لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (30): الشَريكُ المُضارِب!
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
قَطَعَ الإنزالُ العسكري الأميركي للقوات البحرية (مارينز)، على الشاطئ، جنوب بيروت، قُبَيلَ الانقلابِ الذي أطاحَ المَلَكِيِّة في العراق، مساعي نور السعيد مع السفير جايمس ريتشارد، المبعوث الأميركي إلى الشرق الاوسط، لحَملِ واشنطن على الدفاعِ عن استقلال لبنان في وَجهِ الهجمة الناصرية وعدم سقوط حكم الرئيس كميل شمعون، كما ذَكَرَ والدمار غالمان، سفير الولايات المتحدة لدى بغداد، في كتابه “عراق نوري السعيد: انطباعاتي عن نوري السعيد بين 1954- 1958″، ( صدرت طبعته الأولى المترجمة إلى العربية سنة 1965)، فكتب عن نوري السعيد ولبنان: “لم يَبرُز لبنان في أحاديثي مع نوري السعيد كبُروزِ الموضوع السوري. لكن من بداية ربيع 1958 صار يَتَطَرَّقُ لموضوعِ لبنان أكثر فأكثر. فعِندَ قيام “الجمهورية العربية المتحدة” في مطلع 1958، تزايدت نسبةُ الضغطِ اليساري على لبنان، بل وحتّى التسلّل السوري إلى الأراضي اللبنانية، وتتالى الضغطُ حتى مُنتَصف الصيف، ولم يَعُد ضغطًا مُقتَصِرًا على الحكومة اللبنانية، بل بدا أنَّ استقلالَ لبنان نفسه باتَ مُهَدَّدًا، وكان نوري السعيد يُراقِبُ الأحداثَ اللبنانية بقلق، فوقوع الفوضى في لبنان سيُحدِثُ انعكاساتٍ لا في العراق فحسب، بل في الأردن أيضًا، شريك العراق في “الاتحاد العربي” (الهاشمي)”.
ومضى السفير الأميركي خلال تلك الفترة التي عاصرها يقول: “في 21 أيار/مايو (1958) طلبَ نوري السعيد أنْ يراني على الفور، فقالَ إنَّ استمرارَ الاضطرابات في لبنان يُزعِجه كثيرًا، ويبدو له أنَّ هذا النهج سيكونُ مُقدّمة لتدخّلٍ عسكري. وبدا لنوري السعيد كأنَّ شمعون سيخسر ليخلفه اللواء فؤاد شهاب، وهو (أي نوري السعيد) يعرفُ شمعون جيدًا ويثقُ به، وكان يخشى من وقوعِ لبنان في أحضان عبد الناصر إذا لم يَصمُد شمعون. وقال إذا استنجَدَ الرئيس اللبناني بمجلس الأمن، فإن الاتحاد العربي سوف يُؤيّده، وإذا تطلَّبَ الأمرُ تدخُّل الولايات المتحدة وبريطانيا عسكريًا، فإنَّ “الاتحاد العربي” سوف يُؤيّدُ ذلك أيضًا، شرط عدم إشراك فرنسا”.
كان التدويلُ الأوّل في لبنان هو الاستقلال اللبناني، الذي تمَّ على يد بريطانيا مُمثَّلةً بالجنرال إدوارد سبيرز، وهو مَنْ قام بتركيبِ التشكيلة الاستقلالية الأولى. ومع أنَّ هذه التركيبة اهتزَّت، باستقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية، تحتَ الضغط الشعبي، فإنها لم تغبْ عن الصورة تمامًا في اضطرابات 1958، التي أدّت إلى التدويل الثاني على يد الولايات المتحدة بالشراكة مع طَرَفٍ عربي هو “الجمهورية العربية المتحدة” بقيادة جمال عبد الناصر.
ولم يكن غائبًا عن ذهن نوري السعيد ضرورة وجود شريك عربي في عملية التدويل اللبناني (غير احتمال لجوء الرئيس كميل شمعون إلى مجلس الأمن)، عندما اقترح على السفير الأميركي في بغداد (قبل أسابيع قليلة من الثورة العراقية التي أطاحته ولقي حتفه فيها على أيدي الجماهير الغاضبة، فمات شرَّ ميتة)، بأن يجري التدويل اللبناني على يد أميركا وبريطانيا، مع “الاتحاد الهاشمي” كشريكٍ عربي، واستبعاد فرنسا من المعادلة جُملةً وتفصيلًا.
طبعًا، استبعادُ فرنسا ليس مشكلةً بالنسبة إلى الأميركيين، لكنه يُزعِجُ فئةً واسعة من اللبنانيين تطبَّعَت طويلًا على الثقافة والعادات الفرنسية. لكنَّ السفيرَ الأميركي في بغداد ربما انزَعَجَ من اقتراحِ نوري السعيد إشراك بريطانيا في العملية، باعتبارِ ذلك مؤشِّرًا إلى عدم الثقة بالولايات المتحدة. ولم يَعِش نوري السعيد ليرى نتائج تقرير السفير الأميركي لدى صانعي القرار في واشنطن، لأنَّ تلك النتائج سبقته.
لكن الولايات المتحدة، عادت إلى مشاركة فرنسا في التفاهم الذي جرى بين الرئيسَين جورج بوش الإبن وجاك شيراك، في نورماندي العام 2004، على هامش الاحتفالات بالذكرى الستين للنصر في الحرب العالمية الثانية. وهذه المشاركة الأميركية–الفرنسية، التي عاد فيها التفاهم بين واشنطن وباريس، بشأن العراق، نتجت عنها نتائج خطيرة في لبنان ما زالت تُجَرجِرُ أذيالها على مدى سنوات، بالنظر الى العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بين الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، الذي استقال وتخلَّى عن رئاسة الحكومة، ربما لخشيته من تأثيرِ تفاهم نورماندي على لبنان، فأرادَ أن يُحَيِّدَ نفسه والبلاد في تلك المرحلة. لكن الحريري، مثل نوري السعيد، لم يعش ليرى نتائج ذلك التفاهم.
ومُنذُ ذلك الوقت ظَلَّت الولايات المتحدة تَعتَمِدُ فرنسا شريكًا مُضارِبًا لها في لبنان (أو ربما شريكًا ثانويًا)، وذلك خلافًا لما أوصى به نوري السعيد السفير الأميركي في بغداد بضرورةِ استبعاد فرنسا من المُعادَلة كُلّيًا. فعندما جرى احتجازُ رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، عام 2017 في المملكة السعودية، وأُجبِرَ على تقديم استقالته على الهواء مباشرةً من الرياض، اتَّخَذَ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون مَوقِفًا لا هوادة فيه، برفضه تلك الاستقالة من بلدٍ غير بلده، وخلافًا للأعرافِ القانونية اللبنانية، باعتبارِ أنَّ ذلك يمسُّ بالسيادة الوطنية، فظَهَرَ على مسرح تلك القضية فجأةً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وذهبَ إلى الرياض من أجلِ إطلاقِ سراح الحريري تحت ذريعة دعوته إلى الغداء مع عائلته في قصر الإِلِيزيه، فتوجّهَ الرئيسُ الطليق إلى باريس قبل العودة إلى بلاده. وهكذا حُرِمَ رئيس الجمهورية اللبنانية، المعنيُّ الأوّل بالأمر، من أيِّ فضلٍ له في إطلاق رئيس حكومته المُحتَجَز في بلدٍ آخر، وتجييره إلى رئيسِ دولةٍ أجنبية لمجرّد أنّهُ شريكٌ ثانوي في التدويل اللبناني يفعلُ مشيئةَ الولايات المتحدة.
وكان التدويل اللبناني قبل ذلك اتّخَذَ شكل التفويض الكامل للمملكة العربية السعودية لجَمعِ السياسيين اللبنانيين في الطائف (بموافقة سوريا) لتوضيبِ تفاهُمٍ ما بينهم من أجلِ وَضعِ نهايةٍ للحرب الأهلية بوجهِها العسكري.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com