أَكروبوليس أَثينا: هيبة، عبادات، حُضُور (2 من 2)
هنري زغيب*
ذكرتُ في الجزء الأَول من هذا المقال أَننا لا نزال حتى اليوم نبحث في التاريخ عن معالِم خالدة في التاريخ الديني والدنيوي مدى العصور القديمة. ومن تلك المعالِم الخالدة أكروبوليس أثينا الذي ما زال، منذ عصور وعقود، يجتذب السياح لِما فيه من جمالات في بنائه وهيئته وهيبَته الساطعة على تلك التلة فوق أَثينا العاصمة. وعددتُ في الجزء الأول ما كان له من أثر في التاريخ.
في هذا الجزء الثاني أُكمل ما لدى الأَكروبوليس من عناصر جذب سياحي.
معنى “أَكروبوليس”
يفسِّر المعنيون اسم أَكروبوليس بأَنه يعني “مدينة في الهواء” وليس تَصَوُّرُ المعنى بعيدًا، لأَن هذا المجمَّع يبدو من البعيد على تلك التلة كأَنه طائرٌ في الفضاء يجثُم فوق المدينة. وللتسمية معنى آخر: “المدينة العالية” أَو “مدينة الطَرَف” (والطَرَف هنا يمكن أَن يعني الطرف الأَقصى الأُفقي كما أَعلى الطرف العالي العمودي). من هنا أَن الكلمة، لغةً، عدا معناها الأَكروبوليسي اليوناني القديم، باتت تُستخدَم لاحقًا – حتى اليوم في جميع بلدان العالم – للدلالة على مجمَّعات سكنية أَثرية مبنيَّة على مسطَّحات عالية أَو على تلال وقمم والأُوكسيجين قد يخفُّ في تلك العلْوات، وهذا ما عانى منه سكان الأَكروبوليس سابقًا ويعاني منه سكَّان المجمَّعات السكنية العالية حاليًّا في حياتهم اليومية.
تلَف أَجزاء من الأَكروبوليس بإِصابات مدفعية
قد يفاجأُ القارئُ بأَن هذا المجمَّع يمكن أَن يهدمَه كليًّا أَو جزئيًّا أَيُّ مدفع. لكنَّ هذا الأَمر الفاجع حصل فعلًا للأَكروبوليس. فسنة 1678 أَصابته كرة مدفع إِبان هجوم جيش البندقية على المدينة لحصارها. ولاحقًا أُعيد ترميمُ النواحي المهدَّمة منه، وخصوصًا معبد البارثنون الذي فيه كانت مخزَّنة مؤُونةُ الذخيرة القابلة للانفجار. ثم تعرَّض الأَكروبوليس من جديد للدمار حين هدم الأَتراك معبد أَثينا (إِلهة الحكمة والحرب) ونايْكْ (إِلهة النجاح)، لاستعماله مخْزنًا لذخيرة المدافع.
جعْل البارثنون على اسم الإِلهة أثينا
في الميثولوجيا اليونانية أَن أَثينا صبية عذراء كان يقدّسها الأَثينيون. وكلمة بارثنون تعني “منزل الصبية العذراء”. وكان عليهم أَن يعبدوها ويرفعوا لها الطقوس لأَنها كانت لهم إِلهة الحكمة والذكاء العسكري في التخطيط الحربي. وكان هذا سائدًا لدى الإِغريق بأَن يعبدوا آلهةً وإِلهات للجمال الجسدي والذكاء في منْح اللذة، والقيَم الدينية. من هنا أَن الأَثينيين، قبل ذهابهم إِلى معارك الحروب، كانوا يرفعون الصلوات للإِلهة أَثينا لتمنحَهم القوة والقدرة على الانتصار في ساحات المعارك.
رواق المدخل لم يُنْجَزْ بناؤُه
من المستغرب أَنْ لم يتم، حتى اليوم، إِنجاز رُواق المدخل إِلى الأَكروبوليس، وهو يبدأُ بدرج يعلو حتى الدخول إِلى قلب آثار الأَكروبوليس. وهو، قياسًا على التكاليف اليوم، يبلغ رقمًا عاليًا جدًّا (ملايين الدولارات) كي يتم إِنجازه كما في أَصل التصميم القديم. وأَكثر: لم يتمَّ، حتى اليوم كذلك، احترام هذا الرواق من حيث تجهيزه ولو بصورة أَولية. ويرجِّح المؤَرخون المعمِّقون أَن سبب عدم اكتماله هو نشوب الحرب البيلوبونيزيَّة الشرسة بين أَثينا وسبارطة (431 إِلى 405 ق.م.) وهي التي كان النصر الأَخير فيها لسْبارطة فأَمست أَقوى مدينة في عصرها. ولكن، حتى بعد انتهاء تلك الحرب، لم يعُد أَحد يهتمُّ بإِنجاز بناء ذاك الرواق.
أَكروبوليس أَثينا ليس الفريد من نوعه
في الكلام الفخم عن الأَكروبوليس، قد يظنُّ البعض أَنه فريد من نوعه وهَيبَته وفخامته في العالم. ففي اليونان القديمة عدد مماثل من المجمَّعات في العصور السالفة. ولا دليل تاريخيًّا ثابتًا على كون تلك المجمّعات بُنِيَت لأَغراض دينية أَو عسكرية أَو جميعها معًا.
فثمة أَكروبوليس كورنثيا، في الجنوب الأَوسط من اليونان. وهو يقوم هلى هضبة ترتفع نحو 575 مترًا، وكان في القديم معبدَ أَفروديت إِلهة الحب والخصوبة والجمال. وكان برزخ كورنثيا موطئَ بوزيــيــيدون، إِله البحر والأَنواء والزلازل، فيما الأَكروبوليس كان موطئ هيليوس إِله الشمس.
وفي جزيرة رودس (أَوسع جزُر اليونان) مجمَّعات مشابهة، حتى أَن مؤَرخي الحقبات القديمة يرجِّحون أَنْ كان لكل مدينة إِغريقية كبرى أَكروبوليسُها. لكن أَكروبوليس أَثينا يبقى الأَجمل والأَفخم، يقصده سنويًا نحو مليون سائح وزائر، وبذا هو أَبرز المعالم الأَثرية في اليونان، يذوق زائرُهُ، استعاديًّا، ما كان له من هيبة وحضور تاريخي عظيم في ذاك الزمن القديم، خصوصًا لجهة العبادات التي وصلتْنا من أَساطير الميثولوجيا اليونانية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.