أَن نقَل إلى محترفه قطعًا مبعثرة من سيارة محطمة بحادث سير خطير، كي يجمع منها توليفة عمل فني، حتى إِذا وصل إِلى زجاج السيارة الـمُهَشَّم، فَتَقَت في باله فكرة العمل على الزجاج الـمُهشَّم لعلَّه يُطْلع منه عملًا فنيًّا. وهكذا كان، وبدأَ تجاربه الأُولى بالانتقال من ضبابية الزجاج المكسور إِلى صفاء إِطلاع الوجه من هذا الهشيم. ومن هناك أَخذ عمله يتطوَّر وينضج حتى برهن أَن الفن يمكن أَن يخرج من أَيِّ مادة يبرع الفنان باستعمالها في وجهات جديدة غير مـأْلوفة، بمعنى أَنَّ البراعة ليست في طواعية المادة بين يدَي الفنان بل في براعته بما يمكن أَن يُطلع من تعاطيه مع المادة، سواء هي ورقة أَو قماشة أَو صخرة أَو قطعة خشبية أَو … لوح زجاج. ولعل هذا الأَمر ينطبق على النحاتين أَكثر مما على الرسامين.
لا حدود لفضاء الإِبداع
من هنا يَعتبر سيمون أَن الزجاج المكسور منظرُه سلبي، بينما يَخرج من يديه جمالًا فنيًّا ذائقًا يتحول من الشفاف الباهت الجامد إِلى الصلد الموحي بشكل جميل، ولا حدودَ بعدها لِما يُمكن الزجاج أَن يُطلع من أَشكال، من المسطَّح العادي إِلى ذي الأَبعاد الثلاثة الذي يُرى من جميع الجهات أَمامه وخلفه وَحَوْله. هكذا تتحوَّل المطرقة في يده من أَداةٍ للهدم والتكسير إِلى أَداةٍ لبناء إِبداع الجمال.
بلى: هو فضاء الفن الذي لا حدود لوساعته.
وهو إِبداع الفنان الذي يُطْلع فنًّا لا يتوقَّع الناظر إِليه أَن يمكن إِطلاعُه.
وهنا الفرق بين الفنان العادي، والفنان الذكي، والفنان البارع، و… الفنان المبدع الخلاق.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.