هل يُفَجِّرُ تَضارُبُ المَصالح الداخلية مُفاوضات ويتكوف-عراقجي؟
يطرَحُ هذا التحليل الإخباري جُملةً من التحدّيات تُواجه الطرفَين الأميركي والإيراني مع شركائهم الداخليين في مُقاربةِ مسألةِ التفاوض وجدواها وغياب توافق على عُمقِ التنازلات والأهداف المُتَوَخّاة من هذه العملية، ما يُهدّدُ بتفجيرها في أيِّ لحظة. فانعقادُ اجتماع عُمان ليس في حدِّ ذاته ضمانة بأنَّ قطارَ المفاوضات قد انطلق.

ملاك جعفر عبّاس*
يصلُ المبعوثُ الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الى عُمان لبحث أُفُقِ التفاوض مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مدعومًا بحشدٍ عسكري في المنطقة لم يسبق له مثيل، وفي جُعبته مطالب قابلة للبحث إيرانيًا وأُخرى غير قابلة للبحث. تصرُّ الولايات المتحدة على ضرورةِ أن ترفعَ إيران يدها عمّا تسميه أذرعها في الإقليم، من “حزب الله” والفصائل العراقية الى جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) في اليمن، وتفكيك بُنيتها العسكرية وسحب سلاحها. كما لا تقبل الولايات المتحدة بسلاحٍ نووي إيراني، لكنها قد تقبل ببقاء البرنامج النووي والاتفاق على آلية مراقبة فعّالة تُمَكِّنُ المجتمع الدولي من التأكُّد من سلميّته، وبقاء نسب التخصيب في حدودها الدُنيا، ونقل مخزون إيران من اليورانيوم المُخَصَّب بنسبة 60% الى دولةٍ ثالثة برفقة لائحة من الأجهزة تعتبرها الولايات المتحدة أساسية لصنع السلاح النووي. كما تصرّ واشنطن على تفكيك برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني وهو ما تضع إيران تحته خطًّا أحمر.
وبدوره، يصلُ وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مدعومًا بصلاحياتٍ “كاملة” من المرشد الأعلى علي خامنئي وقناعة بأنَّ الطريقَ إلى التفاوض أسلمُ من طريقِ التصعيد من اجل المحافظة على النظام. ويطرح الإيرانيون مسألةَ رفعِ العقوبات كهدفٍ أساسي من أيِّ مفاوضات حيث أنَّ الأزمة المالية الخانقة التي تُعاني منها إيران بسبب العقوبات تشعل الشارع باحتجاجات تحت شعاراتٍ مختلفة وصلت إلى تحميلِ الحرس الثوري و”الباسيج” مسؤولية ما وصلت اليه البلاد من حالة شبه إفلاس ومن تهديدات خارجية وجودية.
والحقيقة أنَّ الطرَفَين يدخلان إلى هذا الاجتماع وسط كثير من الشكوك في النيات وكثير من التضارُب في المصالح في البيت الداخلي لكلِّ منهما، وقد تُشَكّلُ هذه العناصر أدواتَ تفجيرٍ مُحتَمَلة لأيِّ مفاوضاتٍ تتخطّى قدرة رأسَي الهرم، أي خامنئي ودونالد ترامب، على ضبطها.
موقف الإدارة الأميركية
تبدو الإدارة الأميركية مُنقَسمة حول طريقة التعاطي مع الملف النووي: يرى مجلس الأمن القومي أنَّ تفكيكَ البرنامج النووي برمّته هو السيناريو الوحيد الذي يُمكِنُ التعايش معه، لأنَّ إيران وصلت أصلًا إلى العتبة النووية (أي انها تمتلك يورانيوم مُخصَّب بدرجة غير بعيدة من الدرجة المطلوبة لصنع القنبلة) كما إنها تمتلك المعرفة اللازمة لبناءِ سلاحٍ نووي ولا يمكن التأكُّد من أنها لن تذهبَ إلى تطوير برنامجٍ جديد إلّا إذا تمَّ حرمانها كُلّيًا من أدواتِ التصنيع النووي من خلال تدمير ما هو موجود. في حين يرى ترامب وويتكوف أنَّ هذا النهجَ مُكلِفٌ على جميع الصُعُد، وهو يتطلّبُ عملًا عسكريًا تَعرِفُ الإدارة كيف يبدأ لكنها لا تستطيع معرفة كيف سينتهي، فالمواقع النووية مُحَصَّنة في بطونِ الجبال، وقد لا تكفي قاذفات ال”B2″ و”B52″ لتدميرها، بل ستحتاج الولايات المتحدة إلى عملٍ على الأرض على غرار الإنزال الإسرائيلي الذي فجّرَ مصنع الصواريخ الإيراني في مصياف السورية في العام الماضي، وهو أصغر بكثير من أيِّ منشأة إيرانية، ناهيك عن المنشآت الصاروخية. وبالتالي الأضمن هو اتفاقٌ نووي جديد يُتيحُ مراقبةً فاعلة. وقد يفضي هذا الطرح إلى اتفاقٍ مُشابه ل”خطة العمل الشاملة المشتركة” التي وقّعها باراك أوباما في العام 2015 ومزّقها ترامب في 2018 مع بعض التعديلات يعيد توقيع اسمه تحتها.
هذا السيناريو لا يمكن ان تقبل به إسرائيل التي ترى أنَّ أيَّ نشاطٍ نووي إيراني يُهدّدُ وجودها، وهي تتحدث كلَّ يومٍ عن الحرب مع إيران، علمًا أنها لا تستطيع خوضها منفردة ابدًا. وصحيحٌ أنَّ ترامب تقصّد تهميش بنيامين نتنياهو في زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض وأحرجه بإعلان انطلاق مفاوضات مباشرة تحت عنوان “لا للسلاح النووي”، إلّا أنَّ نتنياهو، صاحب الباع الأطول والأدهى في السياسة، يعرفُ كيف ينحني عندما تهبُّ الرياح المُعاكسة ويعرفُ أنه ليس الوحيد في المنطقة الذي يُعارض ترامب في رؤيته، ومن غيرِ المُستَبعَد أن تقومَ إسرائيل بعملٍ استخباراتي تخريبي بعيدًا من الأميركيين بهدف تفجير المفاوضات. كما إنَّ نتنياهو عاصرَ ترامب في مفاوضاته مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ورأى كيف هدّد ترامب كيم وتوعّده ووضعَ ضغطًا أقصى اعتقد العالم أنه على حافة حرب كونية بهدف التوصُّل إلى اتفاق نزع السلاح النووي الكوري الشمالي. وبالفعل حصل ترامب على الصورة الشهيرة التي أرادها مع كيم، ووقّعَ الاتفاق، لكنه لم يُطَبَّق، وبقيت الأمور عند هذا الحد. لذا ربما يظنُّ نتنياهو أنَّ ترامب الساعي أبدًا خلف الأضواء وخلف نوبل للسلام يسعى الى صورةٍ تجمعه بالمرشد علي خامنئي وإلى صورة وهو يوقع على اتفاقية نووية مع إيران سيروِّجُ لها على أنها الأقوى في التاريخ. إلّا أنَّ الخبراء يُجمعون على أنَّ البرنامج النووي الإيراني ومنذ انسحاب ترامب منه بات من شبه المستحيل تقنيًا مراقبة كل جوانبه، والتأكّد من سلميّته بنسبة 100% لأنه بكل بساطة تطوّرَ وتعقّدَ في السنوات الماضية بحيث أصبح القبول بفكرة وجوده هو إقرار بإيران دولة نووية في الحيّز الاستراتيجي لإسرائيل ولحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج. لذا قد يفكر ترامب في مرحلةٍ ما بأنَّ السلام مع إيران نووية أضمن وأربح من الحرب التي قد لا تجعلها غير نووية لكنها تحمل مخاطر تفكك النظام ووقوع المنشآت والأسلحة التقليدية بأيدي مجموعات عقائدية متشدّدة تصعب السيطرة عليها. قد يضبط ترامب إدارته لكن من السذاجة ربما التفكير بأنه روّض نتنياهو بإذلاله في المكتب البيضاوي.
الموقف الإيراني
وعلى الضفة الإيرانية لا تبدو الأمور أقل تعقيدًا، فالمرشد الأعلى الإيراني المُمسك بخيوط اللعبة الداخلية يحاول التوازُن على حبلٍ مشدود بين التهديدات الخارجية والغليان الداخلي. ويُدرِكُ أنَّ أيَّ تنازُلٍ مؤلم في المطالب الثلاثة المطروحة للتفاوض قد تؤلّب ما يُعرَف ب”القاعدة الصلبة” للنظام من الجمهور العقائدي الذي يُشكّلُ الحرس الثوري و”الباسيج” كتلته الأساسية وقوّته الضاربة داخليًا وخارجيًا. وبحسب كثير من الدراسات للمشهد السياسي الداخلي في إيران، لم يتبقَّ للنظام من مؤيدين سوى هذه الطبقة التي تُشكّلُ حوالي 8 ملايين من أصل أكثر من تسعين مليون نسمة، بعدما فَقَدَ النظامُ تأييد الطبقة العاملة في الاحتجاجات المعيشية في السنوات الخمس الأخيرة، وفَقَدَ تأييد الطبقة المتوسطة في الاحتجاجات التي تلت انتخابات 2009 والتي فاز فيها محمد أحمدي نجاد وأفضت إلى قمع الحركة الخضراء ووضع قادتها في الإقامة الجبرية. لكن حتى هذه الكتلة بدأت بالتصدُّع متأثرة بسلسلة الأحداث التي عصفت بإيران و”محور المقاومة” منذ مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي بحادث تحطُّم طوّافته الغامض وصولًا إلى انتخاب مسعود بازشيكيان “الإصلاحي” رئيسًا للجمهورية وإقصاء نائبه سعيد جليلي (وما رافق ذلك من شائعات أنَّ مقتل رئيسي كان تصفية داخلية)، إلى انهيار المحور بفعل الحرب الإسرائيلية على “حماس” و”حزب الله” وسقوط نظام بشار الأسد من دون أن يكونَ ردُّ الفعل الإيراني على قدر هذه الضربات التي أصابت الشرايين الحيوية لامتدادات إيديولوجيا الثورة الإيرانية. ويتخوّف الحرس الثوري من الهمس الدائر في الكواليس عن أنَّ الولايات المتحدة قد تطلب تفكيكه أسوةً بتفكيكِ “حزب الله” وفصائل “الحشد الشعبي” العراقية، وأنَّ أيَّ انتهاءٍ لدور الأذرع ودور البرنامج النووي كقوة ردع والبرنامج الصاروخي كقوة توازن سيجعل منه أداة غير فعالة خصوصًا مع العقوبات الصارمة على الشركات التابعة له والتي جعلته ايضًا القوة الضاربة ماليًا من خلال إمساكه بعصب الاقتصاد الإيراني.
لذا إذا أرادت إسرائيل تحريك عملائها داخل الحرس الثوري لتفخيخ المفاوضات لن تنقصها الأدوات لفعل ذلك. وإذا استشعرَ الحرس ضعف الخامنئي أو أنَّ مستقبله كجهازٍ على المحك فلن يتورّع بعض المسؤولين داخله عن قلب الطاولة على الجميع. ومن جهة أخرى يراعي الخامنئي السخط الداخلي المتصاعد من تردّي الأوضاع المعيشية واتساع موجة مؤيدي نزع الحجاب واصطدامهم مع المتشددين وارتفاع أصوات الخصوم السياسيين للحرس الثوري و”الباسيج”، ما يهدد باشتعال الداخل إن لم يُقدّم النظام تنازُلات تُتيحُ له الوصول إلى أصوله المجمّدة في الخارج، وإلى إعادة وصله بالأسواق العالمية لتنفيس الاحتقان الداخلي. ويرى باحثون أنَّ خطرَ انهيار النظام من الداخل على طريقة انهيار النظام السوري احتمالٌ قائم، فيما يرى آخرون أنَّ احتمالات الانهيار وإن كانت قائمة فهي لن تعني سقوط النظام بل سيطرة عسكر الحرس على مقاليد الحكم، على حساب طبقة العمائم، باعتبارهم الكتلة الأكثر صلابة وجهوزية داخل النظام.
وعليه سيترتّب على كلِّ طرف اليوم ضبط قواعده الداخلية وحلفائه لمنع تفجير المفاوضات. فترامب الطامح لنوبل للسلام والطامع بالظفر بالثروات الإيرانية غير المستثمرة والأسواق الواعدة سيكون متريِّثًا جداً قبل الذهاب إلى التصعيد. لذا رمت له إيران ورقة الاتفاق المؤقت باكرًا على الطاولة مقابل رفع بعض العقوبات. المرشد الأعلى يحتاجُ إلى المال لتنفيس الاحتقان الداخلي وبث الروح في مؤسّسات الدولة، وترامب يحتاج إلى القول أنه حقّقَ نصرًا منذ الجولة الأولى. الشيطان دائمًا يكمنُ في التفاصيل، والتعقيدات التقنية الهائلة لهذا الملف قد لا تُحَلّ في 4 سنوات سيقضيها ويتكوف على خط واشنطن- مسقط أو واشنطن-طهران.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة صحافية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية من خلال عملها التلفزيوني في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وهي متخصصة في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة من جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر “Linkedin” على:linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.