لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (50–الأخيرة): “مَدرَسةُ المُواطَنة” للحاكِمِ والمَحكُوم

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

إعلان لبنان الكبير: لم يعثر بعد على النظام الذي يوحده، فهل تكون الفيدرالية هي الحل؟

سليمان الفرزلي*

مئة سنة على “لبنان الكبير”، ولم يُصبِح وطنًا ودولة.

إحدى وثمانونَ سنة من عُمرِ الزمن على الاستقلال، والبلد لم يستقل، تابعٌ من يومه لم يَعرِف معنى السيادة، وحُرِّيتهُ مُنتَكِسة، مغموطُ الحقِّ من كلِّ جانبٍ، لا يعيشُ إلّا بالوصاية الخارجية.

خمسٌ وثلاثون سنة على “اتفاق الطائف”، الذي وَعَدَ بالسلمِ الأهلي وبالدولة، فلا السلم استتب، ولا الدولة قامت، لأنَّ “الطائفَ” كانَ ميثاقَ طوائف، لم يُقدّم البديلَ الصالح، بل أحيى النظامَ الطوائفي الذي أسقطته الحربُ الأهلية.

بلدٌ بعضُ ناسِهِ يُوالونه، وبعضُهم الآخر يعيشون فيه ويوالون غيره. ديموقراطيتهُ نفاقٌ، وبرلمانُهُ ليسَ مَصدَرَ السلطات وصاحب السيادة، فنبتت على حوافيه دُوَيلات، وتشكّلَت مافيات، سرقتهُ وسَرَقَت ناسَهُ.

وقفةٌ وأسئلة:

متى الخروج من دوّامةِ الحربِ الأهليّةِ المُستَدامة، وما نَتَجَ عنها من تفكُّكٍ، وانحلال، وضياعٍ، وانهيارٍ للدولة، وتِيهٍ في المجتمع المُشَلَّع، الذي تتناتشه المليشيات، وما عاد ناسه يتشابهون في أسلوبِ حياتهم، وثقافتهم؟

كيفَ التخلّص من الأنماطِ المُتنازِعةِ المُزَعزِعةِ للاستقرار، منذ صيغة القائمقاميتين في القرن التاسع عشر، إلى التوليفة الطائفية في الطائف في القرن العشرين؟

متى، وكيف، يصبحُ لبنان وطنًا ودولةً مثل أوطانِ ودولِ الناسِ الآخرين؟

“الفيدِرالية”! كفى لفظ الكلمة أمامَ أيِّ سياسيٍّ لبناني حتى تُصبِحَ من الآثمين، وتثورُ في مُخَيَّلته أشباح “التقسيم”، وتُصبِحُ الكلمة من المُنكِرات، والتلاعُباتِ السياسيّةِ الخرقاء.

في هذا يتساوى السياسيون اللبنانيون مع السياسيين الإسبان، الذين رفضوا “الفيدرالية” أو “الاتحاد الفيدِرالي” بعد الحربِ الأهلية، وقيام حُكمٍ ديكتاتوري فاشي قاسٍ بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. وبعدَ تسعةِ عقودٍ منَ الرَفضِ والتحفّظِ عادوا يتلَمَّسونَ خُطاهُم نحوها كمَخرَجٍ حضاري نهائي، من غير أن يسمُّوها باسمها. فالشيءُ الأهم هو الفعل وليسَ الإسم.

لم يلغِ بعضُ اللبنانيين من أذهانهم أنَّ “الفيدِرالية” تَعني التقسيم، الذي يُباعِدُ بينهم ويُقيمُ الأسوار العالية، ويتعامون عن حقيقةِ أنَّ التقسيمَ الفعلي أصبحَ واقعًا لا يُمكِنُ إنكاره، على أعلى درجات السلبية والتنافر.

لا أحدَ من السياسيين يُريدُ أن يُعطي مسألةَ “الفيدرالية” أي فرصة لمناقشتها، أو حتى ذكرها. وأقصى ما يذهبُ إليهِ بعضهم في المُوارَبة، هو طرحُ أسماءٍ بديلةٍ مثل “اللامركزية”، أو “اللامركزية المُوَسَّعة”، كما جرى التداول في الطائف، وهي مُسَمَّيات تلفيقية مثل “التوافقية”، و”الميثاقية”، و “الوحدة الوطنية”، و”التشاور”، و”طاولة الحوار”، وما إلى ذلك من وسائل للانعطافِ عن الحلِّ الذي يؤمِّن الوحدة الحقيقية في الوطن.

حدثَ في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر أن تزامَنَت الحربُ الأهليّة الأولى في جبل لبنان (1860-1864)، مع الحرب الأهلية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية (1861-1865)، لأنَّ الولايات الجنوبية أرادَت الإنفصالَ عن الاتحادِ تحتَ شعارِ “الكونفيدِرالية”. لكنَّ النصرَ في تلك الحربِ المُدَمِّرة حالفَ الدولةَ الفيدِرالية، فبقيت الولايات المتحدة دولةً اتحادية مُتماسِكة ومُتقدِّمة إلى يومنا هذا، والأولى والأقوى في العالم.

أمّا الحَربُ الأهلية في جبل لبنان فانتهَت إلى تقسيمِ الجبل بعدَ تسويةٍ برعايةٍ دوليةٍ أطلقوا عليها اسم “القائمقاميتين”. أي أنَّ لبنان الصغير، آنذاك، صار لبنانَين أصغرَين، وبقيَ مُنقَسِمًا على ذاته بعد تكبيره، بحيثُ أطلق الرئيس صائب سلام بعد “ثورة 1958” شعار “لبنان واحد لا لبنانان”، لشعورِهِ بأنَّ تلك “الثورة”، أو الحرب الأهليّة المُصَغَّرة، تحملُ بذورًا تقسيمية كما قبل مئة سنة في لبنان الصغير.

لكنَّ لبنان الواحد، حسب شعار صائب سلام، بقيَ لبنانَين إلى أن انفجرَ من جديد بعد سنواتٍ في حَربٍ أهليّةٍ مُدَمّرةٍ دامت خمسة عشر عامًا، وما زالت دائرة بطُرُقٍ أُخرى.

إنَّ نظرةً خاطفةً إلى الدولِ الفيدرالية في العالم، تُبَيِّنُ أنَّ النظامَ الفيدرالي كان غلّاَبًا، لأنّهُ أكثرُ النُظُمِ اتحاديةً، وأكثرُها قابلية للتقدّم، خصوصًا في الدول التي شهدت حروبًا أهليةً مُدَمِّرةً بهدف التقسيم، أو عالمية ساعية إلى الهَيمَنة، فكانَ التقسيمُ من نتائجها، كما في الحالة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.

قد يكونُ البروفسور الأميركي مارتن دياموند (1919–1977)، من أشهرِ المُفَكّرين الذين تناولوا الفيدرالية بالبحث، وجَمَعَ محاضراته حولها تحتَ عنوانٍ لخَّصَ ما رمى إليه: “إلى أقصى ما تَسمَحُ به المبادئ الجمهورية”. ومن مآثره الدستورية أيضًا مُطالعتهُ أمامَ اللجنة القضائية الفرعية في مجلس الشيوخ الأميركي، يوم وفاته، ضد المُطالِبين بإلغاءِ “المَجمَعِ الانتخابي” الذي يُقرّرُ تثبيتَ أو رَفضَ المُرَشّح الفائز بانتخابات رئاسة البلاد.

وَصَفَ البروفسور دياموند “الفيدِرالية” بأنّها “مدرسةٌ في المُواطَنةِ للحكّامِ والمَحكُومين”، وأنّها حافظةٌ للحرّيات، وآليةٌ فعّالةٌ للاستجابةِ السريعةِ والمَرِنةِ لحَلِّ المشكلات. وهي نظامٌ سياسي يسمحُ بقَدرٍ كبيرٍ من الحُكمِ الذاتي للأقاليم، ويُشجِّعُ المُنافَسة بينها بما يُشيعُ مناخًا من الابتكارِ والإبداع والتقدّم، بحيث يُحدُّ من توسُّع الإدارة الحكومية المركزية، فتخفُّ النزاعات بين مُكَوِّنات البلاد.

إنَّ الأركانَ الأساسية للنظام ” الفيدِرالي”، تُحقّقُ الاستقرار، والاحترامَ المُطلَق لحُكمِ القانون، ثمَّ إنّهُ لا علاقةَ لهُ بكَيفيّةِ تَحديدِ الأقاليم المتّحدة، فهذه يُمكنُ أن تكونَ بأشكالٍ وأنماطٍ مختلفة. ففي الهند، على سبيل المثال، يُعطي النظام الاتحادي مُقاطعاتٍ مُعَيَّنة، لها خصوصيات ثقافية أو عرقية أو دينية، هامشًا أوسع من الحكم الذاتي، مما يُسَهّلُ استيعابها وتعايشها في إطارِ الاتحاد مع الآخرين بسلامٍ ووئام. وهذا ما حصلَ لمقاطعة “غُووَا” التي كانت تحت الحكمِ البرتغالي.

لا أحدَ يُنكِرُ أنَّ النظامَ الفيدرالي في أحيانٍ كثيرةٍ يولِّدُ بعضَ الحساسيّاتِ المُجتَمعية الناشئة من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي بين المكوّنات، وبين القوى السياسية المُتصارِعة على السلطة، لكنَّ الحالةَ الاتحاديّة الجدّية من شأنها أن تُسَرِّعَ في التقارب وتمنع التنافر. ففي الأصل، ما كانت هناك حاجةٌ إلى النظامِ الاتحادي لولا طبيعة الفروقات العرقية، والثقافية، والدينية، بين مختلف المكوّنات.

لقد أجَمَعَ الدارسون للأوضاعِ الفيدرالية في العالم على أنَّ أصعبَ العقباتِ في وَجهِ الخيارِ الفيدِرالي القراراتُ السياسيّة المُتَّخَذة سابقًا، والمُزَعزِعة لاستقرارِ البلاد إلى درجةِ استحالةِ تصحيحها بالأدوات والأفكار المُسبِّبة لعدم الاستقرار وصولًا إلى الحَربِ الأهليّة.

أمّا العداءُ اللبناني المُتأصّل للفكرة الفيدرالية فلا يعودُ إلى خَلَلٍ في تلك الفكرة الراقية والمُجَرَّبة، بل إلى عُطلٍ في العقلِ الإقطاعي، الطائفي، الميليشياوي، المافيوي، المُتَحَكّم بالشعب اللبناني والمُمسِك بخناقه، وهو عقلٌ يتعيَّش ويرتزق تاريخيًا من تَوليدِ الأزمات واستدراجِ دولٍ خارجيةٍ للتدخّلِ فيها لمنافع ذاتية لا علاقةَ لها بمصير الشعب، ولا تُقيمُ لهُ وَزنًا، بل تستخدمهُ كمجرّد وسيلة، أو كوقودٍ في الحروبِ المُتَجَدّدة، أو كبقرةٍ حلوب تنهبُ جناه إذا جفّت مصادر ارتزاقها الخارجية.

إنَّ الأزمةَ الكبرى التي ضربت الشعب اللبناني في عُمقِ وجودِهِ ومصالحِهِ ومُستقبله، قد تكونُ فرصةً لتغييرٍ جذريٍّ في تركيبةِ النظام، والتخلّصِ من الرواسِب المَقيتة التي جعلت القتلة، والنصّابين، والمُشَعوذين، أوصياءً عليه، ومُستَغِلِّينَ لهُ.

فالشعبُ الذي لا يستطيعُ أن يُحوِّلَ الأزمات الخانقة إلى فُرَصٍ مُنعِشة، لن يكونَ لهُ مستقبلٌ إلّاَ في ماضيه.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى