“حماس” تَستَعِدُّ لِما بَعدَ السنّوار

محمّد قوّاص*

لن تَظهَرَ أعراضُ “اليوم التالي” للحرب في غزّة قبلَ أن يُعلَنَ عن وَقفٍ نهائي لإطلاقِ النار يَضَعُ حدًّا للكارثةِ التي يَعيشُها القطاع منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ووفق حسابات الأرباح والخسائر وما سينتج من توازناتٍ سياسية، يُمكِنُ لأصحابِ الخطط الدولية الكبرى أن يَنكَبّوا على الخرائط لكتابةِ التاريخ. قبل ذلك، لا أحد في غرب الأرض وشرقها، ولا أحد داخل البيتَين، العربي والفلسطيني، غامَرَ بتقديم مسوّدةٍ لتبيانِ كَيفَ ستُحكَمُ غزّة وكيف ستكون عليه مآلات المسألة الفلسطينية برمّتها.

خسائرُ غزّة والغزيين هائلة وأشدّ قسوةً من “نكبة” العام 1948. بدا، حتى الآن، أنَّ حسابات الكبار ومقاومة عواصم المنطقة أنقذت أهل القطاع من هجرةٍ جماعية شاملة قسرية باتجاه سيناء في مصر ومنها إلى بلدان الدنيا. بدا أيضًا أنَّ على مَن يُريدُ إعادة رسم المشهد السياسي للقطاع أن يرسمه بغَزِّييه، وأنَّ جهودَ العالم تتطوّر لإغاثة المنكوبين جوًّا إذا ما تعذرّت طرق البحر والبر من أجل ذلك. وما دامَ حُلمُ إسرائيل يتبدّد بإقامة منتجعاتها في غزّة، وما دام أهل غزّة باقين في قطاعهم، فإنَّ أكثر سؤالٍ غامضٍ هو: ماذا عن اليوم التالي؟

وفق المُعلَن في خطط إسرائيل، خصوصًا إذا ما تمّت “حملة رفح”، أنَّ لا مُستقبلَ لحركة “حماس” في غزّة. ولئن تقاوِمُ واشنطن وحلفاؤها المنحى العدمي لحكومة بنيامين نتنياهو للقضاء على يحيى السنّوار، زعيم الحركة في القطاع، وكتائب القسام التابعة، فإنَّ الأرجح أنَّ فكرة “لا حماس” في غزة بعد الحرب تحظى بشبهِ إجماعٍ إقليمي-دولي عام. ويذهب الرئيس الإسرائيلي يتسحق هرتسوغ، الثلثاء، بدقّةٍ أكبر في الدعوة إلى التخلص من السنّوار حيًّا أو ميتًا، فـ”كل شيءٍ يبدأ وينتهي مع يحيى السنوار”، بحسب قوله. أدركت قيادات “حماس” في الخارج هذه “المسلّمة” وباتت تستعد لتموضعٍ جديد يمنع إخراج الحركة من كلِّ المعادلات.

يتحدّثُ كثيرٌ من التقارير عن ضغوطٍ تُمارَسُ على تركيا وقطر لطَردِ شخصياتِ الحركة القيادية من البلدين. باشرت أنقرة شيئًا من هذا القبيل، ونشرت الصحافة العالمية الكثير عن ضغوطٍ أميركية على الدوحة بهذا الاتجاه، وأوردت استعداد القيادة القطرية للأمر. ووسط هذه الأجواء تَروجُ سيناريوات بشأنِ ملاذاتِ الحركة المُحتمَلة بما في ذلك لبنان. وإذا ما سالَ حبرٌ كثير بشأن غموض العلاقة بين قيادة “حماس” في الخارج وقيادة السنّوار في الداخل، فإنَّ “قيادة الدوحة” وامتداداتها في بيروت تستعد لدورٍ تستعيدُ فيه قرار الحركة من دون منافس.

وفق هذا السياق، تقرأ “حماس” لقاءات قياداتها السياسية مع عواصم وازنة مثل موسكو وبكين. في 17 الشهر الجاري التقى سفير إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا التابعة لوزارة الخارجية الصينية، وانغ كيجيان، رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، في الدوحة، في أول لقاءٍ مُعترَف به علنًا بين مسؤولين من الصين ومسؤول من “حماس”. تقصّدت بكين أن يكونَ لقاء موفدها “حماس” جُزءًا من جولةٍ إقليمية قامَ بها شملت مصر وإسرائيل وقطر والسلطة الفلسطينية. نقل بيان “حماس” عن الديبلوماسي الصيني تشديده على أنَّ الحركة “جُزءٌ من النسيج الوطني الفلسطيني”، وتحرص بكين على العلاقة معها.

قبل ذلك كانت روسيا استقبلت وفدًا للحركة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بعد أقل من 3 أسابيع على عملية “طوفان الأقصى”. وأعادت استقبال وفد في 19 كانون الثاني (يناير) الماضي ثم في شباط (فبراير) في عداد الفصائل الفلسطينية التي التقت في موسكو في أواخر ذلك الشهر.

تسعى “حماس” للتدثّر بغطاء دول كبرى، مثل روسيا والصين، تملك حقّ النقض في مجلس الأمن، من أجل شرعيةٍ تَنزَعُ عنها سيفَ إدراجها على لوائح إرهابٍ توسّعَ اعتمادها بعد عملية “طوفان الأقصى”. فإذا ما ضغطت المنظومة الغربية بكلِّ أدواتها لإخراج الحركة من التداول، فإن التمرين لن يحظى بأرضيةٍ أُمَمية وسيبقى لهنيّة وحركته هامشٌ للمناورة داخل أعطال النظام الدولي الراهن.

تتموضَعُ “حماس” ضمن اصطفافٍ يجعلها داخل تحالف إيران والصين وروسيا وبقيّة الدوائر المُعادية للغرب أو حتّى الساعية داخل “دول الجنوب” لأخذِ مسافةٍ من واشنطن وحلفائها. وإذا ما زار هنيّة إيران في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وسمع تأنيبًا من المرشد علي خامنئي بشأن قيام “القسّام” بعمليته من دونِ إبلاغ طهران ومحورها، فإنَّ هنيّة الذي بدأ زيارة جديدة لإيران، الثلثاء، يأتي مُستَطلعًا وظيفة حركته ومكانتها داخل المشهد الإيراني الإقليمي والدولي.

لم تستطع المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة أن تفرضَ على العالم ودول المنطقة، بما فيها إسرائيل، مشهدًا نهائيًا لـ”اليوم التالي” لحرب غزّة. خُيِّلَ أنَّ ملفَّ غزّة قد سُحب من أيدي إيران وبات مصير القطاع رهن مفاوضات تجري في القاهرة والدوحة من دون أن يكون لطهران دورٌ يُستَأنَس به. حرّكت طهران جبهة جنوب لبنان والبحر الأحمر وأسكتت جبهة العراق بانتظار نضوج توقيتٍ يُعيدُها إلى ملفِّ “اليوم التالي”. بدا أن في زيارة هنيّة لطهران ما يُنعِشُ طموحات إيران في لعبِ دورٍ ما في مصيرِ القطاع وامتداداته الفلسطينية. قالت وكالة الأنباء الإيرانية، إنَّ هنية “قدّم تقريرًا إلى المرشد عن آخر التطوّرات الميدانية والسياسية لحرب غزة”. وبدا أن “حماس” تتحرّى في طهران وبالتواصل مع موسكو وبكين عودةً بشكلٍ ما لتكون حاضرة في مرحلة ما بَعدَ السنّوار.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى