نفرتيتي أَيقونة الجمال عبر العصور (1 من 2)

نفرتيتي في حفر نافر على جدار

هنري زغيب*

في التقاليد المتوارثة عبر الأَجيال أَنها إِحدى أَجمل النساء في التاريخ، ومن أَكثرهنَّ سُلطةً وتأْثيرًا على الأَقربين منها والأَبعدين. وكثيرًا ما هي مُلهمةُ الشعراء والمسرحيين والرسامين والمؤَلفين الموسيقيين. غير أَن في سيرتها محطاتٍ خفيَّةً لم يكشف عنها التاريخ بعد، وخصوصًا تلك التي كانت وراء إِلهام أَهل الفنون والآداب، و كان لجمالها وتأْثيرها أَثر عليهم، أو أَنَّ كتاباتهم وأَعمالهم عنها جعلت جمالها وسطوتها بهذه الشهرة.

هذا المقال من جزءَين يكشف نفرتيتي في عيون المبدعين عبر التاريخ.

رأْسا نفرتيتي وأَخناتِن (متحف برلين)

من هي؟

كانت نفرتيتي (1370-1330 ق.م.) ملكة مصرية وزوجة الفرعون أَخناتون (1372-1337 ق.م.). عاشت في بلاد غنيةٍ تاريخًا فخمًا وتقاليدَ عريقة. نحو سنة 3150 ق.م. نجح الفرعون القديم مينا في توحيد مصر، فازدهرت تلك البلاد طوال الأَلفيات الثلاث التالية، محافظةً على مصريتها في الأَديان والفنون واللغة والعادات.

لم يكن الفن عُصُورَئذٍ يُعنى بما في حاضرها بل كان يمجِّد من القدَم ما هو خالد. من هنا أَن مواضيعه غالبًا ما كانت لغايات دينية وإِيديولوجية ذات علاقة بمعتقدات تلك الشعوب، فكان الفنانون يعتمدون الملك أَو الفرعون مثالًا أَعلى لهم، فيزيدون من اتساع شرعيته في شعبه. من هنا دوام العبادات المصرية في الفنون عبر السلالات الملكية الفرعونية في التاريخ.

تقاليد مصرية فنية

انطلاقًا من ذاك النهج التقليدي المحافظ، يمكن تَخَيُّلُ ما يضيف الفن إِلى أيِّ وجه مرسوم أو منحوت، لأن هَمَّ الفنان إِبرازُه على أَقصى ما يكون من جمال جاذب، خصوصًا في إِبراز العينين المعبّرين حتى لو كان الوجه مأْخوذًا من ناحية جانبية. ولذا كان الفنانون يكبِّرون قليلًا حجم العينين والحاجب ما يُبْرزُ، أَكثر، مظهرًا فنيًّا عصرذاك لكلمة “الجمال”.

سوى أَن وجوه الملوك أَو الآلهة كانت دومًا ظاهرًا مواجهًا رائيها في كامل تفاصيلها، دون انحناء أَو اتجاه جانبي. وهذا، خصوصًا في النحت، يؤَكِّد على هيبة الأُلوهة.

وإِذ درج المؤَرّخون على فصل السلالات في ما بينها، قسَّموا مصر القديمة إِلى ممالك، مع فترات فاصلة بينها بأَرقام إِيضاحية. هكذا بات لكل سلالة رقم. مثلًا: نفرتيتي أَيقونة الجمال وزوجها الفرعون أمنحوتب الرابع (المعروف لاحقًا بـ”أَخناتون”) عاشا في فترة السلالة الثامنة عشرة التي كانت أَول سلالة في المملكة الجديدة التي عَرفَت مصر إِبانها ذروة ازدهارها.

أوزيريس بين زوجته إيريس وابنه سِتْ

الملكة الساحرة

كانت نفرتيتي ملكة مغلَّفة بالأَسرار حتى غموض السحر. يقال إنها وُلِدَت في عز الحضارة المصرية، فنشأَت في الغنى والترف. معنى اسمها “الجميلةُ جاءت”. والدُها كان الضابط الكبير “رع آي” في الحكْم عهدذاك. وجاء في بعض النصوص التاريخية أَنه أَيضًا عمُّ زوجها، وبذلك كان مربّي ولي العهد الأَمير أمنحوتب الرابع الذي أَصبح لاحقًا فرعون مصر. ولعل “رع آي”، بتلك الصفة وبسُلطته وسَطْوَته، هو الذي جعل ابنته نفرتيتي زوجةً ملكيَّةً بتزويجها من أَمنحوتب، وعند موت زوجها حكَمَت مصر إِلى أَن تولى الحكْمَ الفرعونُ التالي.

إِلى دورها السياسي الرائد، كانت ممثلةً جميعَ نساء مصر لدى الآلهة، حتى أصبحت هي ذاتها من سلالة الأُلُوهة. في البداية حكَمَ أَمنحوتب ونفرتيتي من مدينة طيبة (“مدينة الصولجان”، على طول نهر النيل، نحو 800 كلم جنوبي المتوسط. وفيها اليوم مدينة الأُقْصُر)، ثم حَكَما من مدينة أَخناتِن (“العمارنة” اليوم). ولأَنها كانت في بلاط عالي الازدهار، كانت ذات حكمة سياسية دهياء، تعرف متى تُحني عينيها بأُنوثة، ومتى تحدِّق في عيني محدِّثها، ومتى تنصاع لأَوامر الملك. بذلك هيَّأَت ذاتها لتكون امرأَة قائدة في التاريخ.

حفر نافر: أَخناتِن وزوجته نفرتيتي والبنات الثلاث

الطقوس الدينية

إِبان حُكم أَمنحوتب الرابع، كان الشعب مدركًا أَهميته كقائد أُلُوهي. لذا كان، ككاهن أَكبر، محافظًا على الطقوس الدينية التقليدية التي تراقب النيل في فيضانه وانحساره مع كل موسم. من هنا كانت في السلالة الثامنة عشرة نحو 1000 شخصية أُلُوهية لمراقبة مصر وتأْمين الحياة بعد الموت. ومن هنا ظهور أُوزيريس إِله الموت والحياة والخصوبة، وزوجته إِيزيس إلهة العرش، وابنه هورُس الذي يسمح للفراعنة أَن يدخلوا عالَم الأُلُوهة، وابنه الآخر سِتْ إِله الصحراء. وفي المحفوظات اليوم تمثال مذهَّب يمثل أُوزيريس في الوسط ومعه ابنه هورُس وزوجتُه إِيزيس يمدَّان يدهما نحو أُوزيريس علامة الحفظ والبقاء.

كسْر الموروث والتقاليد

حين تولى العرشَ أَمنحوتب الرابع، كان الإِله “أَمِن” أَقوى الآلهة في طيبة، وورثَ هيكل الكَرْنَك عن أَسلافه الذين أَنشأُوا مقبرة ملَكية في وادي الملوك كي يصِلُوا ملوك السلالة الثامنة عشرة بالإِله أَمِن. لكن أَمنحوتب خالف كل ما قبله، فأَمَر بمحو اسم أَمِن عن جميع المحفورات، وأفرغ الهياكل التقليدية ما ولَّد غضب الكُهَّان. ونقل بلاطه من مدينة طيبة إِلى التي هي اليوم مدينة العمارنة التي سماها في زمانه “أَخْنْ أَتِن”. و”أَتِن” هو قرص الشمس ومذْهب من الإله “رَعْ” مانح الحياة. وهكذا اتخذ الفرعون اسم أخناتِن” أي “أُفْقُ أَتن” مدَّعيًا أَنه وحده نبيُّ الإله “أَتِن” الذي له وحده يكشف هذا الإله عن ذاته.

هذه الظاهرة جعلت الرسامين والنحاتين يمثِّلون إِله أَخناتِن في هيئةٍ لا هي بشرية ولا حيوانية. لذا رسموا قرص الشمس الذي تصدر عنه أشعة تمنح الحياة.

كان ذلك كسرًا نهائيًّا مع التقاليد والطقوس، وتحويل العبادات من قديمها السائد إِلى التعبُّد للعرش، فلم يعُد إِله أَخناتِن يمثِّلُ سلطة الشمس فقط، بل بات إِلهًا حيًّا للسلالة كلِّها.

كيف كانت نفرتيتي ملهمة المبدعين؟

هذا ما أكشفه في الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى