لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (46): حَربٌ على الهواء
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
لم يَجِد اللبنانيون للتعبيرِ عن عشقهم المُزمِن للحرية، ومدى تعلُّقهم بها، نبراسًا وأسلوبَ حياةٍ، سوى “الكلمة”.
و”الكلمة”، صارت جريدة تُلملِمُ في أعمدتها، أفكارهم، قضاياهم، همومهم، اعتراضاتهم، والوسيلة الوحيدة للتعبير عن ليبرالية لبنان، المتنوِّع، والأكثر انفتاحًا على العالم.
ولمّا جارَ عليهم الزمان، وتعرّضوا لصنوفِ القمع، والقهر، والظلم، إن في زمن التسلّطِ العُثماني، أم خلالَ حُكمِ المُفَوَّضِ السامي الفرنسي، كانت الصحافةُ ملاذَهم، وصوتَهم الصارِخ.
في كتابه “الصحافة العربية، نشأتها وتطوّرها”، الصادر في بيروت في العام 1961، خلصَ أديب مروة إلى أنَّ اللبنانيين “امتازوا بين غيرهم من الشعوب العربية، بأنهم كانوا أسبق الجميع إلى نَشرِ الصُحُفِ في بلادهم، لا بل أوّل مَن مارسَ الصحافة مُمارَسَةً فعَّالة، وعلى نطاقٍ شعبيٍّ واسع، إن كان في بلدهم لبنان، أو في سائر البلدان العربية، وشتَّى أصقاع الأرض”.
وكما وَجَدَت الأفكارُ والتيارات الإيديولوجية والفكرية الغربية دَربَها إلى الصحافة اللبنانية فتأثّرت بها، كذلك كانَ الأمرُ مع التيارات والحركات السياسية العربية، فكانَ لها رَجعُ صدى في أعمدة الجرائد، وصفحات المجلات الصادرة في بيروت، التي تحوّلت إلى “مطبعة العرب”، وميدانًا لتصارُعِ أفكارهم.
هذا التجاذُب، العربي والغربي، شكَّلَ رأيًا عامًا لبنانيًا، مُستنيرًا ومُستَوعِبًا للقضايا العربية والدولية، ولم يَكُن ذلك كلّهُ مُمكِنًا لولا الانفتاح اللبناني على حضاراتِ وثقافاتِ الغرب.
إنَّ المَفهومَ التقليدي للصحافة اللبنانية جعلها في نزاعٍ دائمٍ مع السلطة، التي كانت، من حينٍ الى آخر، تُضَيِّقُ عليها هامشَ الحرية، وتعرِّضُها للمضايقات، والملاحقات، لتجد نصيرًا لها بين القيادات الروحية والمدنية، وفي كلِّ مرّةٍ كانت السلطة تتراجَعُ وترضَخ.
مع اشتعالِ لبنان وتَمَدُّدِ القتال، أخذت الصحافة الورقية تُعاني من عَدَمِ التوزيع، وشَحِّ الإعلان، فتراكمت عليها الخسائر المالية. وشيئًا فشيئًا راحت الصحافة المسموعة عبر الأثير، من خلالِ محطّاتٍ إذاعية غير شرعية، تحلُّ مكانها في حياة اللبنانيين، كوسيلةٍ دعائية وتبليغية.
لقد سهَّلَ التطوّرُ التكنولوجي في البثِّ الإذاعي تكاثَرَ تلك الإذاعات، ثم احتدام القتال كان يمنع وصول الصحف المطبوعة إلى الأسواق ومراكز التوزيع، بسببِ تقسيمِ المناطق، وتحكّمِ أزلام الميليشيات بالأرض، ونَصبِ الحواجز الثابتة والطيّارة، إلى جانب القصف العشوائي، والأهم من ذلك، أنَّ تَتَبُّعَ الأخبار باتَ أيسر، بوساطة أجهزة “ترانزستور” التي تُحمَلُ بسهولة، حتى إلى الملاجئ، إضافةً إلى ذلك كله، أن البثَّ الهوائي كان عَصِيَّاً على أيِّ رقابة، شأن وسائل التواصل الإلكترونية في أيامنا هذه.
من بدايةِ الحَرب، راحت الميليشيات المُتحارِبة تتناتش الأثير، لبَثِّ دعواها الحزبية، وتوسيع مداها التحريضي، فنبتت في كلِّ مكان إذاعات غير مرخَّص لها، سحبت البساط من تحت قدمَي الإذاعة اللبنانية الرسمية، التي كانت حتى ذلك الوقت تحتلُّ الهواء بمفردها، لتعود وتنقسم هي الأخرى إلى محطّتين، واحدة تبث من بيروت الغربية، والثانية من بلدة “عمشيت” إلى شرق العاصمة. الأولى تحت رحمة “الحركة الوطنية”، والثانية بإمرة “الجبهة اللبنانية”.
أولى الإذاعات، الخارجة عن الطوق، “صوت لبنان” الناطقة بلسان “حزب الكتائب اللبنانية”، هي أول مولودٍ غير شرعي في رحم الحرب الأهلية. واللبنانيون عرفوا هذه الإذاعة من قبل، خلال الصيف الدامي في العام 1958، لكنها ما لبثت أن توقّفت عن البث بعد استتباب الأمور بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، ومشاركة “حزب الكتائب”، الناطقة باسمه، في السلطة الجديدة بعد “الثورة”. وإذا كان شغلها الشاغل في العام 1958، مهاجمة جمال عبد الناصر (رئيس “الجمهورية العربية المتحدة” التي ضمت مصر وسوريا في دولة واحدة)، والحاكم بأمره في دمشق عبد الحميد السرَّاج، باعتباره المُكَلَّف تحريك الاضطرابات في لبنان، من طريق إمداد القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون بالسلاح والعتاد والمال (راجع الفصل بعنوان “حمير السرَّاج”)، فإنّها في سنة 1975 بدت أكثر رصانة وحرفية في تناول الحرب، وفي هجومها على الفلسطينيين والحركة الوطنية.
لم تبقَ إذاعة صوت لبنان وحيدة في الميدان، فسمع اللبنانيون صوتًا آخر هو “صوت لبنان العربي”، إذاعة “حركة الناصريين المستقلين”( المرابطون)، كانت تبثُّ من غرفةٍ صغيرة في مقر تلك الحركة من بيروت الغربية، وأيضًا “صوت لبنان الحر” (القوات اللبنانية)، “صوت الجبل” (الحزب التقدمي الاشتراكي)، “صوت الشعب” (الحزب الشيوعي اللبناني)، “صوت لبنان الموحَّد” (حركة المردة التابعة لآل فرنجية في زغرتا).
من الملامح التي رافقت بعض تلك الإذاعات من العام 1978 وما بعد، أنها كانت عشوائية، وتبدَّلت صيغها ومساراتها، خصوصًا بين القوى المسيحية، عندما بان خطُّ الانفصال واضحًا بين “القوات اللبنانية” وبين “حزب الكتائب” الذي وُلِدَت في رحمه، وتمايزت عنه عندما اشتدَّ ساعدها، فانطلقت في الهواء إذاعتان متنافستان في اتجاه واحد: “صوت لبنان” لحزب الكتائب، وهي لسانه الأصلي منذ 1958، كما مرَّ، و”صوت لبنان الحر” للقوات اللبنانية الوليدة. أما إذاعة “صوت لبنان الموحد” الناطقة بلسان “المردة” في الشمال، فكانت في البداية تدين بالولاء ل”الجبهة اللبنانية” (التي كانت الداعم الأساسي للرئيس سليمان فرنجية خلال الحرب) لكنها انقلبت عليها بعد “مجزرة إهدن” التي ذهب ضحيتها طوني فرنجية، الوزير السابق ونجل رئيس الجمهورية، ومعه زوجته وابنته وبعض أتباعه.
كانت لتلك الإذاعات، على بدائيتها، في مرحلة نشوئها، مهمّة أساسية، هي المرافقة الميدانية للمقاتلين وراء متاريسهم. لكنها مع الوقت، وامتداد رقعة الحرب، اتخذت لنفسها مهمّاتٍ أخرى، منها: تعبئة الناس، والحقن السياسي والطائفي، تبعًا لمُقتضى التطوّرات، وبث الدعايات الحزبية (البروباغاندا)، والنيل من الخصوم بإبطالِ حججهم على الملأ.
أما البثُّ التلفزيوني، فإنه انتظرَ نهايةَ الحرب، وتحديدًا بعد “اتفاق الطائف”. وقد حاولَ رئيس الحكومة المغدور رفيق الحريري في العام 1994 تنظيم الإعلام، بحَصرِ وسائله في إطارٍ قانونيٍّ ضيِّق، تسهيلًا لسيطرة الدولة عليه، خصوصًا التلفزيون الرسمي الذي كان مُزدهرًا قبل الحرب، وكان من أبرز ضحاياها. لكن تلك المحاولة لم تنجح، لأنها لقيت معارضة واسعة من فئاتٍ سياسية مختلفة، حيث اعتبرها بعضهم من قبيل تقييد الحريات، وتحويل النظام السياسي اللبناني إلى نظامٍ فرديٍّ سلطوي.
كانت تلك أوّل محاولة في بلد عربي تهدف إلى تنظيم قطاع البث الخاص من خلال “قانون المرئي والمسموع”. بيد أنَّ تطبيقَ هذا القانون اصطدم بمخاوف سياسية من توزيع المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية على أساسٍ مذهبي، (على قاعدة 6 و6 مكرر السائدة قبل “الطائف”)، كما إِنَّ أحكامَ ذلك القانون تجاهلت الظروف الاقتصادية للبث، فلم تأخُذ في الاعتبار السوق الإعلانية اللبنانية.
ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ التخبُّطَ المانع لوضعِ قانونٍ عصريٍّ جديدٍ للإعلام في لبنان، يأخذُ بالاعتبار المُستَجدّات التكنولوجية الوافدة مع الوسائل الرقمية، هو نتيجةٌ من نتائجِ الحرب الأهلية من حيثُ انقسامِ وتعارُضِ التوجّهات السياسية في “حربٍ أهليِّةٍ باردة”. فقد جرت محاولاتٌ أخرى، بعد فشل محاولة رفيق الحريري، لكنها أيضًا باءت بالفشل.
في حزيران (يونيو) من العام 2010، كاد مجلس النواب أن يصوِّتَ على مشروع “قانون تكنولوجيا المعلومات الجديد” في لبنان الذي يُنظّمُ المعاملات الإلكترونية عبر الإنتِرنِت، وهو مشروعٌ يفرضُ قيودًا شديدة على حقوق المواطنين، والشركات المدنية، وينتقص من حقّهم في الخصوصية، عَبرَ مَنحِ الحكومة صلاحياتٍ واسعة للمراقبة، بل يقضي على حرية الصحافة في الإعلام الرقمي. لكنَّ القانونَ لقيَ مُعارضةً شديدةً من القطاع الخاص، والهيئات الاقتصادية، ومنظّمات المجتمع المدني، فانضمَّ إلى أقرانه السابقين في الجارور العميق لمجلس النواب.
إنَّ لبنان يتّجهُ حاليًا نحوَ نوعٍ من الاستقطابية التي من شأنها أن تقضي على الحرية، أحد مُبَرِّرات وجود لبنان. وهذه الحالة المُستَجِدّة تُننبئُ بأنَّ الصراعَ الأهلي ما زالَ مُستَمِرًا بطُرُقٍ أُخرى.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.